ملاحظات المحرر: يسعدنا أن نقدم كتابنا “ سَيْرورَة المقاومة: الشمولية والتعدي على الفنون في السودان خلال ثلاثين عاماً من حكم الإسلاميين " بقلم ربى الملك وريم عباس. أدناه نشارككم فصل المقدمة لعرض الفكرة العامة للكتاب. سيقام حفل تدشين الكتاب في حديقة أندريا بالمنشية. تابعوا صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة المزيد و حضور التدشين
**
عندما يُحظر الفن: استكشاف تأثير قمع الفن بين 1989 إلى 1994 على الحاضر
في ديسمبر 2018، انطلقت شرارة الاحتجاجات ضد حكم الحزب الإسلامي (حزب المؤتمر الوطني) والتي سرعان ما تعاظمت إلى ثورةٍ شعبية قاعدية أطاحت بالنظام في أبريل 2019؛ أي قبل شهرين فقط من الذكرى الثلاثين لانقلاب الإسلاميين واستيلائهم على السلطة. كان الفن حاضراً وملهماً للثورة، وخلال الأربعة أشهر التي سبقت تشكيل الحكومة الانتقالية في أغسطس 2019؛ انخرط مغنو الراب والفنانون السودانيون في إنتاج أغانٍ ألهمت الثوار، واستخدمت كشعارات خلال المظاهرات والمواكب، فيما وظّف فنانو الجرافيتي الجداريات وفن الشوارع في التوثيق للاحتجاجات ونشر المعلومات.
كُتِب كل بيان لتجمع المهنيين السودانيين (جسم تَشَكّل من مجموعة نقابات مهنية، وعمل على الدعوة للثورة وتنظيم الاحتجاجات حتى سقوط الحكومة) بلغةٍ ممزوجة بالشعر والكتابة الرشيقة. حيث احتفت البيانات بالأغاني الوطنية، واقتبست الشعر الثوري المقاوم، مما ألهب الاحتجاجات. وفي وقت لاحق، تعرض تجمع المهنيين إلى النقد بسبب اعتماده اللغة الفصحى النخبوية، الأمر الذي دفعه لاستخدام لغة "الراندوك" (لغة شوارع عامية تخلقت في أطراف مدينة الخرطوم). تواجد الفنانون في القلب النابض للتظاهرات، وبادر الكثيرون منهم بإلغاء حفلات رأس السنة، تضامناً مع الاحتجاجات وحداداً على الأرواح التي فقدت خلالها. وكانوا يدسون الشعارات المناهضة للسلطة، خلال أدائهم للأغنيات.
في أبريل 2019، وصلت مسيرات قوامها الملايين إلى مقر الجيش في الخرطوم وإلى الوحدات العسكرية في المدن الأخرى، تحولت المسيرة إلى اعتصام استمر لشهرين، وهو ما صار أكبر مهرجان للفنون في السودان. رسم الفنانون على أغلب جدران أرض الاعتصام، وامتد عملهم ليشمل رسم جداريات ثورية في أحياء مختلفة، بينما نظم الموسيقيون الحفلات، جنباً إلى جنب مع القراءات الشعرية والعروض المسرحية، والأفلام الوثائقية التي كانت ممنوعة من العرض في وقت سابق. وانتشرت الفنون المنتجة خلال الثورة كالنار على الهشيم، وغُطِيت إعلامياً من قبل صحافيون أجانب توافدوا إلى الخرطوم. لكن برغم ذلك، فإن ذلك السرد دائماً ما كان يفتقد إلى التناول التاريخي للكيفية التي تخلقت بها هذه الفنون.
وفي سعينا لفهم طبيعة وتاريخ تطور الفن الثوري، فمن الضروري التنقيب في تاريخ السودان المعاصر، حيث تغذي الفن في السودان على ثورات عديدة؛ في أعوام 1964، 1985 و 2018 /2019. ولطالما عرف الفن بكونه ثورياً، ونتاج مقاومة ونضال ضد الديكتاتوريات، واحتفاء بالحرية والنضال الشعبي، وذلك لأن الديكتاتوريات العسكرية حكمت البلاد منذ فجر الاستقلال، باستثناء نفحات قصيرة من الديمقراطية.
ولفهم سياق الفن الثوري الذي تخلق وتعاطى معه الناس خلال ثورة 2018، فإننا نقرأ تاريخ السودان الحديث بعدسة تنظر بإيجاز إلى الثمانينيات المضطربة سياسياً، والتعمق في الكيفية التي مورست بها الرقابة على الثقافة والفنون خلال فترة التسعينات القاتمة؛ بعد انقلاب 1989. حيث تعرض المشهد الفني والثقافي بأكمله في تلك الفترة لهجمة عنيفة؛ اعتقل الفنانون، وتعرضوا للفصل من العمل والترهيب، وكانت البنية التحتية التي احتضنت هذا المشهد الأكثر معاناة، وهو ما يأمل هذا الكتاب في استكشافه.
مكتبة في مدني. المصدر: أندريا
المشهد الفني في الثمانينات
اتسم عقد الثمانينات مضطرباً، وهو ذا إسهام كبير في تحديد تاريخ السودان الحديث. ففي العام 1969 نفذ الضابط اليساري الشاب، جعفر نميري، انقلاباً عسكرياً بدعمٍ من فصيل في الحزب الشيوعي السوداني، لكن نميري ما برح أن اختلف مع الشيوعيين واتخذ خطوة إعدام 12 عضواً من قادته، في يوليو 1971، لكن برغم ذلك فإن حكم نميري استمر في استمداد أفكاره من اليسار.
وما يزال نميري نقطة خلاف بين المثقفين، فهم يمغتونه كدكتاتور ولكنهم يقدرون دوره في تقديم الدعم المادي في سبيل إثراء الفن في السودان. وكان نميري قد استدعى، منذ الوهلة الأولى، موظفو تكنوقراط وفاعلين ثقافيين إلى مؤسسات الدولة المختلفة مثل علي المك، ومحمد عبد الحي، وغيرهم من الذين اشتغلوا فيما عرف بمصلحة الثقافة، حيث دُمج المثقفون في مؤسسات الخدمة المدنية في عهده.
