هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

أم أنه مجرد نافذة إن فتحت جلبت هواءً نقياً، و إن تركت مغلقةً فلا ضير في ذلك؟

إنقسمت منذ الأزل نظرة الناس نحو الفن إلى قسمين، البعض عدّ الفن هبةً من الآلهة و عدّه البعض الآخر إستغلالاً لمواهب البشر لا أكثر. و لكن القسمين إتفقا على أن للفن قدرةً عظيمةً على تحسين العالم، و أنه طريقة تعالج مخاطر الحياة. أو يمكن عدّها الآلية الثانية المستخدمة بعد الدين للهروب من الخطر، إذ كما أن الأخيرةَ هي طريقةٌ لتغيير العالم بالأفعال، فإن الفن هو طريقة لتغيير النفس بالفكرة و الإنفعال .

بإمكان الجميع الإتفاق على أن الجدار الخاوي من الألوان يذكّر بالعدم، و أنك ما أن تُطعّمَهُ بلوحة حتى تعود الحياة إليه. فتكاد ترى ذراعين يخرجان من قلب الحائط ليحتضنا اللوحة، ثمّ يصبح الجدار جزءاً من عالم الأحياء لا مجرد حاجزٍ أسمنتي. و الأشخاص الذين يرون الأمرين سياناً، هم في الغالب يترنحون أصلاً بين عالم الأحياء و عالم الموتى، فهم الأشخاص الذين لا ينظرون إلى السماء في منتصف الشهر الهجري والذين يتجاهلون الأشياء الجميلة سواءً كانت من صناعة الخلق أو الخالق. هم الأشخاص الذين لا يملئون رئتيهم برائحة المطر و لا يعيرون إهتماماً للقصائد و يعاملون الأشياء الجميلة على أنها عبثيةُ و بلا معنى .

يقول هيغل إن الإنسان- على عكس الحيوانات التي تعيش في سلام مع نفسها و محيطاتها – في طبيعته الروحية يضطرم فيه الثنائية و الصراع الباطني، و في تناقضها يكون الإنسان في حالة تقاذف و تجاذب. فإن الإنسان يحتاج أيضاً للوجود الحسّي و للشعور بالقلب و الإنفعال . 

و كما يقول فرناندو بيسوا في المقارنة بين الفن و الحلم : إن الحلم لابد أن نستيقظ منه بعد نومٍ نكون فيه خارج الوعي بالحياة، لكن في الفن لا وجود لزوال الوهم لأن الوهم تم القبول به منذ البداية ، فلا حاجة للإستيقاظ من الفن لأننا لا ننام فيه بالرغم من حلمنا فيه.

إذاً، ما الذي يقدمه الفن للعالم؟

undefined

Art by Alfanjariya Art 

يشغل الفن في مجتمعاتنا المنتمية للعالم الثالث حيزاً صغيراً للغاية ، يشغل زاويةً صغيرةً لا يرتادها إلا القليلون جداً، و أغلب من يرتادها يسميها هواية و أغلب من يراها من على بعد يظنها مكاناً لملء أوقات الفراغ بأشياءٍ فارغة. مجتمعنا السوداني بشكل عام يسبح بإتجاه واحد، و التيار يسحب الجميع إذ أن التربة التي يقفون عليها و يغرسون فيها أقدامهم هي دائماً هشة.

ينجب الأهل أبناءاً يتوقعون منهم أن يصبحوا مهندسين أو أطباء أو ما دون ذلك. المهم أنهم يريدون منهم مهنةً تدرّ عليهم رزقاً وفيراً و تمكّن أهاليهم من الإفتخار بهم أمام المجتمع. ليس بإمكان أحد في ظل هذا أن يمتهن الرسم، أو الرقص، أو ما شابه، بإمكانه ان يعدّها هوايةً جانبية لا غير . ثم يتحول المجتمع شيئاً فشيئاً إلى آلات على هيئة بشرية، آلات بلحم و دم يسيرون في موكب كبير، و يلتفون حول أنفسهم في دورانٍ لا نهائيّ يبررونه بعبارة : سنّة الحياة . 

ليس بالإمكان على الإطلاق إعتبار الفن شيئاً كماليّاً لا ضير من فقده ، فإن له تأثير عظيم على نفسيّة الإنسان. لقد تم تطبيق فكرة العلاج بالفنون فعلاً على أرض الواقع و أصبح ذلك جزءاً من المرافق الصحية و المراكز المختصة بالصحة النفسية. و قد أستُخدِم منذ أواخر القرن الثامن عشر في تقويم سلوك الأشخاص المصابين بإضطرابات نفسية و عقلية. كما أستخدِم لتهذيب صغار السن نسبياً كطريقة لدراستهم و باب للتعرف على ما يدور بذهنهم و معرفة حالتهم النفسية .إذ أن الفن هو إحدى الطرق التي تمكّن الإنسان من التعبير عن صراعاته الجوهرية، أي بإمكانه أن يكون لغةً أخرى، و متنفساً للاشخاص غير القادرين على التعبير. فالفن شكل نوعي من أشكال الوعي الإجتماعي و النشاط الإنساني و هو طريقة لعكس الواقع بصورةٍ فنّية أو طريقة لتحسين الواقع و تقبله .

الإنسان أثر عيشه في عالم مؤطر بأسلاكٍ شائكةٍ من كل جهة -أتحدث عن إنسان العالم الثالث تحديداً – يحتاج لفضاءٍ أرحب، فضاء يتسع للبعثرة و الفوضوية، يتمكن فيه من تفريغ مشاعره بعيداً عن الحياة التي أصبحت لا تعني بشيء غير المادة. على الجميع إدراك أن للإنسان جانباً آخر بالإضافة إلى جانبه المادي، و أن تغذية الروح هي بمثابة تغذية الجسد، كلاهما ضروري لإستمرار الحياة بشكل طبيعي. على العالم الثالث تحديداً أن يضم الفنانين تحت جناحيه إن كان قد تبقى له جناحان لم يتساقط ريشهما إثر ما يحدث فيه من فظائع!عليه أن يفسح المجال قليلاً للجمال و الفنون، ولو فسحةً صغيرة، علّها ترمم جزءاً صغيراً جداً مما حل بالنفوس من خراب .عليه أن يدفع بفنانيه إلى الأمام، إلى إنتاج المزيد مما يزيد مخزون البلاد الثقافي، بدلاً من أن يدفعهم للموت متجمّدين على رصيف ما في بلاد أخرى.