الفنانون أناس متفانون بطبعهم، وتكمن مكافئتهم في شعور الرضى الذي تمنحه لهم العملية الإبداعية".
المصدر: Pinterest
ولد في مدينة قوس القزح “هرار “ في عام 1932 لأليكا ديستا نيجو، مصمم جرافيك مشهور، وخطاط كتب دينية ومعلم الشاب راس ميكونين ( والذى سيصير هيلا سيلاسي الأول). ترعرع جِبرِكِرستوس بين الأعمال اليدوية لوالده، وكان يقدم له يد العون. كان جِبرِكِرستوس رجلاً متميزاً، فقد امتلك، بجانب رسوماته التعبيرية البارزة وشعره المملوء حنيناً، حساً عظيماً بالأسلوب، الذي كان أنيقاً دائماً. شحذ جِبرِكِرستوس مهاراته في الرسم من خلال قراءة كتب متنوعة، وإلتحق بعد ذلك بكلية العلوم في جامعة أديس أبابا، لكنه ترك مقاعد الدراسة بعد عامين من أجل تتبع شغفه الفني. وحصل (في سن الخامسة والعشرين) على منحة لدراسة الفنون بألمانيا، لتتاح له فرصة تنظيم معرضه الفني الأول هناك. وبعدها جال جِبرِكِرستوس حول العالم لخمس سنوات رفقة أعماله الفنية.
عاد جِبرِكِرستوس دِيستا إلى إثيوبيا في سن الثلاثين، وعَبّر عن رغبته في أن يصير معلماً من خلال موقفه بأن"ليس على الفنان أن يرسم فقط، بل عليه أن يحاضر عن الجمال وسر الفن". وسرعان ما إلتحق بعمله الجديد كمعلم بجامعة أديس أبابا، في كلية الفنون الجميلة. يصفه طلابه بالمعلم الحصيف، والذي كان يمنحهم حرية التجول بفرش الرسم بينما يكون في كامل إهتمامه بأعمالهم. عاملهم كأخاهم الأكبر، من خلال توجيههم وتصحيحهم حين يرتكبون الأخطاء. صُنفَ جِبرِكِرستوس لاحقاً كأفضل محاضر ومُنح جائزةً تقديراً لجهوده. ويعتبر الطلاب الذين درسهم فنانين مشهورين الآن، وينسبون الفضل في ذلك إلى جِبرِكِرستوس، لزرعه المقدرات الفنية فيهم في سن مبكرة.
كانت اللوحات التي احضرها جِبرِكِرستوس من ألمانيا معه أعمالاً تجريدية، وبعد أول معرض فردي له في أثيوبيا، تلقى جِبرِكِرستوس الكثير من النقد مقارنة بالثناء، وعوقب جراء ابتعاده من أسلوب الفن الأثيوبي التقليدي. لكن في المقابل لم يهتم جِبرِكِرستوس ديستا بذلك كثيراً، وأصبح الأب الروحي و الرائد للفن الأثيوبي الحديث.
وفي العام 1965، مُنح جِبرِكِرستوس جائزة ضخمة من الإمبراطور الأول، وهي جائزة الثقة للفنون الجميلة (قيمتها 2,800 دولار)، تقديراً لعمله في إدخال الفن التجريدي إلى أثيوبيا ومساهمته في تحديث الفن الأثيوبي. أرى، بصورة شخصية، أن هناك تقاطعات بينه وبين الفنان ديرجي شفراو والذي يفكر أيضاً خارج الصندوق ويبدع أعمالاً فنية فريدة تصنف خارج الجماليات الأثيوبية التقليدية، رغم حقيقة أن الغالبية لم تفهم رؤيته الفنية بعد.
