قد يتراود لدى العديد من الناس هذه الأيام أن السودان قد استيقظ متأخراً لينادي بالتغيير. و لكن هل يعلم هؤلاء أن السودان يعد من أول الدول العربية التي نادت بالثورات و المضي نحو الأفضل؟ فتاريخ السودان مليء و حافل برموز واعية ثابرت بنضال و عزم متينين للنهوض بأرض السودان ورسم مستقبل واعد يحوي الملايين و يعكس صورة وطنهم كدولة عريقة حضارية سامية.
جدودنا زمان وصونا على الوطن ..
من ثورات السودان كدولة حديثة تجلت في ثورة اكتوبر 1964 حيث تعد أول ثورة عربية شعبية أحاطت بالحكم العسكري ضد عبود و إنطلقت من جامعة الخرطوم. فالواحد و العشرين من أكتوبر هو اليوم الذي اشتعلت فيه أول شرارة للثورة والانتفاضة الشعبية في المحيط العربي والأفريقي والشرق الأوسط. فهي التي سبقت الربيع العربي بعشرات السنين، و هي الثورة التي جعلت الرئيس الفريق إبراهيم عبود يتنازل عن الحكم و يعلن إنهاء الحكم العسكري في الثامن و العشرين من أكتوبر. وكما كانت الشوارع مكتظة بهتافات الشعب، كانت عقول و أفئدة العديد من شعراء و فناني السودان تنسج كلمات و ألحان تعكس شعورهم الشجي و المليء بالوطنية. فما أروعه من غزل لحروف خلدت في ذاكرة الوطن و أصبحت شعاراً يحمله الكثيرون. فأصبحت أغنيات عمالقة الفن السوداني لهذه الثورة صفة ملازمة تعود لمن يتأملها لذلك الزمن الفريد، ومنها أغاني الفنان الراحل محمد وردي في "أكتوبر الأخضر" للشاعر محمد المكي إبراهيم وقدم كذلك "يا ثوار أكتوبر يا صناع المجد" ، للشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم ، بالإضافة لأغنية "شعبك أقوى و أكبر" للشاعر الطاهر إبراهيم ، وأشهرهم "أصبح الصبح و لا السجن و لا السجان باق" رائعة الشاعرمحمد مفتاح الفيتوري. ولا ننسى أكثرها حماساً في مخيلة الشعب بالأمس و اليوم "يا شعباً لهبك ثوريتك" للشاعر محجوب شريف.
October revolution via ida2at.com
كما أضاف الفنان القدير محمد الأمين أغنية "أكتوبر واحد و عشرين" التي تمتاز بقصتها حيث كان الشاعر فضل الله محمد طالباُ وقتها و قد كتب كلماتها من داخل المعتقل، حيث كان من ضمن الطلاب الناشطين في جامعة الخرطوم الذين شاركوا في الندوة من داخليات البركس وبعد خروجه قام بتلحينها و تغنى بها الأمين. و اكتمل تعاونهما حيث قدما "أبقوا عشرة على المبادئ" و"شهر عشرة حبابو عشرة" . و بعد ذلك قدم الأمين مع الشاعر الثوري هاشم صديق الملحمة الوطنية " قصة ثورة" التي سردت تفاصيل أحداث ثورة أكتوبر بكلمات آسرة و خلابة.
وغنى الفنان الكبيرعبد الكريم الكابلي "هبت الخرطوم" للشاعر الوطني الراحل عبد المجيد الأمين، فما أبلغها من كلمات وما أجمله من وصف. وتغنى الفنان الذري إبراهيم عوض ب "الثورة شعار" للشاعر الطاهر إبراهيم. وقدم الفنان صلاح مصطفى أغنيته من كلمات الشاعر الراحل مصطفى سند فكانت " في الحادي و العشرين من شهر أكتوبر، الشعب هب و ثار ، أشعلها نار في نار ..) فلهذه الأغاني و لغيرها أثر كبير يبعث بالحماس في نفوس الجميع ايذاناً باستقرار بهي يلوح في الأفق.
Abdul-Karim Al-Kabli via Sudanas.com
أما الثورة الثانية فحدثت في السادس من إبريل لعام 1985 ضد حكم جعفر نميري، وتعد هذه الثورة واحدة من أحداث السياسة السودانية ذات الحراك والدهشة. و كان كلاهما مثالاً جلياً للثورات العربية الشعبية المعاصرة، و بذلك لابد للجميع أن يعلم أن السودان كان و ما زال شعباً واعياً عالماً و مثقفاً، حيث إمتازت ثورات شعبه بالسلمية و الحوار و سعت إلى إيصال مطالبها بطريقة رفيعة المقام، أشادت بها دول العالم و العالم العربي.
وطن الجدود نفديك بالأرواح نجود ..
و كيف لنا أن ننسى بصمات فناني العرب في إعجابهم و ثنائهم بخصال الشعب السوداني، و كيف أنهم نقلوا ما شعروا به في ألحانهم، فكانت معزوفاتهم ذات وقع فريد. "سلام للسودان و أرض السودان سلام للبطولة وسلام الرجولة سلام للشهامة" .. كانت تلك بداية أغنية وردة الجزائرية "سلام للسودان" للشاعر عبدالرحيم منصور التي تغنت بها في حفل الخرطوم الثاني و العشرون من مايو لعام 1974.
أقيف قدامها و أقول للدنيا أنا سوداني ..
لذلك لا يمكننا أن نستغرب خروج أبناء اليوم و هم ينادون بالتغيير و السلمية، و هم يرددون شعارات الحرية و السلام و العدالة، فهذا الشبل من ذاك الأسد!
إن لشباب اليوم غيرة على الوطن لا يختلف فيها إثنان، وهي إن ظن البعض أنها فطرية، ففي أبناء بلادي تسري في دماؤهم، هوائهم حتى أضحت صباحهم و مساؤهم. كان لنا المثل في الفنان فضل أيوب الذي قدم في ليالي شمبات أغنية "غداً نعود كما نود و تزول عن السودان الكروب"، فكانت تلك الكلمات كفيلة بجعل دموعه تنهمر، ليس دموعه فحسب بل دموع كل من يتأمل في كلمات الأغنية و يأمل بسودان أجمل. وإذا بالأيام تأتي و يعيد غنائها فضل وسط الثوار مطرباً بها مسامع كل من كان حوله. و ما أكثر من هم مثل فضل! فمنهم من نراه و نسمعه كل يوم و منهم من يعمل بصمت.
Fadul Ayub via tana4media.com
يا وطني يا بلد أحبابي في وجودي أريدك و غيابي ..
من منا لا يتمنى أن يتربع وطنه في مصاف الدول و أن يصبح ذلك الملاذ الدافئ لأبناءه بل و لمن إحتاج إلى مأوى، و أن يزهو ذلك الوطن بالرخاء و السعادة للأبد، فشعور الإنتماء للأرض غريزي في نفس الإنسان و لهذا يصبح الشعب غيوراً على وطنه، فيبذل الغالي و النفيس من أجل إعلائه وتحقيق طموحاته.
ما يمر به السودان اليوم قد يذكره البعض بأنها أيام عصيبة، نعم هي كذلك عندما نرى الآلاف يتعرضون للأذى و لكنها حتماً أيام سطرها التاريخ، وأوردها في سجله العتيق. ما نتمناه فعلاً هو أن يصبح هذا الوطن الطيب طيباً و سالماً، عالياً و شامخاً بين الأمم، فليسلم هذا الشعب الأبي و لينعم سوداننا بما يستحقه.