تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة لحرب السودان. تعكس الآراء الواردة في هذه المقالة آراء المؤلف فقط وليس آراء أندريا. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا
"ذهبوا ! لم يطرزوا ذاكرتهم بوطن….
قالوا هناك على الأرصفة تباع الأوطان…."
“عبد الحفيظ العابد”
يتباين مفهوم الوطن اليوم لدى السودانيين المشتتين عبر بقاع العالم المختلفة بين نازح ولاجئ وطالب لجوء؛ بين مهاجر يتابع أخبار الموت والمرض والجوع من ذويه الذين لا زالوا يعانون داخل الوطن تحت نيران حرب الخامس عشر من أبريل، وبين مقيم في حدود دويلات أخرى ينتظر إذن الدخول؛ بين طالب وطالبة لا يعلمون متى تضع هذه الحرب أوزارها ليكملوا عامهم الدراسي علّه بذلك يحقق بعض من أمل بغد أفضل. وبين والد ووالدة محدقين بأعينهم نحو السماء تضرعاً وصلاةً بأن يتمكنوا في يوم من الأيام من العودة إلى منازلهم. بين هذا وذاك حسب إحصائية مفوضية اللاجئين يقدر عدد النازحين داخلياً واللاجئين خارجياً بما لا يقل عن 12 مليون فرد، شريحة كبيرة جداً من المواطنين السودانيين أسدلت عليهم أوزار الحرب ستار الشتات وانتظار المجهول.
في هذا المقال نرتحل عبر قصص فنانين سودانيين لاجئين بدولة أوغندا يستخدمون الفن كأداة لخلق جسر من التواصل بين الثقافات السودانية المتنوعة والثقافات الأوغندية في محاولة منهم لتعريف الشعب الأوغندي بالشعب السوداني وآثار الحرب عليه.
حين يصبح الفن أداة الحرية ومدخل للأمان:
"في صباح الخامس عشر من أبريل لم يكن بيدي شيء سوى التحول من صانع أفلام إلى صحفي مرئي ومراسل من داخل العاصمة الخرطوم أغطي أحداث النزاع إلى أن أصبح من الصعب استمرار العمل الصحفي، إنتقلت إلى مدني حاضرة ولاية الجزيرة في ظل عودة النظام الدكتاتوري السابق تحت مظلة الحرب حيث لم يترك لنا خيار سوى مغادرة السودان بعد محاولة صمود ومقاومة دامت 90 يوماً تحت القصف والنيران اقتنعت خلالها بأنه لا توجد مساحة للحركة فالطرفين لا يحترمون حقوق الصحافة والصحفيين"
محمد التاج
انتقل محمد التاج إلى العاصمة الأوغندية كمبالا وفيها بدأت إقامته الفنية تحديداً بمركر“32 ايست” وهو مركز ثقافي يدعم الفنانين من مختلف البلدان بأن يتيح لهم مساحة لإنشاء أعمالهم وعرضها على المجتمع الأوغندي.
معرض 32 ايست كمبالا أوغندا 2024 - المصدر محمد التاج
استطاع محمد التاج من خلال الإقامة الفنية الممنوحة له عمل أول معرض تصوير له خارج السودان ولكن ما لم يستطع الفكاك منه هو فصل ذاته عن هموم وآمال شباب وشابات جيله من ثورة ديسمبر التي سطر التاريخ لها عقبات جمة، بانقلاب عسكري على مبادئ الثورة من حرية وسلام وعدالة.
معرض جامعة ماكريري 2024 - المصدر محمد التاج
جسد معرض محمد التاج بانوراما تصويرية سرد من خلالها الخارطة النضالية للفترة 2019 وحتى 2022م من مجموعة صور بسيطة استطاع العبور بها وسط التدهور الأمني والاستهداف الذي كان يتعرض له كصحفي ملاحق وكثوري مطلوب بواسطة الأجهزة الأمنية القمعية.
معرض 32 ايست كمبالا أوغندا 2024 - المصدر محمد التاج
ما وجده كل زائر للمعرض كان ذاكرته التي حاول النظام الحاكم مسحها والمطالب التي راح ضحيتها شهداء وشهيدات من خيرة شباب الشعب السوداني استطاع محمد التاج من خلال المعرض من توجيه أعين الحضور إلى سلمية الشعب السوداني وثباته على مطالبه التي لا تشبه ما يسود الإعلام من خطابات كراهية وتعزيز للتفرقة بين الإثنيات العرقية التي تشكل مجموع الشعوب السودانية.
