التاسع من يوليو ٢٠١١م تاريخ لايزال يراود ذاكرة شعب جمهورية جنوب السودان لنيلهم استقلالهم بعد أطول سلسلة حرب أهلية في العالم استمرت لأكثر من ربع قرن. إلا أن الخلافات بين رئيس الجمهورية سلفا كير ونائبه السابق الدكتور رياك مشار وضعت تاريخ آخر ليمحو كل ما تحقق في أقل من سنتين. حيث اندلع القتال على طابع إثني أدى إلى فرار آلاف من المواطنين من جنوب السودان إلى دول الجوار بحثاً عن الأمان. ورغم التوقيع على اتفاقية تسوية النزاع في أغسطس ٢٠١٥م ونتيجة لفقدان الثقة والإرادة السياسية بين الأطراف المتنازعة على السلطة، تجدد القتال مجدداً الأمر الذي وضع البلد ضمن أكبر أربعة دول في عدد المهاجرين في العالم.
تقول المنظمة الدولية للهجرة أن أكثر من ١,٥ مليون شخص نزحوا من جمهورية جنوب السودان إلى دول الجوار نتيجة للقتال المستمر منذ العام ٢٠١٣ . ويتوزع اللاجئين الفارين من الحرب والمجاعة التي تضرب البلاد في ست دول مجاورة، وهي جمهورية أفريقيا الوسطى، كنغو، يوغندا، كينيا، إثيوبيا والسودان. وعلى حسب ما أعلنت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فإن عدد اللاجئين السودانيين الجنوبيين تجاوز المليون ونصف شخص، فوضعت جنوب السودان في قائمة أكبر الدول المصدرة للاجئين في العالم، والقائمة تضم أفغانستان، الصومال و جنوب السودان.
وصلت أعداد اللاجئين من دولة جنوب السودان في العام ٢٠١٧م (على حسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين) في كل من السودان إلى ٣٩٠ ألف شخص، يوغندا ٥٢٠ ألف شخص كينيا ٩٠ ألف شخص، إثيوبيا ٣٢١ شخص، كونغو ٦٠ ألف شخص. وقدرت مفوضية شؤون اللاجئين أن أعداد الفارين من الحرب في السودان عام ٢٠١٦ بـ ١٣١ ألف شخص، إلا أن أحداث الثامن من يوليو عام ٢٠١٦ في جوبا واستمرار القتال وإعلان حالة المجاعة أدت إلى نزوح آلاف من الجنوبيين من جميع ولايات جمهورية جنوب السودان إلى دول الجوار.
يهرب مئات الآلاف من المواطنين يومياً منذ بداية هذا العام إلى دول الجوار على حسب بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان. وقال رئيس بعثة الأمم المتحدة والمبعوث الخاص للأمين العام ديفيد شيرر، أن حوالى ٦٠ ألف مواطن ينزحون شهرياً من جنوب السودان بسبب القتال والاستهداف الإثني لمجموعات عرقية معينة. وقالت المنظمة في فبراير الماضي من هذا العام أن مئات الآلاف من المواطنين يعبرون الحدود في ولايات بحر الغزال وغرب الاستوائية نتيجة للمجاعة التي تضرب المنطقة. وكانت حكومة جنوب السودان قد أعلنت حالة المجاعة في فبراير من هذا العام.

Source: UN.org
رغم الجهود المبذولة من منظمة الهجرة الدولية مع إدارة شؤن اللاجئين والعائدين والمفوضية السامية لشؤن اللاجئين من أجل إجراء التقييم وإيجاد سبل آمنة لإيصال اللاجئين الجنوبيين إلى مُخيمات دول الجوار، إلا أن الزيادة اليومية في أعداد الوافدين يشكل تحدي أمام هذه المنظمات الدولية مع استمرار القتال على حسب المتحدث باسم المفوضية السامية وليام سبيندلر. وقالت المفوضية السامية للاجئين أن عدد المنظمات التي تعمل في تقديم المساعدات الإنسانية للاجئين الجنوبيين الفارين من الحرب وصلت إلى ٤٧ منظمة في عام ٢٠١٧ ، تعمل في ست دول وتقدر عدد الأموال الذي تحتاجها هذه الوكالات بأكثر من 1.4 مليار دولار أمريكي للمساعدة و تقديم الخدمات وتسهيل سبل الهجرة لهم. ولكن حصلت المنظمات على ٢٠٪ فقط من قيمة الأموال المطلوبة لتحسين أوضاع اللاجئين، الأمر الذي يصعب توفير احتياجاتهم.
