الجنرال باولينو ميساكا يعد واحد من المغنيين الجنوبيين المؤثرين الذين أضافوا للغناء الجنوبي في تسعينيات القرن الماضي وفي الألفية الثالثة، وذلك عبر إسهاماته الكثيرة، وما زال يساهم وبغزارة.
تمثل سيرة ميساكا مصدر إلهام للكثيرين نظراَ لما مر به في حياته، وما كاد أن ينسف مسيرته. وعلى عكس المتوقع أصبح الغيتار الذي يجيد العزف عليه أقرب أصدقائه مما ساعده على تجاوز المحنة ليسّطر إسمه مع أساطير الغناء الجنوبي.
الميلاد والنشأة
ولد باولينو في مدينة جوبا في فبراير من عام 1957م ونال إسم "لادو" لأنه الذكر الثالث في ترتيب السلم العائلي. وللذكور والإناث أسماء حسب الترتيب عند قبيلة الباري وبعض القبائل المتحدثة بالباري والتي تقطن في الإستوائية الوسطى.
إكتسب إسم باولينو لاحقاَ حين تم تعميده في الكنيسة، فإشتهر بهذا الإسم عبر مسيرته الفنية مع أن أفراد عائلته ظلوا ينادونه بإسم لادو. أما إسمه الفني فهو "الجنرال"، ويشرح معنى الجنرال
قائلاً "في الخرطوم إقترح لي بعض الأصدقاء إسم الجنرال لأستخدمه كإسمي الفني، ولكني في البداية رفضت لأنه لم يعجبني ولكن قبلت بعد إلحاحهم. وقد يتبادر إلى أذهان الكثيرين أن الإسم يعني الرتبة العسكرية الرفيعة، ولكن المقصود بالجنرال هنا وحسب شرح الأصدقاء الذين أتفق معهم هو "العام" لأن اللفظ مأخوذ من الإنجليزية. والمقصود بعام هو أن العمل الفني الذي أقوم به مع أفراد فرقتي ليس لقبيلة معينة أو لجهة ما وإنما يستهدف الجميع، فهو عام".
والده إسمه "ميساكا لوكويو لورو" من قرية دولو غربي مدينة جوبا، و كان والده يعمل موظف لدى الحكومة. ووالدته إسمها "جنتي كاكو" من قرية بيريكا بمقاطعة لانجا. ترعرع باولينو الصغير في جوبا حيث ذهب إلى الخلوة لتلقي تعاليم الدين الإسلامي وذلك في حي الملكية. مكث في الخلوة لفترة ثم بدأ بعد ذلك تلقي تعليمه الأولي.
كان ميساكا بدوام الذهاب إلي الكنيسة (كاتدرائية كتور) والمشاركة في النشاطات بعد أن ترك الخلوة. وقد إرتاح له الكهنة والراهبات لأنه لم يكن مشاغباَ مثل أقرانه وهذا ما مهد له الطريق في تعلم العزف على الآلات الموسيقية في سن مبكرة. وسرعان ما إنتقل إلى الخرطوم في عام 1972م لمواصلة تعليمه، وهناك إلتحق بمدرسة الإمتداد. في الخرطوم إستطاع باولينو الطموح في أن يوفق بين التحصيل الأكاديمي وحبه الكبير للموسيقي، وهو ما جعله يقضي معظم فترات عمره في الخرطوم قبل أن يعود إلى الجنوب بعد نهاية الحرب الأهلية الثانية.

Source: Sunday Coiuntun Okun
التغلب على المحنة عن طريق الموسيقى
منذ الصغر كان باولينو يحب الآلات الموسيقية وحين تعلم كان يعزف على آلة الغيتار كنوع من التسلية ولم يكن محترف بعد. وذلك حين كان يذهب إلى الكنيسة مع الأطفال, وعلى الرغم من صغر سنه إلا أنه كان يشارك في الترانيم وشيئاَ فشيئاَ مع فرقة العزف وأظهر نبوغه في الموسيقي.
فقد الجنرال بصره وهو إبن الثالثة والعشرون ربيعاَ إثر تعرضه للضرب. ويوضح "كنت عائد إلى البيت ذات مساء حوالي الساعة الثامنة عام 1981م حين تعرضت إلى الضرب في عينيّ. فإنكسرت النظارة التي كنت أرتديها مما ترك آثاراَ بالغة على عيني، وهو ما تطلب إجراء عملية جراحية للقرنية. وللأسف فشلت العملية ولم أعد قادراَ على الرؤية مجدداَ. فقدت بصري كلياَ".
