كان التغير السريع في أحداث السودان منذ بداية ثورة ديسمبر 2018 أمرا غامرًا ومرهقًا بالنسبة لنا جميعا كسودانيين. ابتداء من حُكم الدولة من قبل ثلاثة رؤساء مختلفين تغيروا خلال أسبوع واحد في بداية شهر أبريل ، إلى تزايد عدد القتلى في كل ساعة في الثالث من يونيو في ليلة فض الاعتصام في القيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم.
بذلت جهود كثيرة من أجل الحفاظ على قواعد للبيانات التي تحمل أسماء من فقدوا أو قُبض عليهم – و أولئك الذين لا نزال نفقدهم. لكن هذه الأرقام تزداد بشكل ساحق، و لا بد لها من أن تتحدث باستمرار، مع ظهور المزيد من أسماء المفقودين في اللوائح. تصبح العديد من تلك الأسماء مجرد أرقام. فحصرها داخل تلك الجداول و القوائم يسلب الكثير مما تمثله، والتضحيات التي قدمها حملة هؤلاء الأسامي في طريق تحقيقهم للحرية والسلام والعدالة. و من أجل ذلك، فإن إحدى السبل للحفاظ على أهمية و رمزية هذه الأرقام والبيانات هو في تحويلها إلى صورة مختلفة، بمساعدة مجموعة من الأدوات مثل البرمجة و السرد القصصي.
الكتابة و البرمجة
الكتابة الإبداعية و البرمجة – ما هو القاسم المشترك؟ يمكن القول ان اللغة هي العامل المشترك: اللغة الإنجليزية واللغة العربية و لغة البايثون - ربما ، لغة الجافا ؟ لكن اذا نظرنا إلى الموضوع بقليل من العمق، فسنتمكن من تحديد ميزة أخرى تجمع بينهما: العمل مع البيانات – ففي كلا المجالين، نستخدم البيانات لكن فقط من خلال أبعاد مختلفة. الآراء والحقائق والمقابلات المكتوبة كلها أمثلة للبيانات المطلوبة لمقال. من ناحية أخرى ، تُستخدم البرمجة أيضًا في معالجة البيانات وحفظها في هياكل مختلفة، وتقديمها إلى المستخدم النهائي بالتنسيق المطلوب. عندما تجمع هذه العناصر معًا ، تحصل على صحافة البيانات.
كان لإسحاق أسيموف ، المعروف بعمله في كتابات الخيال العلمي ، هذه المقولة: "لكن ماذا لو حدثت نفس الفكرة الرائعة لرجلين مختلفين، في وقت واحد وبشكل مستقل؟ ربما تكون العوامل المشتركة المعنية واضحة." بالنسبة إلى أسيموف ، فإن إحدى الطرق التي يتم بها توليد الأفكار الإبداعية هي أن يكون للأشخاص من خلفيات مختلفة القدرة على إجراء اتصالات و التعرف على التقاطعات المشتركة بين التخصصات، بطريقة ربما لم تتم ملاحظتها من قبل.
الآن ، دعونا نجرب وجود كاتب ومطور برامج الكترونية (ويفضل أن يكون عالِم/محلل بيانات) في غرفة واحدة ، و أن نرى كيف يمكن أن يعمل الاثنان معًا، و ما يمكن لهما التوصل إليه. في العديد من الأماكن كصحيفة الجارديان و البي بي سي و شيكاغو تريبوت وغرف الأخبار الأخرى ، فإن الهدف هو تجاوز التقارير التقليدية لأحداث معينة. و بدلاً من ذلك، فإنهم يسعون إلى إجراء اتصالات متقاطعة مثيرة للاهتمام من خلال جعل المبرمجين يعملون عن كثب مع الكتاب والمحررين، وبالتالي يأتي مصطلح "صحافة البيانات" (أو اسم آخر ممل قليلا: التقرير بمساعدة الحاسوب).
لماذا تعد صحافة البيانات مهمة؟
أن تكون متعدد التخصصات هو الطريق للمضي قدما. نظرًا لأن الحدود والفجوات بين المجالات قد بدأت تضيق بمرور الوقت ومع التقدم ، فإن القدرة على تطوير الأدوات التي يمكن أن تساعدنا على حل المشكلات ستتحسن - حيث يزداد تعقيد تغيير الظروف المحيطة.
مع توافر الأدوات مفتوحة المصدر العامة المستخدمة لاستكشاف البيانات، و زيادة على ذلك، إبداع الُكتاب في خلق السياق و منح معنى للبيانات ، فإنه يمكن العمل على أبحاث أكثر تفصيلاً مقارنة بالأساليب التقليدية. هذا هو بالضبط ما نحتاجه لتحويل الأرقام إلى قصص جذابة و ثاقبة.
التأثير و التمثيلات البصرية كأدوات للدعوة
العنصر الأكثر أهمية هنا هو البيانات. والدافع المحرك هو دائما التأثير. لا ينطبق هذا فقط على محللي البيانات و المبرمجين ، ولكن اهتمام القراء كذلك بالحقائق القائمة وراء القصص يزداد أكثر من أي وقت مضى. على سبيل المثال ، يمكن استخدام البيانات في تحديد مناطق النقص في الخدمات في مناطق محددة، من خلال استخدام الخرائط – الأمر الذي يمكن أن يأثر في عملية مساءلة المسؤولين الفاسدين.
