عندما أجبرت الحرب في العاصمة السودانية التوأم عُلا وعمرو، البالغان من العمر 16 عامًا، وهما طالبان في عامهما الأخير في المدرسة الثانوية، على مغادرة منزلهما في شمبات، شمال الخرطوم، والسفر إلى بورتسودان، تمسكا بفكرة أن الأمر مسألة وقت وأن كل شئ سيعود كما كان. لقد حملوا كتبهم معهم، ولكن بعد مرور عام، ظلت تلك الكتب نفسها في سبات عميق، محشورة في صندوق في زاوية غرفهم، تهمس بعدم يقينها بشأن اليوم الذي سيتم فيه إعادة فتحها.
مثل عُلا وعمرو، هناك ما يقدر بنحو 19 مليون طفل في السودان خارج المدرسة وفقًا لمنظمة اليونيسف، مع تفاقم الحرب الوحشية بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية منذ أكثر من عام مع نزوح 11 مليون فرد، داخل السودان وخارجه، وفقًا للمنظمة الدولية للهجرة، تعتبر هذه الأزمة الآن أكبر أزمات النزوح على مستوى العالم.
كتب عُلا وعمرو المهجورة. المصدر: رانيا الحسن أحمد
تكبد قطاع التعليم خسائر فادحة
للأسف، كان وضع التعليم في السودان كارثيًا خلال السنوات القليلة الماضية، وتوقفت السنوات الدراسية عدة مرات لأسباب سياسية وبيئية وطبية، مثل بداية الثورة في 2018، والإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير عام 2019 وهناك أيضًا إنقلاب 2021، والفيضانات الغزيرة غير المعتادة وجائحة فيروس كورونا في عام 2020. لقد حرمت الحرب المستمرة الأطفال والطلاب الصغار من حقهم في التعليم وحرمتهم من مسار التعلم الطبيعي.
وتأثرت العديد من مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة في السودان، وكذلك المراكز البحثية والجامعات العامة والخاصة، مثل جامعة النيلين، وجامعة الأحفاد في مدينة أم درمان، وجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، وجامعة الجزيرة، وجميع عمليات التدمير التي أدانتها بشدة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. حيث أدى هذا إلى زيادة تكاليف الحرب بشكل عام وعلى التعليم بشكل خاص؛ - متسبباً في توقف المدارس ونقص الموظفين المؤهلين والمهرة الذين يساهمون في النمو الإقتصادي والإبتكار وبناء الوطن.
لقد حرمت أحداث الصراع الكارثية الأطفال وطلاب الجامعات من الوصول إلى الخدمات التعليمية و حدت من إمكانات أجيال بأكملها. المصدر: إسراء
وجه آخر للحرب
واجه السودانيون العديد من العقبات في الهروب من الحرب في السودان والفرار إلى الدول المجاورة. لم يكن السفر من السودان إلى الدول المجاورة مثل مصر سهلاً بعد تدمير مطار الخرطوم وإلغاء جميع الرحلات الجوية. ولا يزال هناك عدد كبير من السودانيين الذين يحاولون العبور براً، لكن السلطات المصرية شددت الرقابة على الحدود. حيث يُطلب من النساء والأطفال السودانيين حمل تأشيرات دخول وهو ما لم يكن إلزاميًا قبل الحرب. فتقطعت السبل بالعديد من السودانيين في بلدات حدودية يواجهون المجهول.
ومع استمرار القتال بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية، يواجه الطلاب التحدي المتمثل في مواصلة تعليمهم وسط الإضطرابات. محمد عيسى، طالب جامعي في السنة الثالثة من كردفان، يسلط الضوء على الرحلة الصعبة التي قام بها للحصول على مكان في قائمة تأشيرات الدخول لمصر في المجلس المصري في بورتسودان. ويروي، واصفًا إياها بالعملية المرهقة، كيف كان المتقدمين يتحملون أيامًا من الإنتظار خارج السفارة للحصول على تأشيرات الدخول. ويلوح في الأفق خوف دائم من إحتمال تفويت فرصتهم لإكمال طلباتهم الأكاديمية في مصر بسبب الشكوك المحيطة بدخولهم إلى البلاد.
يعلق محمد: “تصاعدت تكاليف رسوم التسجيل بالجامعات وشكل ذلك عبئاً مالياً كبيراً على الطلاب، ووصلت النفقات إلى آلاف الدولارات، ولكن على الرغم من الإستثمار المالي الكبير المطلوب، ليس هناك ما يضمن أن الطلاب سيتمكنون من دخول مصر بسرعة لإنهاء إجراءاتهم في الوقت المناسب.
نجحت رفيدة، وهي طالبة في كلية التربية تخصص رياض الأطفال، في الحصول على القبول في إحدى الجامعات في مصر. ومع ذلك، واجهت رحلتها الأكاديمية إنتكاسة كبيرة حيث اضطرت إلى تعليق عامها الدراسي الأول. حيث أن الإجراءات الطويلة في السودان بسبب الحرب جعلتها تجدد جواز سفرها وتنتظر تجهيز تأشيرات الدخول، حيث اُستهلك وقتها الثمين في هذه الإجراءات. أدت هذه التأخيرات التي لا مفر منها إلى توقف التقدم التعليمي لرفيدة، مما يؤكد التحديات التي يواجهها الطلاب بسبب التعقيدات الإدارية والعقبات الإجرائية.