مولت الدولة المهرجانات والفعاليات الثقافية، وكان نميري حريصاً على استصحاب فرقة موسيقى الجاز "النجوم الزرقاء" في زياراته الخارجية، حيث روجت للموسيقى السودانية من خلال حفلاتها المقامة في الخارج. وتمثلت إحدى الأدوات التي استخدمها نميري في إدخال الفنون إلى فضاء العمل السياسي؛ ومن المعروف أن نظام مايو امتلك منصات ثقافية وفرقة، وأغانٍ وزعت وبثت في جميع أرجاء البلاد. بالإضافة إلى ذلك، فإن الثقافة شكلت قلباً نابضاً للنظام السياسي، لذلك نجد أنه قد تمت الإشارة إلى الثقافة بصورة خاصة في اتفاقية أديس أبابا للسلام (1972) والتي وضعت حداً للحرب الأهلية الأولى في السودان. وضعت مجموعة الأنيانيا (التي قدمت نفسها كحركة تحرير، رفعت السلاح ضد الحكومة المركزية منذ الخمسينات) الثقافة محوراً خلافياً، حيث عارضت دعم الثقافة العربية الإسلامية فقط، وأرادت أن تقدم الحكومة سياسات ثقافية تحترم التنوع الديني والثقافي في السودان، وعارضت أحادية الثقافة العربية الإسلامية.
وفي سبتمبر 1983، أعلن نميري اعتماد "أصول قانون الفقه" والتي عرفت باسم قوانين سبتمبر أو قوانين الشريعة، لتتحول الحريات إلى سياسة أخرى تروج للشريعة وتطبيق الحدود. ولاحقاً، سيؤدي هذا المزيج من القمع ومواصلة التحريض على الصراع في جنوب السودان، بالإضافة إلى قوانين سبتمبر غير المرحب بها شعبياً إلى سقوط حكومة نميري عبر انتفاضة ابريل/ مايو 1985.
بعد فترة انتقالية لمدة عام، بقيادة الجنرال عبد الرحمن سوار الدهب، أتى الصادق المهدي رئيساً للوزراء عبر انتخابات عامة في 1986، مما أرسى الديمقراطية البرلمانية بصورة مؤسسية، وشهدت فترة ما بعد الانتفاضة، ما بين 1985 إلى 1989، انتاجاً فنياً ثرياً للغاية؛ فتح اتحاد الكتاب السودانيين أبوابه
عام 1985، وظهر العديد من المطربين؛ مثل مصطفى سيد أحمد وآمال النور وغيرهم، وشُغلِت الأغاني الثورية في جميع دور السينما قبل عرض الأفلام.
حظر الفنون: 1989 إلى 1996
لسوء الحظ، كانت حكومة الائتلاف التي انتخبت عام 1986 ضعيفة ومنقسمة، الأمر الذي أدى إلى "تداعي الشراكة الهشة مرتين خلال ثلاثة أشهر في عام 1987، وصار السودان – من ناحية فنية - دون حكومة لمدة عام تقريبًا". أدى التدهور الاقتصادي مصحوباً بعدم الاستقرار السياسي الكبير - الذي نجم عن تحالفات مختلفة داخل الحكومة - إلى الإحباط، الأمر الذي وظفه الإسلاميون ليبرروا لانقلابهم في 1989 بأنه استجابة لرغبة الشعب، واطلقوا عليه "ثورة الإنقاذ الوطني". لكن في حقيقة الأمر، كان الإسلاميون يسيطرون على مناصب مهمة في حكومة ما بعد الثورة، وعملوا على بقاء قوانين سبتمبر التي أحدثت ضجة في عام 1983، واستمرت بعد ذلك.
لكن، واقعياً، كانت المحاولة الوحيدة الجادة لإلغاء قوانين سبتمبر، هي تلك التي حدثت في صبيحة 30 يونيو 1989، والتي قادتها "لجنة من كبار المحامين، من ضمنهم رؤساء قضاة سابقين ووزير عدل سابق والعديد من كبار الحقوقيين، حيث تقدموا بمسودة مشروع قوانين، لو أنها قبلت، كانت ستؤدي إلى إلغاء نهائي لقوانين سبتمبر 1983" (واربورق 1990: 636).
في ليلة 30 يونيو، وقع انقلاب 1989، وكان منفذوه عسكريون شباب، تأثروا بالأب الروحي للحركة الإسلامية، دكتور حسن الترابي؛ محامٍ تلقى تعليمه بفرنسا، وأحد ركائز الحركة الإسلامية في السودان، والذي شكل جسماً عسكرياً عُرف بـ "مجلس قيادة الثورة"، حيث كان منوطاً به حكم البلاد.
بعد أيام من نجاح الانقلاب، حُلت حكومة الصادق المهدي، وجميع الأحزاب السياسية، وحظرت الصحف المستقلة، وفككت جميع النقابات العمالية، وصودرت ممتلكاتها، وفرض حظر التجوال وحالة الطوارئ. كان حظر التجول من السادسة مساءاً، واستمر لعام، بينما استمرت حالة الطوارئ لأربعة أعوام. أغلقت المسارح ودور عرض السينما مرةَ وإلى الأبد، كما أغلق المعهد العالي للموسيقى و المسرح - والذي كان متفرداً – لأربعة أعوام، الأمر الذي وضع الطلاب أمام خيارين؛ الهجرة خارج البلاد، أو تغيير مجالاتهم المهنية، كما تعرض المعهد، في تلك الفترة، لهجوم من قبل الجهاديين، حيث تعرضت جميع المنحوتات للتحطيم. في الواقع، حطمت كل التماثيل الواقعة في محيط الخرطوم.
مسرح في حالة خراب بولاية النيل الأزرق. المصدر: أندريا
هناك سجال طويل بين المثقفين حول ما إذا امتلك النظام الإسلامي رؤية شديدة الوضوح فيما يتعلق بالسياسة الثقافية في السودان أم لا. وفيما يعتقد البعض أن هناك ثقافية صارمة مستقاة من المشروع الحضاري، وهو مشروع غير مكتوب، لكن شُرِحَ من قبل عراب الحركة على أنه محاولة "لإعادة صياغة المجتمع السوداني على أسس الإسلام". ولهذا السبب، يعتقد أن النظام منح الحقائب المتعلقة بالثقافة والإصلاح التشريعي والتنمية الاجتماعية إلى دوائره الداخلية الموثوقة. فيما يعتقد آخرون أن الأمر يتعلق بالأفراد ونظرتهم للثقافة، وأن الفاعلين الثقافيين داخل الحركة الإسلامية الذين يدعمون الفعاليات الثقافية، خضعوا للمواجهة من قبل الشرطة التي يرسلها أعضاء آخرون رافضون للثقافة. وفي مقابلة مع الفنان السوداني أحمد المرضي (عام 1992) وضح قائلاً "للنظام تعريفاً خاصاً للتعبير الفني، وبالرغم من عدم وجود تصور واضح له، إلا أنه طالما نُظر إلى الفنان على أنه منتمي أو متعاطف مع الحركة الإسلامية أو صديقاً لها، فإن له الحق في التعبير عن ذاته، مع وجود شرط وحيد وهو عدم استخدامه صوراً جنسية".
