هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

ما زلتُ أسمع صوت خالي الباقر وهو يقول: "قاااالو كان في..."، أي "كان يا ما كان..."


كانت حكاياته الشعبية، التي روتها له جدته - جدّتنا الكبرى فاطمة - أشبه بجمرٍ دافئ في ليلة سودانية باردة، تتلألأ بالسحر، والحكمة، والضحك. كان يجلس معنا، مرتدياً جلابيته، وعيناه تلمعان، وصوته يتعالى وينخفض مع كل شخصية يتقمصها. ومع كل حكاية، كنا، أنا وأبناء خيلاني، ننتقل من البساط الذي نجلس عليه، بأعين متّسعة، إلى أماكن بعيدة: حيث قرى تتحدث فيها الحيوانات، وأنهار تحرسها الأرواح، وممالك ينتصر فيها الأذكياء على الأقوياء. لم تكن تلك القصص مجرد تسلية، كانت تاريخنا، ثقافتنا، هويتنا.


خالي الباقر. المصدر: هناء بابا


القصص التي شكّلت هويتي


مثل كثير من أبناء المغتربين ذوي الثقافات المزدوجة، كنت أعيش في عالمَين - في البيت كانت حياتي "سودانية جداً"، وبمجرد أن أخرج أدخل عالماً أمريكياً تماماً.


في بيتنا، كانت أمي تروي لي حكاياتنا الشعبية عن فاطنة السمحة ومحمد الشاطر، ثم أذهب إلى المدرسة لأسمع غولديلوكس والدببة الثلاثة، والأرنب برير. وعندما نزور السودان، كنت أجد نفسي في أرض تُنسج فيها القصص في نسيج الحياة اليومية. حيث كنا نسمع القصص، والأمثال، والحِكم الخاصة بالصغار ونحن نلعب، ونحن نغفو، فكانت تملأ أيامنا من الصباح إلى المساء.


وكل جمعة، كنا - أنا وأبناء وبنات خيلاني- نتجمع بحماس في "الحوش" فناء جدتي، لنسمع أي قصة سيرويها لنا خالي الباقر تلك الليلة بعد المغيب. كانت قصصاً من كل "الأجناس الأدبية"، إن صح التعبير بمعايير القص الغربي. بعضها مضحك، مليء بحيوانات حمقاء وغول غريب الأطوار، وبعضها مرعب، عن ساحرات شريرات وزومبي جائعين، بعضها تضمن أغانٍ قصيرة كنا نغنيها معاً. ولم يكتفِ خالي برواية هذه القصص، بل كان يُمثلها، مُضيفًا مؤثرات صوتية ومُمثلاً جميع الشخصيات بشكل مسرحي. كان عرضاً رائعاً! كل قصة كانت لا تُنسى، وكل قصة حُفرت في ذاكرتي وصارت جزءاً مني.


حين انتقلت للعيش في الولايات المتحدة، حملتُ تلك القصص معي، لكنني سرعان ما أدركتُ أنها لم تُروَ خارج منزلنا. نشأ أطفال سودانيون مثلي في عالمٍ مجهولٍ لا يعرف شيئاً عن إرثهم، عالم لا تُعرض فيه حكاياتهم في الكتب، أو على شاشات التلفاز، أو داخل الفصول الدراسية. ولهذا السبب، عندما رُزقت بأطفالي، كنتُ حريصة على أن أروي لهم حكاياتنا الشعبية لأنها تراثهم هم أيضاً.


فاطنة السمحة. تصميم وضاح الطاهر


الحرب والحفاظ على الثقافة


أصبحتُ صحفية إذاعية لأنني أؤمن بقوة الصوت، وكيف يُمكن لقصة واحدة تُروى بصدق على تغيير وجهات النظر وفتح أبواب لعوالم جديدة. على مرّ السنين، أعددت مئات التقارير، كثير منها عن السودان والشتات السوداني، لكن طوال مسيرتي المهنية، كان هناك أمر يُلحّ في داخلي، حكاياتنا الشعبية.


ظللت أشعر أن هذه القصص لا يجب فقط أن تُروى وتُسمَع، بل يجب أن تصل إلى جمهور عالمي. كانت تستحق أن يعرفها العالم، تماماً مثل الحكايات الخيالية الأوروبية مثل سندريلا وهانسيل وغريتل، ومثل علاء الدين وسندباد وألف ليلة وليلة، ومثل الحكايات الشعبية الإفريقية، كـعنكبوت أنانسي، التي أصبحت معروفة أكثر فأكثر في أنحاء العالم.


