هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

نشر هذا المقال على مفتاح و تمت ترجمته للنشر على أندريا بإذن من مفتاح. 

على الرغم من عزلته السياسية ونزاعه المسلح الذي إستمر طوال السنوات الأربعين الماضية، ظل السودان متأثراً بالإزدهار التكنولوجي العالمي. وقد سمحت البيئات الرقمية، مثل الإنترنت، بالمعارضة الإبداعية الحرة نسبياً وتبادل المعلومات في البلد.

من الملاحظ أن التكنولوجيات الجديدة الرخيصة سمحت للفنانين والمعاهد الثقافية في السودان بإكتساب وتعليم المهارات التي كانت حتى وقت قريب غير متوفرة في البلد. وقد سهلت هذه الثورة الرقمية إضفاء الطابع الديمقراطي على المشهد الفني والثقافي في السودان، على الرغم من العقوبات الاقتصادية والسياسية المفروضة على البلاد. وكانت هذه الإتجاهات واضحة بشكل خاص في إعادة إحياء صناعة السينما السودانية.

عصر النهضة الثقافية بعد الإستقلال في السودان وما بعده

حصل السودان على إستقلاله سلمياً في عام 1956. وعلى الرغم من أن الستينيات وأوائل السبعينيات قد كانت مضطربة سياسياً، فإن العديد من السودانيين يتذكرون هذه الفترة، في ظل الديكتاتورية العسكرية للقائد العام جعفر نيميري، بكثير من الود. لقد كانت تلك الفترة التي لمعت فيها الخرطوم كعاصمة أفريقية مشرقة، عندما كانت المشاهد الثقافية والفنية والأدبية تتفجر بقدرات واعدةو ليال مبهرة مع العروض الموسيقية الحية في المطاعم والبارات. وكانت الإفتتاحيات المسرحية المزدحمة مع العروض المميزة بالنجوم والتقليعات الدولية جزءاً من الحياة في الخرطوم خلال هذه الفترة. وفي أواخر السبعينات والثمانينيات من القرن الماضي، شهد الاقتصاد السوداني إنتكاسة مذهلة، مما أدى إلى الكثير من المصاعب وظهور طوابير طويلة من أجل الخبز والسلع الأساسية الأخرى. ونتيجة لهذه التحديات الاقتصادية، تباطأت حركة الفنون والثقافة في السودان. عانى العديد من السودانيين من أجرة البرامج الثقافية،      بالرغم من ذلك كان رواد السينما من جميع شرائح المجتمع يترددون على سينمات كوليسيوم وبانت والحلفايا في الخرطوم وأم درمان وبحري على التوالي. أما في مدينة عطبرة كان الناس يترددون على مسرح الوطنية، وفي بورتسودان توافدوا إلى ليكوس. 

 ومن سمات صناعة السينما السودانية في هذا الوقت “عقلية السيد”، كما وصفها طلال عفيفي، مدير ومؤسس سودان فيلم فاكتوري، خلال مقابلة هاتفية. وإعتبر عفيفي أن صناع السينما كانوا “يعتمدون على القوى الإستعمارية ثم الحكام السودانيين في فترة ما بعد الإستعمار لإعتماد أو رفض المشاريع مما يتعارض مع العملية الإبداعية”. “على عكس المسرح، الذي كان مشروع الشعب، بدأت السينما في السودان كمشروع السيد”.

   في أواخر الثمانينيات والتسعينات من القرن الماضي، إستمرت المصاعب على المشهد الفني في السودان. فبالإضافة إلى التطبيق الصارم للشريعة الإسلامية من قبل حكومة عمر البشير الإسلامية، أدت الحرب الأهلية التي إندلعت بين الحكومة المركزية والمتمردين في الجنوب إلى توقف صناعة الفنون. وبمجرد أن بدأ الاقتصاد السوداني يشعر بآثار الثورات والحكومات الإنتقالية، تضاءل التمويل للسينما كما حدث بالنسبة للإنتاج الفني الآخر.