التأثيرات على الفنانين والشعب
كان للحركة الإسلامية ومشروعها الحضاري تأثيراً مدمراً على المشهد الثقافي، حيث أُفقرت الفنون وقضت على جميع الجهود الفنية والثقافية من خلال تأطير قانوني متكامل. في الواقع، صكت الحركة في عقدها الأول 93 قانوناً جديداً، هذا في الوقت الذي شهد فيه السودان تطوير 94 قانوناً ما بين 1903 إلى 1988.
كان للإطار القانوني عدد من القوانين التي سهلت الهجمة على الفنانين والجمهور. على سبيل المثال، يحتوي قانون النظام العام - الذي يُعرف أيضًا باسم قانون الأخلاق - على مواد فضفاضة جدًا تفرض عقوبات على اللبس، والاختلاط بين الجنسين وبصورة فضفاضة تعرف بيت الدعارة على أنه أي مكان معد لاجتماع رجال أو نساء أو رجال ونساء لا تقوم بينهم علاقات زوجية أو صلات قربى وفي ظروف يرجح فيها حدوث ممارسات جنسية. جعل هذا التعريف من بيت الدعارة منزلًا خاصًا وحتى مسرحًا. ونتيجة لذلك، أصبح من المعتاد مداهمات المنازل الخاصة أثناء التجمعات والحفلات الخاصة.
ومن الناحية العملية، كان لقانون النظام العام محاكم خاصة به، وأقسام شرطة وآلاف من ضباط النظام العام، المعروفون باستهداف الفعاليات الموسيقية والثقافية. فرقة الجمام المسرحية، وهي فرقة مسرحية يديرها الطلاب والشباب، تأسست عام 1993 في ذروة التضييق على الثقافة؛ كانت زبوناً دائماً لشرطة النظام العام. ويوصف الممثل والمخرج السينمائي - الذي كان عضوًا في الجمّام في ذلك الوقت - محمد حنفي المعروف باسم كابو، معاناتهم اليومية بالقول:" أحياناً كانوا يقتحمون المنصة أثناء المسرحية ويقبضون علينا وعلى الجمهور. اعتدنا على الهرب من الشرطة، وأتذكر ذات مرة كنا نقدم مسرحية تاريخية في جامعة الخرطوم، وتفرقنا راكضين. أتذكر أنني بدأت أتأمل لكم هو غريب أن نركض بأزيائنا في شارع النيل. كنا نعتقل ويوقع كل واحد منا على تعهد بأنه لن يشارك في نشاط مماثل مستقبلاً، لكننا نعاود العمل في اليوم التالي. فعملنا في المسرح كان طريقتنا في المقاومة ".
تتمثل أكثر الذكريات الأليمة للفنانين في محو بعضاً من المواد الأرشيفية الثمينة في السودان. فقد أمر قريب البشير، الطيب مصطفى، والذي ترأس هيئة البث في أوائل التسعينيات، بمحو كل المواد المخالفة لأحكام الشريعة. و كانت هناك بالفعل جهود لتخليق أرشيف السودان المرئي الذي يعود إلى بدايات القرن العشرين، الأمر الذي حقق الضرر بالفعل.
في الفترة القصيرة التي سبقت إغلاق المعهد العالي للموسيقى و المسرح لمدة أربع سنوات، فإنه سيطر عليه بالكامل، بل ونقل قسراً إلى حرم جامعي جديد غير مكتمل التجهيز. وأتت الضربة القاضية بإغلاقه، لأنه يمثل أحد ركائز البنية التحتية الثقافية التي احتضنت المشهد الفني والثقافي وبقاءه، وإنتاج الفن والازدهار في بلد يمتاز بموارد نادرة. أغلق اتحاد الكتاب السودانيين والمراكز الثقافية ووسائل الإعلام المرئية والمطبوعة، والتي كانت جزءًا من هذه البنية التحتية، ليفقد العديد من الفنانين والكتاب مصادر معيشتهم. وسهّل ذلك من عملية هجرة العقول، حيث تأثر العديد من الفاعلين الثقافيين، وإن لم يكن بالاعتقال السياسي، كانت الضائقة الاقتصادية هي السبب، ليتركوا البلاد في شكل هجرات جماعية.
أما بالنسبة للجمهور السوداني، الذي تعاطى مع هذا المشهد، وقدره ودعمه مادياً، فقد تعرض لهجمة عنيفة أيضاً. وعملت سياسات الحكومة على فصل أكثر من 600 ألف شخص من وظائفهم تعسفياً، في سبيل تمكين آخرين موالين لها. تجاسر الناس يوماً بعد يوم من أجل البقاء أحياء، وفي هرم كل ذلك، كان شراء أو تذوق أي نوع من الأشكال الفنية المنتجة محظوراً ويؤدي إلى عواقب وخيمة. وفي حالة مهاجمة شرطة النظام العام حفلاً موسيقياً، فإنها لا تعتقل الفرقة الموسيقية فحسب، بل في الغالب يتعرض الجمهور للضرب والاعتقال. الأمر الذي جعل من الفعاليات الثقافية فضاءاً للمواجهات الجادة.
أكثر من ذلك، فإن مجرد اقتناء الأشرطة الموسيقية وأقراص الأفلام والمجلات والكتب كان أمراً يوجب العقاب، وتسببت كل هذه الممارسات، التي جسرت عبر إطار قانوني ووحدات مؤسسية كاملة، في عزلة الشعب السوداني عن العالم الخارجي. ففي 1995، دوهمت المنازل بحثاً عن الكتب والمجلات والأعمال الفنية، واستخدمت المادة 15/3 من القانون الجنائي، المتعلقة بـ " المواد والمعروضات المخالفة للآداب العامة" كذريعة للمداهمة والمصادرة اللاحقة، وكنتيجة مباشرة لذلك ، كانت الأمتعة تتعرض للتفتيش في الميناء والمطار بحثاً عن أشياء مماثلة. منعت العديد من الكتب، وكان مكتب الاستيراد والتصدير – الذي يديره جهاز الأمن – يفحص كل الإرساليات الواردة والصادرة. في الواقع، صودرت حتى أجهزة الفاكس.