معرض 32 ايست كمبالا أوغندا 2024 - المصدر محمد التاج
أوجد محمد التاج من خلال الفنون البصرية رسائل المحبة والسلام والحرية التي كان يحملها الثوار في الشارع مساحة لمعرفة حقيقية لجيل ديسمبر ومن خلال معرضه أرسل رسالة مناهضة الحرب وخطاب الكراهية.
محمد التاج - تصوير مصعب علاء
26 يوماً من الصمود
ضمت العاصمة الأوغندية عدد من الفنانين السودانيين اللاجئين بمختلف خلفياتهم ومدارسهم الفنية من بينهم المصور الصحفي ذو التسعة عشر عام "عمار ياسر"والذي خاض رحلة نزوح صعبة استطاع من توثيقها بكاميرا هاتفه المحمول. حاز عمار على المركز الرابع في Ian Parry Photojournalism Grant على مشروعه المصور الذي يحمل إسم "26 يوم" برغم من صعوبة التصوير واستحالة حمل كاميرا في شوارع مدينة الرنك في دولة جنوب السودان.
مشروع 26 يوم -المصدر عمار ياسر- صورة بعنوان "الإنتظار"
مشروع 26 يوم - المصدر عمار ياسر - صورة بعنوان "البحث عن الماء"
يحكي عمار ياسر من خلال مشروعه المصور صعوبة الحياة في المعسكر وصمود الشباب والشابات في انتظار الخروج واللجوء في دول مجاورة.
مشروع 26 يوم - المصدر عمار ياسر - صورة بعنوان "ساحة الانتظار"
عند وصول عمار لكمبالا قام بزيارة معرض مسابقة تصوير صحفي في أوغندا Uganda Press photo والذي تعرض في صدره صورته الحائزة على المرتبة الثانية والتي تحمل إسم "تضارب" "conflicted" تروي الصورة المعاناة النفسية للشباب بعد حرب الخامس عشر من أبريل في السودان.
الصورة الحائزة على جائزة المركز الثاني "متضارب" - المصدرعمار ياسر
يقول عمار إن هذه الجائزة السنوية ذات قيمة تنافسية عالية في منطقة شرق أفريقيا والفنانين يحضرون لها كل ما هو جديد ومبتكر من وسائل التصوير وما يشعره بالفخر هو فوز 6 مصورين سودانيين من دول اللجوء ب 6 جوائز تصوير من أصل تسعة جوائز.
مشروع "كراسي و قصص" - المصدر عمار ياسر
عمار صاحب مشروع "البحث عن وطن" يأمل في مقبل الأيام أن يتمكن من إقامة معرض مصور في العاصمة كمبالا ليُعرِّف المجتمع الأوغندي بما كان عليه السودان وما أصبح عليه الحال الآن في محاولة منه لخلق مساحة من المعرفة وجسر من التواصل بين الشعبين السوداني الاوغندي عامة ومجتمع الفنانين خاصة؛ حيث إنه يرى أن الموسيقى وسيلة تواصل أسهل وأسرع ولكنه يؤمن بأن الصورة ذات تأثير أيضاً، ويعي مسؤوليته كمصور صحفي لاجئ في دولة جارة لإستخدام فنه للتوثيق و التواصل.
مشروع البحث عن الوطن صورة بعنوان "المنزل تقريبا" - المصدر عمار ياسر
مشروع البحث عن وطن صورة بعنوان "لم الشمل" - المصدر عمار ياسر
جداريات الأمل والتلاقح الثقافي
نفس الأمل في خلق الامتداد الثقافي وجعل التعايش الفني رسالة يوصلها الفنانين السودانيين اللاجئين إلى العالم هو ما يحمله التشكيلي حمزة هارون بعد وصوله أوغندا.
معرض منظمة عوافي 2024 - المصدر حمزة هارون
حمزة فنان تشكيلي وأستاذ مساعد متعاون بجامعة النيلين، كلية الفنون الجميلة والتصميم، واجه حمزة تحديات متعددة في بداية وصوله كمبالا بسبب حاجز اللغة واختلاف الثقافة الفنية. إلا أنه تمكن من استغلال هذه الفرصة لتعزيز معرفته الفنية والتشكيلية. حصل حمزة على إقامة فنية مدتها ثلاثة أشهر في "32 ايست" خلال هذه الفترة قام بتطوير أعمال فنية تعكس الصراع الدائر في السودان. كما عمل على دمج عناصر من الفن التشكيلي السوداني مع الثقافة الفنية الأوغندية، مما أتاح له فرصة للتبادل و المزج بين الثقافتين وتحديد أوجه شبه.