يرغب الناس دائمًا معرفة المزيد: عدد الأطباء في السودان مقارنة بعدد المستشفيات بمختلف الولايات؛ الفرق بين عدد القتلى المتأثرين بالأحداث السياسية الرئيسية؛ عدد مرات استخدام حميدتي لكلمات معينة في خطبه ، تعقب تقلب سعر صرف الدولار بالجنيه السوداني خلال فترة زمنية معينة - ابتداء من ديسمبر 2018 حتى اليوم. ليس هذا فحسب ، فقد يكون البعض الآخرين مهتمين بتأثير سياسات وممارسات التنمية الحضرية الخاطئة ، أو تحديد االمناطق المتأثرة بممارسات سيئة معينة. على سبيل المثال ، يمكن أن تساعد البيانات في تحليل نوعية المياه في ضواحي الخرطوم ، والإبلاغ عنها وتطوير المبادرات على أساس نتائج ذلك.
الكلمة الرئيسية ذات التأثير هي دائما البيانات. ومع ذلك ، فإن البيانات بدون سياق لا معنى لها. لذلك لدينا كلمة رئيسية ثانية هنا: الكتابة. تصور التالي: فريق مؤلف من كاتب و مبرمج، و أمامهم هذه المهمة الجديدة: التحقيق والبحث عن القصص. كلاهما يستخدم أدوات مختلفة ، لكنهما يشتركان في هدف واحد: العمل على استخراج القصص التي تستند على البيانات.
"البيانات وحدها لن تمنحك التقدير ؛ القصص هي التي تضمن ذلك. مع القصص نتعلم ، نلقي الضوء ، و نستلهم. اسرد المزيد من القصص ". كارمين قالو – هارفرد بيزنيس ريفيو.
البيانات المفتوحة كأدوات للتمكين
بفضل الإنترنت ، فإنه تتوفر العديد من الأدوات المجانية ومفتوحة المصدر. كما أن هناك العديد من الكتاب المبدعين ذوي مستويات مختلفة من الخلفيات التحريرية. ومع ذلك، نجد تلك العقبة في الطريق: البيانات نفسها!
يمكن أن يكون الوصول إلى البيانات مقيدا، حيث لا تتبنى بعض الحكومات أي قوانين منظمة لإمكانية الوصول إلى المعلومات. في بعض الحالات، قد لا يكون هنالك وجود للبيانات لدى هذه الحكومات أساسا. كما أنه ليس بالأمر المضمون أن نضع الثقة الكاملة بقواعد بيانات صادرة من بعض الجهات الحكومية.
نظرًا لكون البيانات أداة للتمكين ، وبما أن التمكين ليس بالأمر السهل دائمًا ، فقد كان من الصعب دائمًا التحصل على البيانات. تخيل ما قد يساعد به توفر المعلومات المجانية والمتاحة عن أي شيء يتعلق بالسودان، و المهنية في التعامل مع البيانات ، والشعور النقدي الحاد للكاتب. وضع هذا المفهوم للبيانات المنشورة بحرية ليس مفيدًا فحسب ، ولكنه ضروري أيضًا.
إذا نظرنا إلى السياق السوداني ، عادة لا تتوفق المدن الصغيرة في جذب انتباه وسائل الإعلام السودانية. ومع ذلك ، هناك دائمًا فرصة للمقيمين بتلك المناطق النائية بلعب دور مهم في عملية التقرير، من خلال تزويدهم بالتدريب المتعلق بالتعامل مع البيانات حتى يصبحوا صحفيي بيانات يساعدون في عملية التقرير عن العقبات التي يواجهونها هم أنفسهم. بهذه الطريقة ، فإنهم يكتسبون مهارة جمع البيانات، ولكنهم يتمتعون أيضًا بمزايا المصداقية ومعرفة ما يريدون الإبلاغ عنه، وكيف يتم التقرير.
علاوة على ذلك ، ففي حالة صعوبة الوصول إلى البيانات، يمكن أن يلعب أمر حشد الجهود الجماعية دورا فعالا. هذه الطريقة ليست بديلاً فعالًا فحسب ، ولكنها ستساعد الباحثين والناشطين السودانيين في العمل على القصص والتقارير المستندة على الحقائق، خاصة الآن في هذه الأوقات حيث أصبحت التقارير والبيانات أولوية حساسة للوقت ،على الصعيد الوطني و الدولي.
الخاتمة
البيانات. هذه الكلمة المخيفة. غالبا ما يكون التعامل معها مملًا، مربكًا ومرهقًا. لكن دورها في التمكين و القرب من الحقيقة لا يمكن إنكاره. مع تطور صحافة البيانات ، سيشمل المستقبل المزيد من المبرمجين وعلماء البيانات الذين يعملون في غرف الأخبار، والمزيد من الكتاب والصحفيين ذوي المهارات المتطورة للتعامل مع البيانات.
عندما تبدأ كلتا المجموعتين بالعمل جنبًا إلى جنب، مصطحبتين مع ذلك التدريب المهني الجاد وإمكانية الوصول المفتوح إلى البيانات ، فإن في ذلك فائدة كبيرة لبلدنا – الأمر الذي قد يضعنا على الطريق نحو المزيد من المعرفة والمصداقية والتقدم.