لقد حرمت أحداث الصراع الكارثية الأطفال وطلاب الجامعات من الوصول إلى الخدمات التعليمية و حدت من إمكانات أجيال بأكملها. المصدر: إسراء
مصطفى، 20 عامًا، طالب هندسة مدنية في جامعة كرري، كان يسعى للحصول على منحة أكاديمية لإستئناف دراسته في مكان آخر خارج السودان، ولكن لسوء الحظ بسبب الحرب المستمرة، أوقف المجلس الثقافي البريطاني جميع العمليات بما في ذلك امتحانات ILETS، مما حرمه هو والباحثين عن التمويل والتعليم الأفضل من استكمال شهادة اللغة المطلوبة في طلبات المنح الدراسية.
واستأنفت بعض الجامعات التي كانت تقع في مناطق النزاع مثل جامعة الخرطوم الدراسة من خلال التعلم الإلكتروني، كما قامت بعض الجامعات مثل جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا بنقل طلابها إلى بلدان أخرى. وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها الإداريون لإستئناف العام الدراسي، إلا أنه يواجه عقبات كبيرة بسبب تزايد انتشار الحرب في مختلف المدن، ومحدودية الإتصال بالإنترنت، والتحديات التي يفرضها نزوح الطلاب. تمثل هذه العقبات عوائق أمام نجاح إعادة الإجراءات الأكاديمية، مما يسلط الضوء على مدى صعوبة العودة إلى الحياة الطبيعية في المؤسسات التعليمية وسط مثل هذه الظروف.
هل هناك ضوء في نهاية النفق؟
في مدينة بورتسودان الساحلية، استغلت الصغيرة عدن، البالغة من العمر 13 عامًا فقط، إبداعها وروحها الإبتكارية، وقد تحول اهتمامها بصناعة الإكسسوارات المعقدة من الخرز إلى عمل تجاري ناجح، مما يمثل إنجازًا رائعًا في مثل هذا العمر الصغير.
تطلعنا عدن على أدوات صنع الإكسسوارات الخاصة بها. المصدر: رانيا الحسن أحمد
وبجانبها، تقف فاطمة، أختها الكبرى البالغة من العمر 17 عامًا، عند مفترق طرق. عالقة في السنة الأخيرة من المدرسة الثانوية بسبب هذه الأوقات المضطربة، وفي حيرة من معضلة الإنتظار حتى إعادة فتح المدارس في نهاية المطاف أو البحث عن مسار بديل لإكمال تعليمها في الخارج. وفي خضم حالة عدم اليقين هذه، لجأت إلى نادٍ لتعلم الغة الإنجليزية، مستغلة وقتها في تعزيز مهاراتها اللغوية.
بالإضافة إلى ذلك، اكتشفت موهبة وليدة في خياطة الحقائب وعصابات الرأس الرائعة، وهو العمل الذي نال إعجاب وتقدير من حولها. في وسط الظلام، نسجت هاتان الشقيقتان خيوطًا من الإبتكار والمرونة، هازمات التحديات في رحلتهم المستمرة.
قامت فاطمة بخياطة حقيبة يد على شكل قلب وعصابة رأس من الزهور. المصدر: رانيا الحسن أحمد
بالانتقال إلى أرض السمسم، في قلب مدينة القضارف، وجدت الشقيقتان آية وإسراء، البالغتان من العمر 14 و16 عامًا، نفسيهما عالقتين في اضطرابات الحرب التي عطلت تعليمهما، مما يعكس الإضطرابات التي واجهتها عدن وفاطمة في بورتسودان. وعلى الرغم من التحديات والخوف من وصول الحرب إلى مدينتهم، إلا أنهم اختاروا توجيه طاقاتهم نحو قضية أكبر منهم.
في المعركة ضد خطر مرض الكوليرا الذي اجتاح القضارف، شاركت آية وإسراء في حملات التوعية، وامتد تعاطفهم إلى ما هو أبعد من الكلمات حيث شاركوا في تطعيم عدد لا يحصى من النازحين داخليًا الذين لجأوا إلى مدرسة القضارف.
ولم تتوقف جهودهن عند هذا الحد، على الرغم من ندرة الموارد مثل الدفاتر وأقلام الرصاص والسبورات البيضاء، كرست آية وإسراء وقتهما بإخلاص لتعليم أكثر من مائة طفل نازح في حيهما. وفي وقت يمكن وصفه بأنه ملئ بأحاسيس مثل عدم اليقين، برزت الأخوات الصغيرات في السن كمنارات للصمود والرحمة، وجسدن روح التضامن والخدمة المتأصلة في قلوب الشعب السوداني.
أطفال نازحون يتعلمون في مدارس القضارف. المصدر: رانيا الحسن أحمد
وسط الإضطرابات التي يعيشها السودان، يظهر بصيص من الأمل. لقد احتضن الأطفال والمراهقون والشباب هذا الظلام بالسعي وراء النور. لقد أصبح إغلاق المدارس والجامعات فرصة غير متوقعة لإزدهار مواهب ونمو إهتمامات جديدة. في سكون الاضطرابات، يبحثون عن العزاء في الهوايات والمهارات، ويكتشفون الإلهاء الذي يغذي عقولهم وأرواحهم في تهدئة الاضطرابات، ويحمي أرواحهم الرقيقة من حقائق الحرب القاسية.