توقيع اتفاقية تسوية النزاع في أغسطس 2016 كان الأمل الوحيد للجنوب لاستعادة الأمن من أجل العودة للوطن وبناء الدولة من الجديد. إلا أن تجدد القتال وضع النهاية لهذه الآمال وأجبر الآلاف من الجنوبيين لترك منازلهم بحثاً عن ملاذ آمن. يقطع اللاجئين مسافات طويلة سيراً على الأقدام من أجل الوصول إلى مُخيمات النزوح في كلٍ من كينيا والكنغو وأوغندا والسودان وأفريقيا الوسطى وإثيوبيا.
ورغم الترحيب الذي يجده اللاجئون من دول الجوار وفقاً للاتفاقيات الإقليمية التي تدعم نظرية الحركة، يأتي تطبيقها بصورة ضعيفة من قبل حكومات تلك الدول، مما يضيق فرص العمل وتحويلها من قضية لاجئين إلى قضايا سياسية نتيجة لتوترات بين تلك البلدان. فشلت الحكومات في الوصول إلى اتفاقيات تجعل الهجرة مفيدة للجميع.كمثال، يعيش لاجئ جنوب السودان في كينيا حالة من الحظر الشديد نتيجة للإجراءات الأمنية المشددة والاعتقالات بسبب سلسلة هجمات حركة شباب الصومالية. أما في بقية الدول فقد خصص للاجئين مخيمات اللجوء حيث ظروف المعيشة صعبة وحالات الخطف والاغتصاب والعنف الجسدي شائعة بسبب الخلافات مع المجتمعات المحلية بسبب الأراضي الذي منحتها الحكومات للاجئين.
الحرب في جنوب السودان ساهمت في هجرة أعداد كبيرة إلى دول الجوار بحثاً عن فرص العمل أو التعليم والبعض يبحث عن لم شمله مع أسره في وقت يهرب العديد منهم من عمليات الاضطهاد والعنف الجسدي الناتجة عن الصراعات القبيلة والعنف العشوائي بين المجتمعات. العديد من الجنوبيين في مُخيمات اللجوء يعتبرون أنه رغم هروبهم من جحيم الحرب والمجاعة في جنوب السودان إلا أن فرص الحياة لا تزال غير متوفرة لهم، حيث عدم حصول مئات الأطفال على فرص تعليم جيد في المخيمات وغياب العمل والاعتماد على الاعمال الهامشية. أهداف الهجرة عند الكثير من مواطني جنوب السودان لم تتحقق فقد يبقون في المخيمات وهذا يرجع لأسباب التمويل التي تعاني منها المنظمات الدولية أو سياسات الدول. تفرض العديد من الدول تقييد الهجرة وهو ما جلب آثاراً سلبية أدت إلى ارتفاع تكاليف الهجرة والمخاطرة بها والبقاء في المخيمات ومواجهة مخاطر الفقر وحصر اللاجئين في أعمال هامشية ذات دخل منخفض و بصورة غير رسمية. لذا ضمان الهجرة الأمنة يشكل الأزمة الحقيقية أمام العالم وأفريقيا بصفة خاصة.
رغم الدعوات التي يقوم بها قادة العالم من أجل إنهاء الحرب في جمهورية جنوب السودان لوقف تدفق اللاجئين لايزال الأمل ضئيل، ويقول المفوض السامي لشؤن اللاجئين فيليبو غراند أنه “يتعين على القادة في جنوب السودان أن يتصرفوا بالمسؤولية وأن لا يتجاهلوا معاناة شعبهم، فالحرب المستمرة أنهت آمال شعب جنوب السودان بعد ربع قرن من أطول سلسة حرب أهلية في العالم، جاءت باتفاقية نيفاشا للسلام. إلا أن العودة إلى المربع الأول (الهجرة) والعودة إلى المخيمات التي نزح إليها الناس في ثمانينيات القرن الماضي أيام الحرب في السودان قبل الانفصال هي فقدان لنعمة الاستقلال وسنين النضال من أجل الحرية.”
نالت جمهورية جنوب السودان استقلالها من السودان في ٩ يوليو ٢٠١١م بعد أطول سلسلة حرب أهلية استمرت لربع قرن، إلا أن الحرب التي اندلعت في ديسمبر ٢٠١٣م أنهت آمال مواطني جنوب السودان ليعود بهم التاريخ إلى الماضي المرير من هجرة إلى هجرة أخرى أكثر مرار لفقدانهم الطعم الحقيقي لتأسيس الدولة الذي ناضلوا من أجلها لأكثر من ربع قرن.