"من المضحك جداً أن الناس الذين لا يفقهون شيئاً عن تاريخ الفن يقومون بإضافة أهمية أسطورية لفنون بلدهم. فهم لا يعرفون عالمية الفن. فلم يكن بوسع بيكاسو ابتداع المدرسة التكعيبية إذا لم يشاهد الفن الأفريقي. بينما تأثر ماتيس بالتقاليد الإسلامية . وسافر غوغان إلى أماكن بعيدة مثل تاهيتي من أجل إيجاد مُلْهِماتٍ جديدة. نحن نشيد منازل ما بعد حديثة في دولنا النامية، ونشيد طرق سريعة لنقود فيها أخر إصدارات السيارات العصرية من كل أنحاء العالم. ونستخدم كل الأساليب المعاصرة في التكنولوجيا والعلم والتعليم والطب وكل ما يخطر على بالك. فبأي حق في العالم ينبغي أن لا يشمل ذلك الفن؟" – إفادة قدمها جِبرِكِرستوس خلال مقابلة مع سيدني دبليو من إصدراة الفن الأفريقي، صيف 1969.
جِبرِكِرستوس ديستا في شبابه
المصدر: انستغرام
من المعروف أيضاً أنه أصيب بمرض "البرص" في شبابه، لكنه لم يدع ذلك يؤثر عليه بأي شكل.
لوحة غولغوثا، من أعمال جِبرِكِرستوس ديستا.
المصدر: ويكي آرت
وربما واحدة من أعظم لوحات جِبرِكِرستوس هي تلك المسماة "غولغوثا – 1963". وبحسب المقولات، فإن القصة وراء هذه اللوحة ترجع إلى واحدة من الأحداث اليومية والعادية في الفصل الدراسي لجِبرِكِرستوس. حين جذبت انتباهه لوحة لأحد طلابه يجسد فيها المسيح . لكنها لم تكن لوحة عادية؛ حيث رسم الطالب بورتريه رجل أسود للمسيح. مندهشاً من ذلك، سأل جِبرِكِرستوس الطالب عن الأسباب التي جعلته يرسم المسيح في صورة رجل أسود، ليجيب الطالب:" لا أعتقد أن بوسع رجل أبيض امتلاك كل هذا الإيثار الذي امتلكه المسيح، لذا افترضت أنه كان رجلاً أسوداً". هناك رواية أخرى وهي أيضاً تتعلق بحدث كان له مكان في الفصل. وهي شبيهة بالرواية الأولى إلى حد كبير، والاختلاف الوحيد هو وجود طالبين؛ قام أحدهما برسم المسيح في صورة رجل أسود، بينما رسمه الآخر أبيض البشرة. وكانا يتجادلان عن لون بشرة المسيح. سمع جِبرِكِرستوس نقاشهما دون أن ينبس بكلمة. غير أنه وبعد عودته إلى المنزل، قضى ليلته تلك في خلق هذه القطعة الفنية، وأحضرها معه إلى الفصل وأخبرهم:" هذا هو المسيح؛ ليس أسوداً أو أبيضاً أو أي شيء آخر بينهما، فهو دمُ صافي".
لمن يرى اللوحة، قد تبدو الخلفيات المفصلة كمشتت للعين، وربما يكون تركيز النظر على الخطوط الحمراء المكثفة التي توضح عملية صلب المسيح. يمكن إيجاد هذه اللوحة في أثيوبيا في متحف الفن المعاصر - مركز جِبرِكِرستوس ديستا.
زهور
المصدر: Pinterest
يوم طويل
المصدر: Pinterest
مَرّ جِبرِكِرستوس بأربعة مراحل فنية، كانت الأولى فترة استكشافية والتي سعى فيها إلى التعرف على الأساليب التي يريد الاشتغال عبرها، والخطوط التي يود استخدامها، وكيفية التعبير عنها من خلال عناصر متنوعة. في المرحلة الثانية، كانت الدوائر هي موضوعاته الرئيسية مقرونة بألوان براقة، وفي المرحلة الثالثة عرض جِبرِكِرستوس مشاعراً عميقة والتي يرجع صداها إلى سلسلة اللوحات المزخرفة ذات الألوان البراقة. أما المرحلة الأخيرة فكانت غير عادية بسبب أنها صورت الجفاف الذي شهدته أثيوبيا في 1974، وكانت هناك هالة شديدة حولها، فكل الألوان التي كانت تزين لوحاته استبدلت بألوان قاتمة.