صار المشهد الفني في الخرطوم، والذي كان واعداً في أواخر السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، مساحة لا يمكن للفنانين اختراقها. وتسبب إغلاق وتدمير جزء كبير من البنية التحتية في العاصمة في تقليل الإنتاج الفني إلى عشرة أضعاف أو توقفه بالكامل. وضع حزب المؤتمر الوطني كل الممارسات الحرة تحت سيطرته، وأخضعها للقوانين الإسلامية المفروضة حديثاً. ويصف مؤسس سودان فلم فاكتوري، طلال عفيفي، بشكل جيد كيف شكلت الدوغما العقائدية الطريقة التي أديرت بها المؤسسات المتبقية و عقلية الفنانين الذين كانوا يلتحقون بها: "كانت هناك مؤسسات لم تغلق، بل تم تجفيفها بدلاً من ذلك. والآن لديك فنانون يتخرجون من مؤسسات ذات مناهج جافة، مما يعني أنهم لا يمتلكون التدريب المناسب – وأنهم فنانون بالتوصيف فقط – حتى تقول الحكومة أنه ما ما يزال هناك فنانون".
عبثت حالة الرقابة التي فرضتها تلك القوانين بحياة الفنانين، حيث حرموا، خاصة الذين تطلعوا للعمل في مجالهم، من حرية الحديث والتعبير، والتحصيل الأكاديمي المتكامل؛ الأمر الذي اضطرهم للبحث عن عمل داخل المؤسسات المتبقية، والتي خضعت لرقابة شديدة. دمّرت اجراءات حزب المؤتمر الوطني ضد الفن سوق العمل، وعلى الفور، هُجّر الفنانون الذين كانوا ينتقدون النظام بصورة مصادمة، أو يعلقون على مدىً طويل على ما وصل إليه الفن والمشهد الاجتماعي السياسي في السودان. خفضت ميزانيات المشاريع، والأمن الوظيفي، والرواتب للموظفين والفنانين الذين لم يكونوا موالين للحزب الحاكم، وأعيد توجيه الأموال إلى القنوات الإعلامية التي روجت للبروباغندا الإسلامية تحت ظل الدولة. ومع ذلك، فإن تداعيات الانقلاب ذهبت أبعد من التهجير القسري والعقوبات القاسية على الفنانين، ويسرد عفيفي ما يدركه عن تاريخ العنف الذي تعرض له الفنانين في النصف الأول من حكم الإسلاميين:" لم تكن مسألة البقاء في السودان تتعلق ببساطة بالتضييق الاقتصادي وشح الفرص؛ هناك أشخاص اختفوا قسرياً، وتعرض آخرون للتعذيب، ومات الكثيرون أثناء تواجدهم في المعتقلات. استمر هذا الحال لما يقارب عقد من الزمان... قتل خوجلي عثمان [الذي هرب خلال أيام النظام الأولى] عند رجوعه... كانت تكتيكات [النظام] مماثلة لممارسات هتلر، استخدموا التعذيب والأيديولوجيات اليمينية؛ كانوا آلة حرب".
ألات خياطة قديمة و مهجورة في سنار. المصدر أندريا
مجبرين على الهرب بسبب التهديدات أو النفي أو ضيق المعيشة، بدأ الفنانون الهجرة. انتقل حوالي ثلاثة ملايين فنان ومبدع سوداني للعيش في مصر خلال التسعينيات. وخلقوا سوداناً مصغرًا هناك، من خلال السجالات السياسية، والصحف السودانية، والطعام، وتشكل المجتمعات أدبية. لم يكن محمد وردي الموسيقار الوحيد في المنفى، بل عشرات من أكثر الموسيقيين شهرةً، مثل مصطفى سيد أحمد ويوسف الموصلي والعشرات غيرهم ممن تعرضوا للتهديد والاعتقال التخويف. استمر انتاج وردي الموسيقي، وعمل على توفير فرص إنتاج لفنانين آخرين، عبر تسفيرهم إلى القاهرة لعدة أيام من أجل تسجيل موسيقاهم. استمر تسجيل الأغاني السودانية في القاهرة لسنواتٍ عديدة، وهربت الأشرطة المسجلة إلى السودان. كانت معاناة الموسيقيين هي الأكبر، مع حظر على الحفلات الموسيقية، والتي في حال تنظيمها كانت تتعرض لهجوم الشرطة. فخلال حفل تأبين الموسيقار الأيقونة، مصطفى سيد أحمد - والذي أجبر على المنفى فى أوائل التسعينات، وتوفي في قطر سنة 1996 – داهمت الشرطة الحفل واعتدت بصورة وحشية على أعضاء جماعة الجمام المسرحية وفرقة ساورا الغنائية.
وفي سبيل توضيح النمو الذي شهدته سبعينات وثمانينيات القرن الماضي، فإن اللغوي والناقد والفنان، دكتور محمد حسن، وضع إطار السردية الكبرى للقمع والضياع الثقافي اللذان شكلا أرضية الهجرة الجماعية للفنانين السودانيين لاحقاً. حيث وصف الخطاب الفني الثري عندما كان طالبًا في كلية الفنون الجميلة خلال النصف الأول من الثمانينيات: "لم يكن هناك ميل أكاديمي تجاه النقد في ذلك الوقت، لكن أفكاراً جديدة بدأت تطفو في السطح، وتمحورت حول نظرية ودور الفن؛ تشكل جسم شبابي من مجموعة من الشباب أطلقوا على أنفسهم "مدرسة الخرطوم" والتي اشتهرت بشخصيات مثل إبراهيم الصلحي وأحمد إبراهيم عبد العال، وعدد من الفنانين الأصغر سناً...وكانوا مجموعة من الفنانين الذين تخرجوا في السبعينيات وشرعوا في الكتابة في الصحف بشأن كيف أن الفن الذي دُرس للسودانيين كان فنًا مصدره وسياقه أوروبيان وأن لدينا مشاكلنا الخاصة. بدأوا خوض نقاشات حول الهوية؛ وكانت مدرسة الخرطوم هي من أعلنت لأول مرة أن لدينا هوية هجين أفريقية - عربية، وكانت ذات وثاق بالمنظورات المختلفة للأفروعمومية التي ظهرت في الستينيات".
