هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

قائمة المشاهدة المؤجلة

محصورا بين محبة كبيرة للسينما وحرصى على تتبع و مشاهدة احدث انتاجاتها الا اننى – و اعتقد ان الكثيرين يشاركونني فى هذا – لدى ايضا قائمتى الخاصة لمشاهدة الافلام. فبجانب المشغوليات و طبيعة الاهتمامات تصبح لديك مثل هذه القائمة. فيلم "كذبة جيدة" الذي يتناول قضية جنوب السودان لم يكن حتى على قائمتي المؤجلة للمشاهدة. و مع وجود الفيلم فى ذاكرة حاسوبى لعامين إلا أننى شاهدته فقط قبل فترة بسيطة.

لا يمكنني – و أنا المشاهد العادى – إلا أن ألحظ حضوراً ظرفياً للسودان فى سينما هوليوود، و لا أظن أن علينا أن ننتظر مكافأة اكبر. هكذا أقول لنفسى كلما تناولت الوسائط خبراً عن قضية ما أو موضوع سودانى فى السينما او الدراما العالمية او حتى الاقليمية. و لذلك ظللت أفقد حماسي لمتابعة انعكاسات حضور السودان – و لاحقاً جنوب السودان فى سينما العالم. و مع نزول اخبار و الاعلان الرسمى لهذا الفيلم فى نهايات العام 2014، اكتمل قرارى باستبعاد المشاهدة و الذي إمتد لسنوات.

الإعلان؟...لا تثق به أبداً!

الفيلم - بحسب الاعلان الرسمي- دراما عن أطفال السودان الضائعين المهاجرين من الحرب و أهوالها، عوامل عديدة حشدها صانعو الإعلان لتكثيف و خدمة هذا المعنى كموضوع رئيسى لقصة الفيلم. عبارة " أطفال السودان الضائعين" ، وعبارات أخرى مثل (عبر ثلاثة بلدان) و (أيتام الحرب) بالإضافة لمشاهد من الحرب و مشاهد الفرح بظهور أسمائهم فى قائمة الهجرة، فضلا ًعن تكثيف مشاهد وجود بطلة الفلم ( ريس ويذر سبون ) كراعية أو عرابة لمجموعة الاطفال – الشباب لاحقا - المهجرين و ضحايا الحرب فى جنوب السودان. كل هذه المشاهد المحشودة فى إعلان الفيلم صنعت – لدي على الاقل - تصوراً عنه كأحد منتجات السينما التبشيرية المباشرة (الغارقة فى السذاجة) وهى حقبة لطالما إعتقدت أن الفكر و الانتاج السينمائى فى هوليوود قد تجاوزها على الاقل فى مستواها المباشر. لحسن حظي لم أكن مخطئاً تماماً، فالفيلم بعد أن شاهدته، و بعكس الاعلان، لم يكن قط بهذه السذاجة.

الحضور الثقافي و هامشية البطل

تبدأ قصة الفيلم بتتبع أربعة من الأطفال المهاجرين فى العام 2001. نرى مشاهد من ويلات الحرب فى جنوب السودان و النزوح سيراً على الاقدام عبر ثلاث دول ثم العيش فى معسكرات اللاجئين فى كينيا إنتظارا لقبول طلباتهم للجوء إلى أمريكا. هذه الفترة – قبل السفر إلى أمريكا – و مع تمحور الإعلان عنها كموضوع للفيلم، إلا أن المخرج يعبرها بمشاهد خفيفة المحتوى درامياً، و قصيرة زمنياً بالنظر إلى مجمل زمن الفيلم – خالقاً أول قطيعة بين الفيلم والإعلان. تدور بقية أحداث الفيلم فى فترة بقائهم فى الولايات المتحدة، مما يجعله أقرب لأفلام مجتمعات و قضايا المهاجرين فى المجتمع الامريكي. الفيلم لايستغرق في أى مرحلة ما (درامياً) و لا يصنع ذروة انسانية حول موضوع الحرب و اللجوء على نحو يكفي لشراء تعاطفنا و الشروع في التسويق لموقف ما. و مع إنتظارنا لصعوبات قد تواجه أبطال الفيلم فى رحلة الهروب و النجاة من الحرب و من ثم المرور بمعاناة اللاجىء و سنوات الانتظار لقبول طلب اللجوء إلا أن ذلك ينتهى فى الربع الاول من الفيلم، بعدها أقعلت الطائرة و هبطت فى أراضي أمريكية، وإنتهى الإعلان هنا و إبتدأ الفيلم .

undefinedSource: www.twincities.com 

بالبقاء معا وجدنا الأمل

بهذا العنوان أعتقد كان يمكن بناء إعلان اكثر مطابقة للفكرة المقدمة و المخدومة فى مجمل سيناريو الفيلم. فبينما تستمر رحلة النجاة و عبور أهوال الحرب لمدة 25 دقيقة فى بداية الفيلم من إجمالى مدة الفيلم البالغة ساعة و خمسون دقيقة، تمضى بقية المشاهد إستعراض طويل و متتبع لفكرة الاخاء كموقف و قيمة مركزية وصلبة فى ثقافة و بنية المجتمع الجنوب سوداني. أعتقد أن الفكرة لم يلجأ إليها صانعو الفيلم كقيمة طارئة أو مصنوعة لتسييق الفيلم، بقدر ما هي إقرار بعمق و حضور المرورث الثقافي للمجتمعات و قدرته على تشكيل الوجدان و صياغة العلاقات بين أفراده.