قلّةٌ من الناس دوّنوا حكاياتنا الشعبية - وخاصةً باللغة الإنجليزية. هناك كتاب "كديسة" للأطفال من قبل رشا حامد. كانت لديّ كتبٌ مثل كتاب "قصص شعبية من شمال السودان" للدكتور عبد الله الطيب، أستاذ اللغة العربية الراحل، وكتاب "شيخ البطانة الذكي" لعلي لطفي. لكن لم يقم أحدٌ ممن أعرفهم بتسجيلها صوتياً لجمهور عالمي، فقررتُ أن يكون هذا هدفي.


لذا، على مر السنين، كنتُ أجمع القصص من أمي، وخالاتي، وخالي، بين الحين والآخر، ومن هنا وهناك، لبناء هذا المشروع. وفي الوقت ذاته، بدأت أروي قصص عائلتي لطلابي في مدرستنا السودانية المجتمعية - بلغة هجينة من العربية والإنجليزية. وقد لاقت هذه القصص رواجاً كبيراً بين هذا الجيل الجديد من أطفال المغتربين السودانيين!


الهدية. تصميم وضاح الطاهر


لكن عندما اندلعت الحرب في السودان في أبريل 2023، أدركتُ أن عليّ بذل المزيد من الجهد.


مع كل صورة رأيتها لمؤسساتنا الثقافية وهي تُدمَّر، مع كل فيديو يُظهر جموع الناس يفرّون من الحرب طلباً للأمان في بلدان أخرى، مع كل خبر عن كبار السن الذين وافتهم المنية بعد أن بلغوا برّ الأمان في دول الجوار - كان الشعور بداخلي يتنامى: يجب أن أحفظ هذا الإرث.


مثل ملايين غيري، بات بيت جدتي، حيث كان خالي يروي لنا حكايات شعبية لا حصر لها، خالياً - حيث فرت عائلتي من العنف. خالاتي، وأبناء خيلاني، ونعم - خالي الباقر أيضاً - جمعوا حقائبهم، تركوا منازلهم، وخاضوا رحلة محفوفة بالمخاطر للخروج من البلاد والنجاة.


كشخص من أبناء المغتربين، كثيراً ما نشعر بالعجز عندما تضرب الكارثة أوطاننا وأهلنا. هناك وجعٌ دائم، ورغبة لا تهدأ في المساعدة - أما أنا، فكان لديّ دافع لا يمكن إنكاره: الحفاظ على التراث. بينما كنت أشاهد مغتربين آخرين يدافعون عن ثقافتهم في مجالاتهم في القاهرة، كمبالا، لندن، نيويورك - الموسيقيين، الرسّامين، مصممي الأزياء، صانعات العطور، الكتّاب والشعراء - وعرفت أن الوقت قد حان.

 

قالت توني موريسون: "حين تعرف اسمك، تمسّك به... لأنه إن لم يُدوّن ويُذكر، فسيموت بموتك." وأنا شعرت بخوفٍ حقيقي - أن هذه القصص، إن لم نعمل على حفظها الآن، فقد تختفي إلى الأبد.

 

لذا، في أبريل 2024، نفضت الغبار عن دفاتري القديمة، واستخرجت المقاطع الصوتية التي سجّلتها مع خالي، وبدأتُ العمل. واليوم، بعد عام كامل، وبعد مرور قرابة عامين على اندلاع الحرب - ها هو المشروع يرى النور: "حكايات شعبية من السودان" - مجموعة من القصص الصوتية التي سمعتها من عائلتي.


شعار حكايات شعبية من  السودان. المصدر: هناء بابا


من كريت العنزة الشقية، إلى فاطنة التي تفوقت على الغول، تبدو لي هذه القصص بمثابة كنز دفين مليء بالذاكرة الجماعية الثمينة. تُحاكي الصيغة الصوتية تجربتنا التقليدية في سرد القصص الشفهية، وقد حرصت على أن تكون القصص باللغة الإنجليزية، حتى يتمكن العالم كله من التعرّف على زاوية من ثقافتنا - والتعرف على السودان - بعيداً عن السرديات المألوفة عن الحرب والفقر، تلك التي كثيراً ما تُقدَّم كالصورة الوحيدة لنا ومواجهة "القصة الواحدة" كما وصفتها الكاتبة النيجيرية شيماماندا أديتشي.