مُنِع الفنانون والمفكرون؛ الذين كانوا قد بدأوا لتوهم الاشتباك مع تاريخ السودان الاستعماري وتأثيراته على الهوية الوطنية – مثل خليل فرح، الذي علق عليه عفيفي بأنه يخلق فنه "من داخل الحاضنة الاستعمارية، لكنه برغم ذلك يخلق سردية للوطن" – من إنتاج الفن وتوزيعه. واستيقظ الوحش مرة أخرى مع التنفيذ المفاجئ والسريع للقوانين الجديدة والمعايير الإسلامية من قبل البشير. وأغلقت كل المنافذ، التي اعتاد الفنانون أن ينتقدوا فيها العقلية الاستعمارية التي أثرت في التعليم الفني وقيم المثقفين السودانيين، بسبب توقف الصحف أو الرقابة المفروضة. وسألت دكتور حسن: "ماذا حدث للفن بعد استيلاء البشير على السلطة؟ إنها أكثر العصور قتامة بالنسبة للباحثين؛ فأنا غير قادرة على العثور على معلومات عنهم". أتاني رده:" للأسف لا أحد منا لديه معلومات" وأضاف "من الواضح أن الحكومات العسكرية تعتمد على إخفاء المعلومات، لذلك لم تكن هناك صحف، وبالتالي لم تكن هناك نقاشات بيننا [نحن الفنانون]."
هاجر بعض الفنانين، مثل صلاح محمد الحسن وإبراهيم الصلحي، الذين كانوا جزءاً من "مدرسة الخرطوم" أو جزءاً من إرثها، وذلك بسبب التضييق الذي مارسته الحكومة العسكرية السابقة. وهناك توفرت لهم الموارد والحرية والاعتراف الواسع، لكن الأمر لم يكن سهلاً لفنانين أجانب. وفي ذات مرة علق الصلحي قائلاً: "[الفنانون الأفارقة] ما زالوا في الظلام، عشنا في البرد خارج الأبواب". لم يعد حسن ولا الصلحي إلى السودان. في كتاب “كل تحرك خفيف للشعب ... هو كل شيء: سوندرا هيل والفن السوداني لسوزان سلوموفيكس” ، تعطينا مراسلة عبر البريد الإلكتروني بين هيل والمؤلفة المذكورة لمحة عن مكان وجود بعض الفنانين الذين غادروا أو تم نفيهم خلال سنوات المضطربة التي عاش فيها السودان بعد الاستقلال: "أجريت مقابلات مع ثلاثة فنانين سودانيين في القاهرة (حسين شريف ، حسن أحمد ، وسيف الإسلام) في أوائل العام 2000 – وخلال رحلتين؛ كما أجريت مقابلة مع [محمد عمر] بشرى في أسمرة مرتين عامي 1994 و 1996 (جاء من المملكة العربية السعودية لقضاء ثلاثة أشهر معي في كل مرة) وشأنه شأن فنانين سودانيين آخرين، فإن طاهر بشرى مراد قد عاش معنا لمدة تسعة أشهر في أوائل الألفينات، وكنت أتحاور معه يوميًا، كما درست أعماله (لكن لم أجري معه مقابلة) في أسمرا وأديس (حيث كان في المنفى). أجريت مقابلة مع خالد كودي خلال رحلتين إلى الساحل الشرقي (بوسطن) وغرب الأوسط لاجتماعات جمعية دراسات السودان و / أو [جمعية دراسات الشرق الأوسط]. وأجريت مقابلة مع بشارة وإبراهيم الصلحي في أكسفورد في أواخر التسعينيات وأوائل الألفينات".
قرر بعضاً من الفنانين الذين لم يهاجروا - سواء لأسباب شخصية أو مالية أو عدم القدرة على المغادرة - مقاومة العنف. وأوضح عفيفي أنه "خلال السنوات السبع الأولى بعد عام 1989، أراد الناس الانخراط في عمل بيانات ومواقف سياسية، وانضم بعض الفنانين إلى جيوش لمحاربة عنف النظام".
أدرج السودان بعد فرض العقوبات السياسية في القائمة الدول المحظورة دولياً، نسبة لتوجهات نظام البشير. وتسبب هذا الأمر – وما يزال – في صعوبات للفنانين السودانيين للحصول على منح دراسية وزمالات، أو ببساطة استيراد المواد التي يحتاجونها لعملهم. كما وصف المصمم مصطفى "عندما بدأت [معرضي] لم تكن هناك متاجر إطارات لوحات في السودان، فحاولنا الاعتماد على المواد المحلية. إن العقوبات الأمريكية والتضخم يجعلان من الصعب استيراد أدوات الرسم والمواد الخام مثل الخشب التي يحتاجها [أصحاب المعارض] أو الفنانون". ومن بين الفنانين الذين ظلوا في السودان، فإن الكثيرون منهم تحولوا إلى ممارسة الأعمال اليومية حتى يتمكنوا من زيادة دخلهم. لم يعد الفن - وخاصة في الفنون الجميلة - موهبة يمكن الاعتناء بها بسهولة أو أن تصير مهنة مجدية.