   وقد غادر الفنانون البلاد بشكل كبير، غالباً بعد أن سجنتهم الحكومة أو تلقوا تهديدات على حياتهم وعملهم. وإنضم هؤلاء الفنانون إلى حشود المهنيين السودانيين الذين يعيشون في أوروبا والولايات المتحدة والشرق الأوسط على أمل قيادة حياة أفضل وأكثر أمناً. وأصبح بعض الفنانين الذين تركوا البلاد نجوماً دوليين مثل المخرج سعيد حامد والمغنية رشا شيخ الدين والتشكليين إبراهيم الصلحي والدكتور راشد دياب.

Source: alamy.com 

 الفجر الجديد

 في عام 2005، تم توقيع إتفاقية السلام الشاملة بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، الجناح السياسي لحركة التمرد في جنوب السودان، مما أنهى الحرب الأهلية التي إجتاحت البلاد منذ عقدين تقريباً. بدا مشهد الفنون والثقافة في السودان واعداً – على الرغم من إستمرار الصراع في دارفور ومناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان.

   ومع إتفاقية السلام بدأ الإستثمار الأجنبى فى التدفق على البلاد وتركز معظمه فى قطاعات البناء والنفط والغاز. وعاد العديد من الذين إنتقلوا إلى الخارج إلى السودان، مما عزز الشركات ورؤوس الأعمال المحلية. وبدأت الشركات الكبرى والمراكز الثقافية الأجنبية ومراكز الفنون في إستضافة الفعاليات الفنية والثقافية بإنتظام. أولئك الذين يعيشون خارج الخرطوم أعادوا تركيز إهتمامهم مرة أخرى على التطورات التي تجري في العاصمة، وبدأوا كذلك بمتابعة الأحداث الثقافية على الإنترنت – بالقدر الذي تسمح به اتصالات الإنترنت السيئة في السودان.    في الفترة ما بين توقيع إتفاق السلام وإنفصال جمهورية جنوب السودان في عام 2011، وحتى بعد الإنهيار الاقتصادي الذي أعقب الإنفصال، شهد السودان نشر العديد من الكتب حصاد المؤلفين القادمين مثل فايز السليك، عبد العزيز بركة ساكن، ستيلا غايتانو، وغيرهم الكثير.    إستعاد المشهد الموسيقي ببطء بعض مجده السابق، مع ظهور الفرق المحلية وبعض المحطات الإذاعية التي تنشر التسجيلات الجديدة والقديمة فضلا عن الأغاني الدولية الرائجة. وكانت فعاليات الشعر من البرامج المفضلة شهرياً لمئات الشباب من جميع أنحاء الخرطوم. وبدأت صناعة الأفلام في الإنتعاش أيضاً.    بعد ما يقرب من خمسة وعشرين عاما من السبات، عادت الثقافة السودانية مرة أخرى على قدميها.

دمقرطة صناعة السينما

    لم تكن عودة ظهور المشهد الفني السوداني حدثا معزولاً. ففي المنطقة – وخاصة في القاهرة وطهران وتونس ولاغوس ونيروبي وغيرها من المدن – التحركات المستقلة كانت تنمو في أوائل الألفية وذلك بفضل الإنترنت وزيادة حريات التعبير والتجمع.    في السودان، حدثت الثورة الرقمية على مراحل. في البداية، حوالي عام 2007، بدأ العديد من الناس بالإنضمام إلى مواقع الشبكات الاجتماعية للتواصل مع العائلة والأصدقاء في الداخل وفي المهجر. وقد عرفت الموجة الثانية للثورة، في الفترة 2012-2013، بالإضطرابات السياسية التي جاءت في أعقاب الثورات التي هزت الشرق الأوسط وأثارت إحتجاجات في جميع أنحاء السودان. خلال هذا الوقت، كا نت تطبيقات الشبكات الاجتماعية الوسيلة الرئيسية لنشر الأخبار والإنخراط في المناقشات. وقد حدثت الموجة الثالثة للثورة مؤخراً إلى حد ما، بداية بعد إنتهاء هذه الإضطرابات، حيث برزت المشاريع الفنية الرقمية، والمعارض الإلكترونية، والمواقع الإلكترونية، وقنوات اليوتيوب. 