 

ورغم أن القصص في هذا الموسم الأول مستمدة من عائلتي ومن ركني الخاص في السودان، إلا أنني أطمح لاستكشاف القصص من كل رقعة في النسيج الغني والمتنوع للتراث الشعبي السوداني. سأجلب حكايات من دارفور، مثل سالي فاو حمر، ومن جبال النوبة، والشرق، وحتى النوبة شمالاً - من خلال مقابلات وجمع الروايات من الناس المنتمين إلى تلك المناطق. هناك الكثير من القصص التي لا أطيق الانتظار حتى أشاركها مع العالم.

 

هدية لأطفال المغتربين السودانيين


في أعماقي، كنت أريد أن تكون هذه القصص هدية لآلاف الأطفال السودانيين الذين نشأوا في المهجر - أطفال يعيشون في بلدان اللغة العربية ليست لغتها الأولى، أطفال يفهمون ويستوعبون الأمور أسرع باللغة الإنجليزية. أطفال كانوا مثلي، ويشبهون أطفالي الآن.


لقد انفصلوا عن تفاصيل الحياة اليومية في السودان، وعندما يتعلّق الأمر بالمحتوى الموجّه خصيصاً للأطفال السودانيين، غالباً ما يُنسَون. فهناك كمّ هائل من المواد الثقافية الجميلة المتاحة للأطفال السودانيين الناطقين بالعربية، لكن إخوتهم المغتربين يفوّتونها بسبب حاجز اللغة - وهذا يعني أيضاً أنهم يفقدون فرصة التواصل مع إرثهم الثقافي.


لكنهم - هم أيضاً - يستحقون أن يعيشوا ثقافتهم، وأن تصل إليهم بلغتهم التي يفهمونها. لهذا، ولأول مرة، تُروى هذه الحكايات الشعبية بطريقة تمزج بين اللغة الإنجليزية وبعض العبارات والمصطلحات من العربية السودانية التي يسمعونها في البيت - مثل "إزيكم!" و"حبوبة"، وتتناول الشخصيات أطعمة يعرفونها مثل "ملاح البامية" و"الطعمية" - وهي مزيج من اللغتين الإنجليزية والعربية السائدة في بلاد المهجر.


وبهذه الطريقة، يستطيع الأطفال السودانيون في المهجر مشاركة هذه القصص مع أصدقائهم غير السودانيين. فهذا يساعدهم على الاعتزاز بهويتهم وأصولهم، وهو أمر في غاية الأهمية، خاصةً للأطفال الذين يكبرون كأقليات في بلدان مثل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وكندا، وأوروبا، وأستراليا. هؤلاء أطفال دائماً ما يبحثون عن محتوى سوداني ليشاركوه في مدارسهم، مع أصدقائهم، مع معلميهم. تتوفر الكتب والقصص بسهولة في الثقافات الأخرى، ولكن عندما يتعلق الأمر بالسودان، يكاد يكون من الصعب عليهم مشاركة ما يفهمه أقرانهم. الأمر يتعلق بالتمثيل والتواصل، وضمان أن يكون لأطفالنا وثقافتنا مكان في الحوارات العالمية.


سجّلوا قصص أجداداكم


لو كان لديّ رسالة واحدة أوجهها، فستكون هذه: أناشدكم - سواء كنتم سودانيين أو من المؤمنين بقوة الثقافة - أن ترووا قصصكم. سجّلوا قصص أجداداكم، انقلوا الأغاني، والأمثال، والحِكم الخاصة بكم. إن كنت فناناً، فابتكر. وإن كنت معلّماً، فاحكِ تاريخنا. وإن كنت أباً أو أماً، فاجعل أبناءك يسمعون أصوات أجدادهم.


السودان ليس مجرد مكان مضطرب تمزقه الصراعات، بل هو أرض الشعراء، والموسيقيين، ورواة القصص، والحالمين. وما دمنا متمسكين بقصصنا، فلن يُمحى السودان أبداً.


هنا بابا

هنا بابا هي صحفية إذاعية سودانية-أمريكية حائزة على عدة جوائز، ومقدمة مشاركة في بودكاست The Stoop. تقيم في سان فرانسيسكو وتُقدّم برنامج Crosscurrents على محطة NPR KALW، حيث تُغطي مواضيع الثقافة والشتات والهوية. نالت أعمالها تقديرًا من الرابطة الوطنية للصحفيين السود وجمعية الصحفيين المهنيين. تُدرّس هنا الصحافة الصوتية، وتعمل كمدربة صوتية وراوية، كما تنشط في مجتمعها السوداني المحلي، حيث تُدرّس مادة دراسات سودانية للأطفال السودانيين في المهجر..