معرض 32 ايست كمبالا أوغندا - المصدر حمزة هارون
أقام حمزة معرضاً فنياً يتناول قضية الصراع في السودان، مستخدماً الرسم التشكيلي كوسيلة للتعبير عن المعاناة والآمال. طرح من خلال أعماله الفنية سردية تبعث الأمل والتفاهم بين الثقافات المختلفة، مشدداً على أهمية الفن كأداة للتواصل.
معرض 32 ايست كمبالا أوغندا - المصدر حمزة هارون
يعتبر حمزة الآن من فناني الجداريات المتميزين والمعدودين في كمبالا و يقول "هذه الجداريات تعبر عن التجارب الإنسانية وتعزز من الوعي حول الصراع ومشاعر التعايش".
من خلال جداريته "دارلين" يقول حمزة "أهمية الثقافة والفن تكمن في بناء شخصيات أفراد المجتمع وتنمية قدراتهم الشخصية من خلال تحفيز الخيال والإبداع، مما يزيد من معدلات قدراتهم الإجتماعية والمعرفية والعاطفية والإنسانية التي تزيد قيمة الفرد المجتمعية وفقاً لمرتكزات الرؤية".
جدارية بعنوان"دارلين"- المصدر حمزة هارون
جدارية بعنوان " الفن من أجل السلام" - المصدر حمزة هارون
التجلي الموسيقي
ما يجمع حمزة والتاج وعمّار هو الفنون البصرية وقوتها الكامنة في خلق جسور للتواصل الثقافي، مما يمنح الفنانين اللاجئيين السودانيين الفرصة لتبادل الفنون والثقافات وخلق واقع ثقافي ثري بالتجارب المختلفة والمحاولة لجعل اللغة البصرية لغة عالمية يجتمع حولها الفنانون.
إلا أن جميعهم يتفقون في أن الموسيقى هي لغة الفنون العالمية الأولى والأداة الأساسية في نقل الثقافات والتجارب، وهو ما يجسده فنان الراب السوداني الشاب مازن بيتر من خلال أغانيه وكلماته التي تربط بين المكونات الثقافية المتعددة من الشعوب السودانية وما يراه بيتر من تشابه في التركيبة الديمغرافية لشعوب أوغندا والسودان.
مازن بيتر - المصدر الفنان
في أغنية "هستيريا" يستخدم بيتر مفردات باللهجة الدارجية الأوغندية حيث يقول:
سيبو يوز بودا بودا امشي فتش محل شغل
ما تجني جوا اوضة عوسو كسرة جوا تكل
معنى مفردة "سيبو" باللهجة اليوغندية هي الشاب، وبودا بودا هي الدراجة النارية وهي وسيلة مواصلات شائعة الاستخدام في دولة أوغندا. ما يحاول بيتر توصيفه من خلال هذا المقطع هو دعوة الشباب السوداني اللاجئين للسعي والعمل وعدم الإستسلام والإحباط. مما ظهر جلياً في تشبيهه لمن هم ينتظرون بدون عمل وعدم القدرة على خوض الواقع الجديد بالجلوس في التكل وهو مكان الطبخ في المنازل التقليدية السودانية حيث يصنعون الطعام.
الصورة من أغنية "حرب و سلام" - المصدر محمد التاج
شارك بيتر في مهرجان "نيقي نيقي" بمجموعة من الأغنيات تحمل كلماتها رسائل الحب والسلام تروي واقع الشباب السوداني إبان ثورة ديسمبر المجيدة وكيف أن الشباب ذاته هو الآن وقود العمل التطوعي ودعاة السلام في السودان في محاولة جادة منه لتعريف مجتمع الفن الأوغندي بالفن السوداني وهمومه وقضاياه، والرسائل التي يتضمنها هذا النوع من الفنون.
مهرجان "نقي نقي"2024 - المصدر مازن بيتر
تعتبر الفنون واحدة من البوابات التي تعبر بالأفراد إلى عوالم السلام والمحبة وتعزيز مبادئ التعايش والانسجام بين الشعوب وهو ما يحاول الفنانين السودانيين اللاجئين حالياً في دولة أوغندا فعله، وما يتعاملون معه بالمسؤولية الكبيرة في ظل واقع مرير يقاسونه ويعانيه معظم الشباب داخل وخارج السودان.
النقطة المضيئة هي استيعاب مدينة كمبالا لهذا الاختلاف ومدها جسر للتواصل عبر المعارض والإقامات الفنية والمهرجانات المحلية والدولية وفتح باب المشاركة لهم حتى تخلق بينهم لوحة ثقافية تجمع الاختلافات في شكل متسق يسمى بالفن الافريقي.