سد الهُوة: ما بين الماضي والحاضر
لم تنحصر القيود المفروضة على الإنتاج الفني والتعبير والقيم فقط، بل كان غلياناً منفجراً تجاه عالم الفن والانتقام المروع من أي شخص لم يمتثل للقوانين الإسلامية بشكل ملحوظ وعلني واجتماعي، أو تمادى إلى أبعد من ذلك وتجرأ على المقاومة؛ لقد سعوا إلى تجذير القيم الإسلامية بصورة دائمة في نفوس الناس بالقوة. بدأ حزب المؤتمر الوطني بشكل أساسي حربًا أيديولوجية طويلة المدى على الفن منذ عام 1989 وامتدت للثلاثة عقود التي استولوا فيها على السلطة. وغيرت آثار هذه الحرب الأيديولوجية من وجهات نظر المجتمع السوداني، وقيمه الاجتماعية ، ومواقفه تجاه الإبداع، والعلاقة بالرقابة والآراء حول التنوع والحرية. حدث هذا التحول دون شك من خلال القيود والقمع المفروضين على الفنانين والمفكرين الأحرار، والتي أثرت كذلك على ثقافة الفن في السودان. وبهذا حدث تحول الفن في السودان. انعكست افكار الدكتور حسن حول العقلية الاستعمارية الموروثة التي ابتلي بها مجتمع الفنون في السبعينيات في تعليقات عفيفي حول خلق حزب المؤتمر الوطني لأشخاص يحملون اسم "فنانين" فقط. وفي حين أن الآثار الظاهرة للاستعمار البريطاني على القيم الفنية كانت وراء صعوبة وجود فنانين حقيقين - في السبعينيات - يمكنهم استكشاف العوالم المجردة بدلاً من الفنيين المهرة الذين يعملون في إعادة إنتاج الواقع فقط، فلقد تغير الأمر وأصبح لدينا "مناهج مجففة" لا تدعم طلاب الفنون الذين يرغبون في استكشاف المجتمع بشكل نقدي من خلال أعمالهم. رسخ التعليم الرديء في معاهد الفنون من خلال الأيديولوجيا الإسلامية التي تشربها الفنانون. وفي حديثه عن صمود هذه الأيديولوجيات وكيف أنها تكبح الفكر النقدي للفنانين حتى يومنا هذا ، يوضح الدكتور حسن:
"كان هناك الكثير من الأشياء التي سنها البشير .. خلقوا عداوة تجاه الفن، وتعرضت كلية الفنون الجميلة للتعدي والهجمات. ما أعنيه هو أن [الحكومة] دمرت التماثيل. كما أتلفت عدد من الأعمال المنحوتة ودمرت العديد من معارض الخريجين. اعتقدوا أن النحت حرام. كان هناك تمثال في جامعة الخرطوم .. أزالوه ودمروه ... كان هناك نصب للشهداء قرب خطوط السكة الحديد المدمرة قالوا إن كل قطعة من الفن المرئي لها معنى رمزي أو كانت تخلد ذاكرة ما فهي صنم، والصنم حرام للمسلمين. ما تزال هذه المعتقدات موجودة في الأجيال الجديدة. أنا أعاني كثيراً حاليًا مع طلابي في الفنون؛ فكثيرون منهم لديه مواقف سلبية تجاه الأشياء المتعلقة بالنحت ".
إلى جانب تدمير الآثار والسجلات المحفوظة والمكتبات وقاعات المعارض، تعرضت داخليات الطلاب للإغلاق مما أدى إلى عكس تدفق سكان الريف إلى المدينة، والتي شكلت خرطوم ما بعد الاستعمار وجعلتها صورة مصغرة وأكثر أصالة عن السودان. وعلى الرغم من وجهات النظر الساخطة على هجرة السودانيين الريفيين إلى العاصمة بعد الاستقلال، لكن هذه الهجرة هي التي غيرت ليس ثقافة المدينة فحسب، ولكن المشهد الحضري مجمله. لم تعد العمارة الاستعمارية البريطانية لكلية غردون والمباني الحكومية هي الفكرة المركزية في الخرطوم، مع المتاجر المحلية الجديدة والمنازل وواجهات المحلات والأسواق التي ظهرت مضافاً إليها التنوع وزيادة عدد سكان الخرطوم. انتهى كل ذلك مع إغلاق وخفض الداخليات التي كانت تسمح للناس من خارج الخرطوم بالحضور إلى المدينة من أجل التعليم العالي. وبينما شهدت السبعينيات والثمانينيات نمو وازدهار الآراء والتعبيرات الفنية المتنوعة، فإن التسعينيات قد خلقت مجموعات سكانية مركزية موحدة من خلال "تدجين الناس" والتركيز على خلق عقلية عسكرية وسياسية مع فعالياتهم.
حُذِفت الموسيقى التي تعبر عن الرومانسية أو أي متعة جنسية وشَهوَانِيّة من الإذاعات، ومورس العنف ضد النساء اللواتي لا يرتدين ملابس "محتشمة" تتماشى مع التقاليد المحلية، والمداهمات المنزلية التي مكنت الحكومة من إزالة الفن والأدب المحظور من المساكن الخاصة، وعملت كل هذه الممارسات ببطء في إزالة الفن من الوعي العام على مر السنين. طُلب من تلاميذ المدارس ارتداء زي موحد جديد، والذي كان تم تصميمه عسكرياً. مات حوالي 180 فنانًا خلال الثماني سنوات الأولى وفقد فنهم إلى الأبد. على عكس الصلحي أو كمالا إسحاق، فإن بعضاً من الفنانين الذين بدأوا في اكتساب الشهرة في السودان و مصر قد هاجروا في سبيل القليل من الفرص والنجاح. إذا لم يجرح تأثير هذا الاضطهاد الفنانين جسديًا ، فقد شعروا به نفسيا. لقد فقد الناس حياتهم بكل معنى الكلمة؛ انتهت المهن التي كانت مزدهرة أو واعدة، ودمرت الأعمال المعيشية، وقمعت المعارضة. كانت الوحشية الجسدية والنفسية بلا حدود، وقد فقدنا الكثير من توثيقها لأن الحكومة تعمدت ذلك. من غير المنطقي للجيل الحاضر، الذي تربى حاملاً يقين أن السودان كان دائمًا بلدًا محافظًا أن يعي أنه كان في يوم مزدهر بالحياة الليلية، وغني ثقافياً وبصرياً ويتواجد فيه فنانين محليين مشهورين. كتبت الشاعرة صافية الحلو: "الخرطوم في الثمانينيات/ والدتي ترتدي شرائط في شعرها/ يتهادى فستناها على ساقيها المكتنزتين... عازف الأسطوانات المستعارة/ الجيل الذي سيغادر/ ليحن إلى هذه الليالي". إن الأثر الوحيد المتبقي من ذلك الماضي هم الآباء الذين بقوا على قيد الحياة لفترة كافية لإخبار أطفالهم عن الحفلات والحانات ودور السينما التي كانوا يجتمعون فيها عندما كانوا شباناً.