تنوع وعدم مركزية جِبرِكِرستوس ميزته عن الكثيرين غيره، فقد كان شاعراً بالإضافة إلى كونه رساماً. ففي عالم جِبرِكِرستوس، يتوحد الرسم والشعر في زواج مقدس يعطيه القدرة على مضاعفة "ذاته" كشخص وما يحبه في الورق، و هي قدرة مدهشة.
"بصورة أساسية، هذين الشكلين الفنيين غير منفصلات. وذلك بسبب أمر واحد؛ أن كل عملية إبداعية تبدأ من الملاحظة. في الحقيقة هذين الشكلين الفنيين غير منفصلات، بالنسبة لي على الأقل. ويساعد أحدهما الآخر. يكون هناك شئ لا استطيع التعبير عنه بشكل دقيق عبر الكلمات؛ وحينها أجرب الألوان. وهناك أفكار لا استطيع ترجمتها في شكل لوحات فأستطيع أحياناً التعبير عنها عبر الكلمات" – من مقابلة جِبرِكِرستوس مع سيدني دبليو من مجلة الفنون الأفريقية عدد 1969.
لا تشبه أبياته الشعرية والتركيب اللغوي أي أحد، صور جِبرِكِرستوس قضايا "التابوه" بتفاصيل عظيمة، والدليل على كونه رساماً موجود في شعره، والدليل على كونه شاعراً موجود بين رسوماته. أُديت القليل من أشعاره كأغاني، وأكثر أشعاره المشهورة هي Hagere (وطني)، و Ewodeshalehu (أُحِبك) واللتين حُولتا إلى موسيقى عظيمة من قبل عازف البيانو المشهور غيرما يِفراشوا والمغني وكاتب الأغاني مايكل بيلاناه.
أحبك
أشعر بآلاف السنوات
والليالي الممتدة بلا نهاية،
بأنها ملايين بالنسبة لي.
حبيبتي، أشعر باليوم يطول عندما أحبك،
أحبك.
السماوات والأرضين
وعنفوان المحيط
وهول المسافة بين شواطئ العالم
كالوردة، كالزهور المتفتحة
كرائحة الليمون، كرائحة البخور.
أحبك
كنحلة اكتشفت الوردة
ك-ف-ر-ا-ش-ة جائلة في الأدغال
حبك، مع حبي.
دعيني أتذوق حبك.
مارغا
المصدر: Pinterest
كان جِبرِكِرستوس رجلاً غامضاً، ولم يعرف الكثير عنه. هناك إشاعة عن عشيقة ألمانية له، لكن ليس هناك ما يعرف عنها سوى أن اسمها كان مارغا وقد رسم بورتريه من أجلها. وبينما كانت أعماله الفنية للعامة، إلا أن حياته الشخصية كانت غامضة كلياً.
لم يكن الوضع السياسي مستقراً في أثيوبيا في 1979 بالنسبة لـ جِبرِكِرستوس، ومتذرعاً بمعرضه في كينيا، هجر جِبرِكِرستوس بلده الأم التي أحبها كثيراً، ومن كينيا انتقل إلى ألمانيا قبل أن يستقر أخيراً في أوكلاهوما في الولايات المتحدة الأمريكية. أقام معرض واحد فقط في أوكلاهوما قبل أن يتوفى بعد ذلك بفترة قصيرة إثر مرضه في عمر الـ 49. وخلال فترة حياته القصيرة، واجه جِبرِكِرستوس الكثير من التحديات، وقدم لمواطني أثيوبيا أعمال فنية وشعرية غير اعتيادية. ولا يخلو أي مكان من أعماله، فهو واحد من الرواد الفنيين لكن لا يتم الاحتفاء به كما يجب.