بفقدان الأم و الأب، أي بفقدان القوام التقليدى للعائلة كنتيجة للحرب، تتشكل على الفور و فى لحظة الفقدان أسرة جديدة و دائمة رباطها الاخوة. هذا بالفعل ما يستهل به الفيلم، و الذي يتكرر و يبرز على نحو طقسي. حيث قام مجموعة من الإخوة الأشقاء و مجموعة الاطفال الملتفة حولهم بإعلان أب جديد لحظة الفقدان، و هو دائما الأخ الاكبر. هذا الفعل يقدم في الحقيقة قبس من الوعي أو الثقافة الجنوب سودانية في تعريفها المقوم لماهية الاسرة كآلية للنجاة و البقاء وكنموذج معقول للعقد الاجتماعى. هنا يأتي قول جريمايه (أحد ابطال الفيلم) بينما يقفون على قبر أحدهم: "بالبقاء معاً وجدنا الامل" .

يقودنا إعلان الفيلم، بمحاولته بناء ثيمة للفيلم من موضوع الحرب و آثارها، إلى بناء استعداد عاطفي غير ملائم لماهية الفيلم و ماهو عليه حقيقة. فالحرب كمسرح أو فضاء اجتماعى كان يمكن استبداله بأى مشكِل اجتماعى آخر دون أن تتاثر فكرة الفيلم. هذا الإستعداد يخل بمستوى تقبل الفيلم و إستيعابه، فبينما ننتظر عوناً اجتماعيا و رحلة من الإستيعاب و التقبل فى مجتمع جديد، ينقلنا الفيلم إلى مستوى من السجال الحضاري بين مكونين اجتماعيين على قدر موضوعى من الإختلاف. و يستمر السيناريو فى خدمة مفهوم الاخاء أو الاخوية (كوجهة نظر ثقافية) ويعيد تقديمها كإجابة أو موقف مركزى و محرك فعلي للقصة. نجد أن أول مشكلة تواجههم، أو أول مفترق حضاري، عند وصولهم لمطار كينيدى، يكتشفون أن البنت الوحيدة بينهم، آبيتال، ستعيش فى مدينة لوحدها بعيداً عنهم. يقول لهم موظف الهجرة أن القوانين تقول أن على الإناث ان يعشن فقط مع عائلة. بهذا التعريف الامريكى للعائلة ينفرط المفهوم المقابل لماهية العائلة، و تتصاعد معاناتهم جمعياً جراء هذا الإفتراق أو التفريق. و مع إدراك (كارى - ريس ويزرسبون) لأهمية العلاقة تسعى إلى إستعادة الأخت و تجمعها مع إخوتها بالفعل.

undefinedSource: http://www.flipgeeks.com

للتأكيد على سطوة هذه القيمة و مركزيتها فى الثقافة الجنوب سودانية ، لا يشير الفيلم الى مستويات أخرى من المعاناة و الآلام، كالآثار النفسية للحرب و التشرد و اليتم و الجوع واللجوء إلا فى إطار مكمل لمفهوم الإخوة. و كأنه يقول كل ذلك من الممكن تعويضه و الشفاء منه بالأحرى عبر الأخوة. وكما تسبب إفتراق عائلة الاخوة و إبتعاد ابيتال عنهم فى صدع أمان المجموعة و أمانهم كأفراد، تساهم هذه الحادثة فى إستعادة حادثة فقدان الاخ الاكبر (ثيو). وتتجدد أزمة البطل الراوى ماميرى، الذى يعتقد أنه افتدى نفسه بأخيه و تسبب فى انكشافه و أسره. تجددت الآلام بعدما وصفه (بول) بالأنانيه و الجبن (تتخلى الان عن آبيتال كما تخليت عن ثيو) . ماميرى و ليكفر عن هذا الذنب يقرر العودة الى كينيا و و بعد العثور على الشقيق المفقود يدفعه الى السفر الى أمريكا باستخدام جواز ماميرى نفسه، و هي كذبة كبيرة و غير قانونية بطبيعة الحال، إلا أنها - وفقاً لثقافة الجنوب سوداني - و لأجل الاخوة، تظل كذبة جيدة.

حوار مستمر

ملامح الندية و السجال الحضاري لا يمكن إخفائها فى الحوار، فكرة الأخوة يتم نقاشها من منظور ثقافي و ليس من منظور انساني، أعني ليس من زاوية أطفال الحروب او النازحين . مثلا فى مشاهد حوار بين الشاب جيرمايه مع بطلة الفيلم ويزرسبون ، يصفها – مادحاً – بانها كالبقرة البيضاء. و يقول لها ماميرى فى مشهد آخر: "إنها بطولة ان تعيشى وحدك". جريمايه فى مشهد آخر يقول لها: "أنا أشتاق للسودان، على الاقل هنالك نعرف كيف يبدو الأسد" (يقصد العدو او درجة المباشرة في العداء ربما). يعزز الفيلم من جريمايه كصوت للتعبير المباشر عن الموقف او الحضور الثقافى الضروري. و تتعدد، بتلطف - مشاهد لنقاط تعارض ثقافي لتساهم بتناسق ليس فقط فى تصنيف نوع و مستوى الفيلم بل فى تكوين اعتبارمهم لثقافة الجنوب سوداني – و السودانى بطبيعة الحال و النظر اليهم ككيان آخر بوسعه تخطى الآلام و النزوح و اللجوء ليدلي برأيه حول كل شيء، من العلاقات الانسانية مروراً بالقوانين و العمل والحب و الحياة .