بلغت انتفاضة السودان الآن أكثر من شهر من العمر، وما زالت الاحتجاجات مستمرة بالرغم من عمليات القتل العديدة والإغلاق المتقطع لوسائل التواصل الاجتماعية وعمليات الاحتجاز و القمع التي تقوم بها الحكومة السودانية. بدأت الانتفاضة في عطبرة و المدن المجاورة، حتى إنتفضت الخرطوم وأشعلت موجات من الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد المتعبة. كان الوضع مليئا بالعواطف حيال الانتفاضة في جميع أنحاء السودان، و انتقلت تلك المشاعر لجنوب السودان، متذكرين حكم عمر البشير المستبد. في الأسابيع القليلة الماضية من الانتفاضة أبدى الجنوب سودانيين أسفهم عبر وسائل التواصل الاجتماعية، وعبروا عن مدى سخطهم على البشير.
كان رد الفعل على وسائل التواصل الاجتماعية بين الجنوب سودانيين على انتفاضة السودان مختلطاً، ولكنه دعم بشكل كبير وتضامن مع إخواننا وأخواتنا شمال الحدود. اتفقت المجموعة الداعمة لجنوب السودانيين جميعها على أمر واحد: على البشير ان يرحل ، إنه طاغية ، و ظل في السلطة لعقود طويلة.
هناك من أدان الانتفاضة (رغم قلة عدد من فعل ذلك علانية)، وكانت أسبابهم على ما أعتقد مشروعة تمامًا. إن التردد الملحوظ من قبل بعض الجنوب سودانيين كان في المقام الأول بسبب توسط البشير و الرئيس الأوغندي يوري موسفني في اتفاق السلام الأخير الذي وقع في سبتمبر 2018 بين الرئيس سالفا كير وزعيم المعارضة الدكتور رياك مشار. وقد أشار البعض إلى أنهم لا يستطيعون دعم الانتفاضة لأن الانتفاضة يمكن أن يكون لها تأثير ضار على عملية السلام في جنوب السودان. من غير المستغرب أن تكون حكومة جنوب السودان داعمة للبشير، حيث صرح مؤخرا وزير النفط ايزيكل غاتكوث بأن الحل ليس بإزالة البشير، بل بتحسين الاقتصاد. هذا يبين تشابك العلاقات بين الشمال والجنوب، قاسما بذلك الآراء حول دعم الانتفاضة.

Source: Twitter
شخصياً، كنت حريصة جداً على إظهار دعمي للانتفاضة. و منذ بدايتها، كنت صاخبة جدا حيال هذا الدعم. أعتقد أن السودانيين يستحقون أفضل مما هم عليه الآن. ومع ذلك، لا بد لي من الاعتراف بأنني أفكر و أسأل، لماذا؟ هل كانت التكلفة المرتفعة للخبز هي التي أشعلت الأمر؟ هل كان حقاً إرتفاع تكاليف الوقود هو الكفيل بذلك؟ بالطبع، كان حكم البشير الذي استمر لثلاثين عامًا وراء هذه الاحتجاجات، لكن الأسئلة تبقى.
إن انتفاضة السودان الحالية واحدة من العديد من الأحداث في السودان منذ استقلاله. مرة في 1964 و 1985 و إحتجاجات واسعة في 2011 و 2012 و 2013. الأسباب الكامنة وراء ذلك كانت الفساد، والتقشف، والبطالة، و غياب حرية التعبير. لا تزال هذه الأسباب مصاحبة للانتفاضة الحالية، باستثناء عام 1964 ، حيث لعبت مشكلة الجنوب (النزاع بين شمال وجنوب السودان) دوراً بقيادة الجنوب سودانيين.
وبالعودة إلى أسئلتي الأساسية ، فلا أقوم بنزع الشرعية عن الانتفاضة أو عن ما يشعلها. المعضلة بالنسبة لي هي الاعتقاد بأن أي شيء يؤثر على حياة الآخرين يجب عليه أن يشعل الكثير من الانتفاضات المختلفة في السودان. من وجهة نظري، كان ينبغي للحرب التي شنتها الحكومة السودانية على السودانيين في دارفور، وكردفان، و النيل الأزرق وجنوب السودان، أن تكون السبب وراء الاحتجاجات الكثيفة التي نشهدها اليوم. لقد تألمت إلى حد ما لأن هذا الاندفاع الشديد لم يحدث عندما قاتل الجنوب سودانيين الحكومة السودانية من أجل تقرير المصير، أو عندما أسقطت القنابل على جبال النوبة، أو بعد أن وجهت المحكمة الجنائية الدولية الاتهام إلى البشير بارتكاب جرائم حرب في دارفور في عام 2009 و 2010. لم يكن هناك غضب وطني في هذه الحالات كما كان ينبغي أن يكون.