وبالمقارنة مع المجالات الثقافية الأخرى خلال هذه الفترة، كان إحياء صناعة السينما في السودان ثورياً حقاً. وقد أمكن تحقيق ذلك إلى حد كبير من خلال التقدم التكنولوجي الذي جعل من عملية صناعة الأفلام، من الناحية العملية، ديمقراطية.    عهد معدات الفيديو الضخمة المكلفة قد ولى. الكاميرات الآن باتت أنيقة ويرافقها مجموعة من الدروس ومنتديات المناقشة لمساعدة المستخدمين على التمكن من إستخدامها وتعلم المهارات الصعبة. كما علَق عفيفي: “كانت صناعة الأفلام تكلف الكثير من المال والوقت، أما الآن فبضعة أسابيع من التدريب المكثف، وكاميرا لجميع الأغراض وبعض البرمجيات تفي بالغرض”. التحول من إستخدام الكاميرات التقليدية إلى الرقمية سمح للمخرجين بتجريب وتجويد النصوص واللقطات.

  في عام 2014، أطلقت مجموعة سودان فيلم فاكتوري أول مهرجان أفلام مستقل في السودان. في يناير 2017، إحتفل المهرجان بالذكرى السنوية الرابعة. في هذه السنوات القصيرة القليلة، ترك الحدث بصماته على الثقافة السينمائية في السودان. ولم يقتصر الأمر على إنشاء محفل رئيسي للسينما في البلاد، حيث عرض للجمهور السوداني أفلاماً من جميع أنحاء المنطقة والعالم. بل قدم المهرجان أيضاً ورش عمل مكثفة للسينما ساعدت على تعزيز صناعة السينما السودانية. 

  العديد من الأفلام التي تم إنشاؤها من قبل المخرجين السودانيين الواعدين قد شقت طريقها إلى يوتيوب و فيميو. وقد أتاح ذلك للمخرجين إمكانية الوصول إلى الجمهور مباشرة من أجل المناقشات الإبداعية والنقد. وقد ترجم هذا بدوره إلى إهتمام دولي متزايد بعملهم. وقد تم بالفعل عرض أحدث إنتاجات للسينمائيين السودانيين، مثل حجوج كوكا و إيلاف الكنزي  و محمد كردفاني، في المهرجانات الدولية في جميع أنحاء العالم.    في حين أن السينما السودانية لا تزال منخفضة التكاليف إلى حد كبير، دفع الإستقبال الإيجابي الذي حصلت عليه في الخارج صناع السينما للبحث عن المزيد من التمويل لتطوير أفكارهم الفنية. وهنا أيضاً، لعب الإنترنت دوراً محورياً. في السنوات الخمس الماضية، إستخدم فيلمان (سوداننا و حفنة تمر) التمويل الجماعي عبر الإنترنت لتمويل صناعة الفيلمين.

إعادة الإحياء الثقافي السوداني

   من خلال الشبكات الاجتماعية المتوسعة وزيادة إمكانية الوصول التي أنشأتها شبكة الإنترنت، تمكن المخرجون السودانيون وغيرهم من الفنانين من مشاركة عملهم وتلقي ردود فعل من جمهور متنوع. وقد خلق هذا ثورة في المشهد الفني السوداني، وتقدير أكبر للفنانين في البلاد، سواء في الداخل أو في الخارج. 


أمنية شوكت

أمنية هي إحدى مؤسسات منصة أندريا