عانت الأسرة من آثار فقدان لادو لبصره بالنظر إلى موهبته وطموحه الغير محدودين، كما أنه كان محبوب من قبل أفراد الأسرة. ولكن فقدانه للبصر لم يثنيه عن مواصلة الإبداع. فقد ركز بشكل كامل على الموسيقى بعد أن أصبح التحصيل الأكاديمي صعب عليه. وأصبح الغيتار يلازمه فيصفه قائلاَ "لقد أصبح الغيتار الصديق الشخصي بل واخ لي. حيث أني أترجم مشاعري الشخصية
له. وعبره أعبر عن حزني وفرحي". لقد ساعده موهبته في الموسيقى على التغلب على المحنة الصعبة التي كادت تدمره كلياً. يقول "الموسيقي بالنسبة لي أكل وشراب. أنا أعتبر الموسيقى جزء مني وهي مواساتي الوحيدة كما أني أترجم فيها كل أشيائي، كأحاسيسي ومعاناتي في الحياة وأفراحي والظلم الذي أتلقاه من الناس أخرجه عبر الموسيقي. ببساطة الموسيقي ساعدتني للتغلب على صدمة فقدان البصر. ولذلك أقول حتى الآن إني ما زلت قوياً وما زلت قادر على الإنتاج لأني أشعر بما يدور من حولي." ويقول بصدد ذلك "إن فقداني لبصري جعلني أركز أكثر علي الموسيقى. وكان أول غيتار لي هدية من الراهبة الإسبانية مارينوس وذلك في رعية القديسين بطرس وبولس في العمارات- الخرطوم". لقد أحب هذه الهدية القيمة جداً ولازمته فترات طويلة مما ساعده على إجادة العزف بل وإحترافه.
وعن الآلات التي يعزف عليها يقول "أنا لا ألعب آلة واحدة، لكن ألعب على آلات كثيرة. ألعب على آلة إسمها هارمونيكا و آلة الصفارة وطبعاَ أورغن وآلة كلارنيت وأكورديون، بالإضافة إلى الغيتار الذي أحبه والذي إخترته في نهاية المطاف دون بقية الآلات الرائعة".
المسيرة الفنية في الشمال والجنوب
يقول باولينو أن حبه للموسيقى كان منذ الصغر حين كانوا يصنعون الآلات الموسيقية من علب الصلصة ولبن البودرة الفارغة وأخرى من الطين ثم يعزفون عليها. وهو ما كان يبعث الفرح في نفوسهم. وبعد أن كبر وتعلم أن يعزف بدأ يظهر موهبته بشكل أكبر، ثم إلتحق بمعهد إتحاد المكفوفين في الشعبية بحري ثم بقصر الشباب والموسيقي عام 1982م.
إن أول فرقة إنضم إليها كانت فرقة كلية كمبوني عام 1985م وكانت هذه الفرقة بمثابة فرقة المعلمين حيث يتم تعليم الطلاب على العزف على الآلات والغناء. وبعدها إنضم إلى عدة فرق موسيقية مثل فرقة جاز الشرطة التي إنضم إليها عن طريق صديقه شريف. وأيضاَ عمل مع فرقة جاز الديوم.
إستمر في الإنتقال بين الفرق إلى أن كون فرقة خاصة به إسمها ثري جي إم ستار 3GM STAR. وعن الفرقة يقول "أسسنا هذه الفرقة أنا وصديق يدعي نيكوتين ألوا لويجي وديفيد أمزاي. وعندما ذهبنا إلى المصنفات لإجازة أصواتنا واجهتنا مشكلة تسجيل إسم الفرقة لأن الإسم كان بالإنجليزية وهو ما رفضته المصنفات. فإضطررنا إلى تسجيلها بإسم "ليكوليكو". وهذا الإسم مأخوذ من لغة قبيلة مورو، وليكوليكو تعني العاصفة الشديدة. وقد إخترنا هذا الإسم لنيل الشهادة فقط وذلك في عام 1991م". وقد إستمرت الفرقة لسبعة أعوام قبل أن يفترق المؤسسين وبقي ميساكا فقط.
بعد هذه التجربة أصبح لميساكا فرقته الخاصة والذي أصبح فيها المغني الرئيسي، وإستطاع أن ينتج أغاني كثيرة، فبجانب العزف على الغيتار هو أيضاَ ملحّن. إستمر في الخرطوم إلى أن قرر العودة إلى جنوب السودان. إستطاع ميساكا طوال مسيرته من إنتاج وتسجيل أكثر من عشرون أغنية بالعربية واللغات المحلية.