Source: BBC
إن الجنوب سودانيين الذين وقفوا في صف المنتفضين ضد نظام البشير المستبد هم الذين اضطروا للاختباء بسبب التفجيرات التي شنتها طائرات الأنتونوف التابعة للقوات الجوية السودانية خلال الحرب الأهلية. أولئك الذين شاهدوا مقتل أصدقاءهم وعائلاتهم و قتل أجدادهم الذين كانوا شبابًا مثقفين في الستينيات، فقط لمجرد مناقشة فكرة حق تقرير المصير للجنوب سودانيين. هم أيضاً الذين لم يستطع أجدادهم الاستمتاع بالبنية التحتية والفرص التي تم تسليمها إلى الشمال خلال الإحتلال الانجليزي-المصري. رغم كل هذه الظروف ، ظل بعض جنوب السودانيين وخاصة الشباب داعمين للانتفاضة الحالية، ولإحداث تغيير إيجابي في السودان.
أيقظت الإنتفاضة بعض النقاش حول إعادة التوحيد على وسائل التواصل الاجتماعي، أي توحيد للسودان وجنوب السودان مرة اخرى في صورة رومانسية. هذه المشاعر والعواطف الأخوية والشقيقة لا تزال قائمة، و لا أزال أحملها بكل ود. عندما زرت الخرطوم، المدينة التي كان يعتبرها والداي كوطن لهما في يوم من الأيام، المدينة التي تزوجا فيها، شعرت أنني في وطني. ومع ذلك، لا يمكن لإعادة التوحيد إصلاح ما تم اقترافه. هذا ليس شعوراً شخصياً تجاه السودانيين، بل تجاه الألم والمعاناة التي لحقت بنا نحن الجنوب سودانيين من خلال النظام الحالي و أنظمة السودان المتتالية ما بعد الاستقلال. وعلى الرغم من هذا ، فإن تلك الروابط الخاصة بين السودان وجنوب السودان لا تزال قائمة وستظل كذلك بلا انقطاع.

Source: www.pdfkitapciniz.com
هذه الانتفاضة تهم جنوب السودان، لأنها بطاقة حمراء مشروعة ضد البشير، وهي بطاقة بدأ عدد قليل من البلدان بما فيها الولايات المتحدة بسحبها على مدى السنوات القليلة الماضية. يجب أن يعلم العالم الخارجي أنه على الرغم من إسقاط العقوبات أو تحسين العلاقات مع الخرطوم، فإن الوضع بالنسبة للسودانيين لم يتغيّر.
هذه الإنتفاضة مهمة للسودانين، لأن الجنوب سودانيين يعرفون كيف هو الحال تحت حكم البشير. هذه الانتفاضة مهمة لأن السودانيين كانوا دائماً مصممين على إحداث تغيير إيجابي في البلاد. هذه الانتفاضة، في شدتها وطولها وانتشارها، ليست مجرد نفي لهذا النظام ، إنها "لا" مدوية ، و هذه ال "لا"، أؤيدها أنا تماماً.