مع تعرض ذاكرة الناس للتغيير مع مرور الوقت، من قبل التحيز الإسلامي عن طريق تدمير وإزالة الفن، فإن الثقافة الفنية النابضة بالحياة في الخرطوم أصبحت مسحوقة. يبدو ظاهريًا كما لو أن الافتقار إلى البنية التحتية للإنتاج الفني، وتشتت العديد من الفنانين وموتهم، وغياب دور السينما وصالات العرض هي الأشياء التي تحد من ثقافة الانخراط في الفن المرئي في السودان. يتذكر دكتور حسن "الدمار الذي حدث للسينما السودانية ... بعد ذلك لم يكن لدى أحد أي معرفة بالمشاهد المرئية. ولم تكن هناك صور أمامك، على مستوى الشارع والشاشة". وشهد العقد الأول للألفية الجديدة إعادة بناء بطيئة لعالم الفن المرئي في الخرطوم، مع طلال عفيفي في "سودان فلم فاكتوري" ومصطفى علي في "معرض موجو" من بين آخرين كثيرين بدأوا تكوين منظمات وشركات لأنهم "أحبوا الفن ولم يكن لديهم إمكانية الوصول إليه".
في عام 2017 ، أصدرت قناة الجزيرة فيلمًا وثائقيًا قصيرًا بعنوان "أفلام السودان المنسية" والذي يتتبع رحلة رجلين، بنجامين وعوض، اللذين كانا مسؤولين عن إدارة أرشيف الأفلام، والذي، على الرغم من احتوائه على آلاف شرائط الأفلام النادرة من نسخة واحدة ، إلا أنه أصبح في حالة يرثى لها بسبب نقص التمويل والإهمال الشديد. كانت الاستجابة العاطفية للأشخاص الذين شاهدوا الفيلم قوية وغاضبة؛ وأصاب الاستياء الكثيرين على ضياعها وكل ما من المؤكد أنه سيضيع بسبب حرب حكومة الإنقاذ على الفن. على الرغم من أن البشير قد فعل الكثير لضمان قطع علاقة السودان بالفن القوي والمؤثر مع مرور الوقت، إلا أن التعبير الفني كان معلقًا بخيط رفيع، وهو ما عزز مع مرور الوقت، من خلال المناعة التي اكتسبها الناس ضد العنف، وبدأ عالم الفن في النمو من الداخل وفي الشتات.
خلاصة
كان انفجار الفن الثوري في عام 2019 نتيجة ثلاثة عقود من المقاومة المحلية السرية. وسهلت وسائل التواصل الاجتماعي شعلة المقاومة من خلال توفير مساحات انتشار للفنون المرئية والرسائل من خلال الوصول إلى ملايين السودانيين، من داخل وخارج البلاد. وعلى عكس ثورة الطبقة الوسطى في عام 1964 ، فإن ثورة 2019 قادها السودانيون الذين تعرضوا للقمع والملاحقة لعقود من الزمن: أحفاد السودانيين الذين استعبدوا، والمجتمعات في هوامش الخرطوم وفي مدن في جميع السودان، وعامة العمال. وأفراد الطبقة العاملة الذين أصبحوا أكثر غضبًا مع ازدياد صعوبة الوصول إلى وسائل النقل العام، وغلاء الخبز، والتضخم الذي جعل أموالهم بلا قيمة. إن اندهاش الطبقة الوسطى والطبقة العليا وسودانيو الشتات قد كونت بشكل خاطئ السرد القائل بأن التعبئة المتفجرة للفن كأداة للمقاومة كانت مفاجأة. هذا السرد لا يحجب فقط حقيقة بدايات الثورة، ولكنه يسهل الطريق لهضم جهود المجتمعات التي قامت بالتعبئة والتنظيم، مثل الدمازين، حيث اندلعت الاحتجاجات لأول مرة. وعلى حد تعبير عفيفي:
"نعتقد أنها جديدة لأننا طبقة وسطى؛ وظننا أنها جديدة ولكننا لم نتمكن من سماعها، ولكنها لطالما كانت هناك. مقاومة [انتفاضة 2019] كانت شجاعة وغاضبة؛ ولم تكن مقاومة طبقة الوسطى تهتم بأن تكون محترمة ومبهرجة. لم يكونوا معنيين بالبنوة أو التهذيب. وأتى الفن من مجتمع مخنوق لم ير الجدار كلوحة قماش يجب أن يرسموا عليها. بل كانت الجداريات تشبه الكتابة الغاضبة على حائط الحمام التي كان يكتبها الشخص عن من يحتقره، الخربشة على الكشك التي تقول "*** فلان وفلان".
وبينما يتم التنبؤ بالعديد من النتائج السلبية مثل تسويق الفن الثوري والتفسير التاريخي الخاطئ لبدايات الثورة، تظل الحقيقة أن الانتفاضة سهلت إعادة انخراط الجمهور مع الفن في نطاقات واسعة كانت مفقودة خلال الثلاث عقود الماضية. وفي حين أن علاقة السودان المدنية والقانونية بالفنانين لم توفر لهم أبدًا براحاً لتجاوز البدايات الواعدة لمرحلة "شهر العسل" نحو المتاهات المعقدة والخطابات الاجتماعية الباعثة على الانقسام في كثير من الأوقات، إلا أننا الآن أمام فرصة حقيقية مواتية للانطلاق في هذا المسار منذ أكثر من ثلاثين عامًا.
**
المصادر و الملاحظات
1. آية المليك. "ما الذي أثار الإحتجاجات في السودان؟" أخبار الجزيرة. الجزيرة ، 26 ديسمبر 2018
https://www.aljazeera.com/news/2018/12/prompted-protests-sudan-181224114651302.html.
2. عبداللطيف الضاهر. "احتجاجات الشوارع في السودان ألهمت ثورة أخرى في الفن" فنون الإحتجاجات | كوارتز أفريقيا، 12 يوليو / تموز 2019.
https://qz.com/africa/1664733/sudans-protests-inspire-art-graffiti-revolution/
3. عزمي عبد الرازق. "الراندوك الشعبي، لغة الأطراف المتمردة على الدولة". الترا سودان | ألترا صوت، 19 يوليو 2019. <https://bit.ly/2Pwx97d>
4. زاري السودان. "تحولت كلمات أغنية كولين كولين لتسقط بس، في حفل زفاف من الحضور هاتفين مع الفنان محمد الريان ضد عمر البشير. فيديو يوتيوب. 00:14. 21 يناير 2019. <https://www.youtube.com/watch؟v=Kafe_el_SkU>
5. أوميت بيكتاس. "اعتصام المحتجين في السودان يلهم التدفق الثقافي". أخبار العالم | رويترز ، 7 مايو 2019. <https://www.reuters.com/article/us-sudan-politics-art/sudan-protesters-sit-in-inspires-cultural-outpouring-idUSKCN1SD0WJ>
6. جي أر واربورغ ، "الشريعة في السودان: التنفيذ والتداعيات ، 1983- 1989 "ميدل إيست جورنال 44 (1990): ص 624-637.