Source: Sunday Coiuntun Okun
وعن العمل في الشمال والجنوب يقول "الفرق بين العمل في الشمال والعمل في الجنوب هو أن في الشمال العمل منظم للغاية ويوجد شركات للإنتاج والتوزيع. عادةَ تأخذ الشركة الماستر ثم توزعه وفي النهاية يتقاسم الفرقة أو الفنان العائد المادي مع الشركة، وهذا طبعاَ يساعد المبدعين على المضي قدماَ. المشكلة في الشمال تتمثل في قلة المتذوقين لفننا الجنوبي والأفريقي. فالجمهور الذي يأتي إلي حفلاتنا ليس بالكثير كما أن غياب التقدير والتناغم واضح. بينما الأمر عكس تماماَ في الجنوب. فهنا يوجد متذوقين ومقدرين للعمل الذي نقوم به، وقد مثل هذا الجانب الدافع الرئيسي لأي فنان في الإستمرار. المعيب هنا هو غياب المصنفات الأدبية والشركات التي تدعم الفنانين مثل شركات الإنتاج والتوزيع. ولذلك فإن الفنان أو الفرقة في الجنوب لا يحصل على أي عائد مادي
مقابل العمل الذي يقوم به، عكس الشمال. وهذا صعب بعض الشيء لأن الحصول على الآلات الموسيقية صعب للغاية. إن كل ما يحصل عليه الفنان او الفرقة في الجنوب هو التقدير، وهذا كافٍ بالنسبة لي". وعلى الرغم من كثرة المحطات الإذاعية إلا أن الأغاني - لا سيما الجديدة- يتم بثها بشكل مجاني وكل هذا عائد إلى غياب التنظيم وأيضاَ غياب المصنفات الأدبية التي يجب تكوينها بمبادرة من وزارة الثقافة و الشباب والرياضة حتى تحفظ الحقوق للفنانين والمنتجين وكذلك الكتَاب".
ومن الأغاني الحاضرة في ذاكرة جمهور ميساكا أغنية "شكل منقا ووجع وين". وعن الأغنية يقول "والله كان في واحدة إسمها فلورة كانت يافعة، وديعة وجميلة ورقيقة وبسيطة. كانت تأتي إلى بيت أختي التي كنت أزورها بين الفينة والأخري. فعندما رأيتها وصفتها قائلاً "شكل منقا زاتو خلى دا جيراني أنا البقدر بوصفو". رأيت فيها الأدب وحسن الخلق لذلك وضعت التاج على رأسها عن طريق كلماتي وذلك تتويجا لرقتها وبساطتها". وبجانب هذا غنى أيضاَ لأفريقيا وذلك بعد أن أنتهي مطارنة الكنيسة الكاثوليكية من مؤتمر كانت تتعلق مداولاته بأفريقيا وطلبوا من كل فرق الكنيسة أن يألفوا أغاني ويكتبوا مسرحيات عن أفريقيا وإنسانها، على أن تناقش قضايا الحروب والمجاعات في القارة، ولذلك كتب أغنية غنى فيها لأفريقيا. وطبعاَ لا تخلو حياة أي شخص عادي من الحب ناهيك الفنان، وقد وقع ميساكا في حب سيدة تدعي نتاليا فألف أغنية بإسمها "نتالينا" مدحها وعبر عن حبه لها في هذه الأغنية. إرتبط بالفعل بنتاليا مع أن علاقتهم هذه لم تدم طويلاَ.
مصدر إلهام
إن الحياة التي عاشها الجنرال باولينو ميساكا كفيلة بأن يكون مصدر إلهام للكثير من المبدعين وللأجيال القادمة. ليس فقط للموهبة الفذة التي يملكها، بل أيضاً لقدرته على التغلب على الصعاب. فبعد أن فقد بصره وأصبحت كل ألوان الدنيا سوداء فقط، إعتقد الكثيرين أن هذه نهايته. ولكن كان له رأي آخر وهو أن فقدان البصر ليس نهاية كل شئ، وإنما الإيمان بالنفس وبالقدرة على صنع الفارق هو ما يجعل الإنسان ينجح في حياته.
واصل ميساكا العمل الفني بالعزف والغناء، بصوته الشجي وكلماته المعبرة. كما أنه وظف الفن لمخاطبة قضايا الحرب والسلام، لم لا وهو الذي ولد إبان الحرب الأهلية الأولي في السودان (1955- 1972م) وعايش أيضاً الحرب الأهلية الثانية (1983- 2005م) . ولذلك يجد من يتابعون حفلاته دائماَ التشجيع والكلام عن السلام. وبجانب العمل من أجل السلام، يشارك باولينو ميساكا أيضاَ في الحفلات الخيرية التي توظف عائداتها لمساعدة فئة معينة في المجتمع مثل دار اليتامى.
باولينو ميساكا مثال للمثابرة، العزيمة والإيمان والعمل الدؤوب. إن حياته تُعلم كيف لا يستسلم أي شخص لواقع الحياة المرير مهما كانت الظروف والأسباب، فسواء فقدت بصرك أو أي من الحواس والأعضاء فهذا لا يعني النهاية. يجب الإستمرار لتغيير الواقع وبعث البهجة إلي نفوس المحبطين. لما لا والجنرال ميساكا يفعل ذلك طوال أكثر من ثلاث عقود عن طريق صوته الجميل وألحانه بمختلف اللغات، التي تبعث الفرح بل والفخر إلى النفوس و تخبر بالكثير. ومن المعروف عنه عدم إهتمامه بالعائد المادي، فكل من يأتي إليه طلباً لخدماته لا يرده حتى وإن أتى فارغ اليدين. وذلك لإيمانه أن مهمة الموسيقى ليست لجمع المال وإنما رفع النقاب عن الجمال وبعث الفرح إلى نفوس البشر.