7. إريك بيس (27 يوليو، 1971). نخبة الشيوعيين الذين شنقهم السودانيون. نيويورك تايمز. ص 1. تم الاسترجاع من <https://nyti.ms/3chYXWJ>.
8. مقابلة مع المؤلف مع محمد حنفي “كابو”، مخرج وممثل، الخرطوم ، 26 فبراير 2020، الخرطوم.
9. بلو ستارز كانت تسمى "فرقة نميري" في ذلك الوقت. استمروا في الأداء في مطعم بابا كوستا وأماكن أخرى في الخرطوم.
10. صلاح أ. شريف "أمة الأمجاد، أغنية ثورة مايو". فيديو يوتيوب. 10:38. 14 يوليو 2013.
11. <https://www.youtube.com/watch؟v=-1BLNeZXF64>
12. عبد الرحمن ، و. (2017). الرقص على أنماط السوط: تداعيات قوانين الشريعة في السودان على الفن والإعلام. [أطروحة]. كلية الحقوق ، جامعة إسكس.
13. كمال عثمان صالح، "السودان ، 1985-9: الديمقراطية المتلاشية، مجلة الدراسات الأفريقية الحديثة، المجلد. 28 ، رقم 2 (يونيو 1990): ص 199-224.
14. صدقي أ. كبلو "انقلاب السودان في الخرطوم: هل يجهض عملية السلام؟". مراجعة الإقتصاد السياسي الأفريقي. العدد 44 ، إثيوبيا: 15 عامًا (1989) ، ص 75-78.
15. هيومن رايتس ووتش. خلف الخط الأحمر: القمع السياسي في السودان، 1996، ISBN 1-56432-164-9.
16. عاين. "الإسلاميون والعداء التاريخي للثقافة" عين، 23 نوفمبر 2015 <https://3ayin.com/الاسلاميون-العداء-التاريخي-للثقافة/>
17. مقابلة المؤلفة مع محمد إسماعيل، رئيس وحدة الشؤون الثقافية بجريدة الخرطوم، الخرطوم، 26 فبراير 2020.
18. مقابلة المؤلف مع المخرج طلال عفيفي ومؤسس سودان فيلم فاكتوري، الخرطوم ، 5 فبراير 2020، الخرطوم.
19. كونستانس ال. كيركر "هذا ليس وقتك هنا": الأصولية الإسلامية والفن في السودان: مقابلة مع فنان أفريقي، "العدد: مجلة الرأي (جمعية الدراسات الأفريقية)، 20: 2 (1992)، 5 - 11.
20. قانون العقوبات 1991. شبكة معلومات بلد المنشأ الأوروبي..
https://www.ecoi.net/en/file/local/1219135/1329_1202725629_sb106-sud-criminalact1991.pdf
21. صهيب قسم الباري. "أفلام السودان المنسية" -الجزيرة | شاهد، 22 (أكتوبر) 2017
22. نشيد أمة الأمجاد (أناشيد ثورة مايو) من قناة صلاح عوض شريف https://www.youtube.com/watch?v=-1BLNeZXF64
23. يونس احمد. "نصف مليون مقال تعسفي من الموظفين المدنيين لمقاضاة البشير في السودان. الشرق الأوسط. 18 نوفمبر 2019. https://bit.ly/2TrBdXw
24. تمت مصادرة مكتبات العديد من المفكرين. عندما قُبض على محمد حنفي كابو عندما كان طالبًا بالمرحلة الثانوية في أوائل التسعينيات تمت مصادرة صندوقين مليئين بالكتب من منزله.
25. علي حيدر ابراهيم. سقوط المشروع الحضاري، مطبعة مركز الدراسات السودانية، 2004.
26. رأى أحد أعضاء ساورا الغيتار خاصته مكسوراً لأنهم قاموا بتحطيمه في رأسه.
27. مقابلة المؤلف مع الدكتور محمد حسن، الأستاذ بقسم الفنون الجميلة بجامعة النيليين، الخرطوم، 24 فبراير 2020.
28. عرض الثقافة - من الذي تسميه فنان أفريقي؟ تحميل يوتيوب. أفلام وثائقية فنية، 24 يوليو 2013. <https://www.youtube.com/watch؟v=srWIeMyQcgk>
29. سوزان سليوموفيكس. "كل حركة طفيفة للشعب ... هي كل شيء": سوندرا هيل والفن السوداني. المصدر: مجلة دراسات المرأة في الشرق الأوسط، المجلد. 10، رقم 1، ص 15-40. مطبعة جامعة ديوك.
30. مقابلة المؤلف مع مصطفى علي، مالك موجو غاليري، الخرطوم، 23 فبراير 2020.
31. تمثال إله أو شخصية مهمة يصلي إليه عابدوه أو أمامه؛ هذه ممارسة محظورة بشدة في الإسلام.
32. عبد الله علقم. "القرشي يتوه في شوارع الخرطوم"، سودان نايل، 2010 <http://sudanile.com/index.php؟option=com_content&view=article&id=15136:$-2bAA_&catid=142&Itemid=55>
33. إبراهيم بحر الدين وعمر عثمان وأميرة عثمان. (2014). فن العمارة في السودان 1900-2014. محاولة ضد الصعاب. 10.13140 / RG.2.1.1856.7848.
34. لوك كوداه. "تغيير الزي المدرسي - الخطوة الأولى نحو بناء السلام." سودان تريبيون، 16 مايو 2006.
35. <www.sudantribune.com/spip.php؟article15785>
36. "العاشقون". أطفال يناير، بقلم صفية الحلو ، مطبعة جامعة نبراسكا، 2017.
37. جيل جديد ، أنا طلال عفيفي وسودان فيلم فاكتوري، 23 يناير 2015، العدد 21 سينما <https://gealgaded2014.wordpress.com/2015/01/23/ أنا ، -طلال-عفيفي- ، و-سودان. -فيلم-فاكتوري />
**
تم نشر هذه المقالة كجزء من سلسلة بيانات التنقيب عن أنماط مثيرة للإهتمام حول الفن والثورة بين 2018-2022. المشروع مدعوم من الصندوق العربي للثقافة والفنون والمجلس العربي للعلوم الاجتماعية ومؤسسة أندرو دبليو ميلون.