هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

سنة عظيمة مليئة بالنجاحات والتقدير حظي بها الفيلم الوثائقي “على إيقاع الأنتنوف” لصانع الأفلام “حجوج كوكا”. عامان من العمل الشاقّ أدت إلى ولادة الفيلم الذي تمّ تصويره في جبال النوبة، وإقليمي النيل الأزرق وجنوب كردفان بالإضافة إلى مخيمات اللاجئين في جنوب السودان.

كانت بداية الفيلم عندما توجّه المخرج حجوج كوكا إلى الإقليم في مشروعٍ للتصوير الصحفي، حيثُ أراد توثيق الحرب وتأثيراتها على المجتمعات هناك بالصور والڤيديو. كوكا وجد نفسه في مواجهة مع حقيقة أن كثيرين إعتبروا رحلته وقفة تضامن مع المهّجرين محلياً (النازحين) ولاجئي الحرب في الإقليم الممزّق بفعل الحرب، الذين يتسللون بين المناطق التي في قبضة المتمردين وتلك التي في قبضة الحكومة، في إنتظار معجزة تأتي على هيئة نصر للحركة الشعبية قطاع الشمال أو حتى في شكل إنتفاضة شعبية في الخرطوم البعيدة.

undefinedفكرة الفيلم جاءت بصورة عفويّة، يقول كوكا متذكرًا ذلك اليوم جيّداً:

“عندما وصلتُ إلى “مابان”، كنتُ أعيش تحت قصف طائرات الأنتنوف، لكنني وافقت ذات يوم أن أذهب لحضور حفل زفاف مع بعض الأشخاص من المعسكر. وجدت هناك موسيقى عظيمة، ثم أُخذتُ إلى مكانٍ آخر حيثُ كانت تتنافس فرقتان موسيقيتان ويقرر الجمهور الأغنية الأفضل عن طريق الرقص عليها أكثر. الموسيقى كانت عبر الطبول والربابة وآلات موسيقية أخرى محلية الصنع. من هناك أخذني أصدقائي إلى مكان آخر به موسيقى صوفية. في نهاية اليوم، ذهبت إلى النوم والموسيقى ما تزال تتردد من أماكن مختلفة في المعسكر. إنتبهتُ فجأة أن هناك موسيقى وأنغام مختلفة تبعث البهجة للناس هنا. تساءلتُ ماذا لو أصبح هذا حال الخرطوم؟ ماذا لو إجتمع الناس بنفس الطريقة التي يجتمعون بها في هذا المعسكر – الذي يجمع قبائل لم يسبق لها أن تعايشت مع بعضها البعض ولكلٍ موسيقاها الخاصة. هذا ما يجب أن يكون عليه السودان الذي أريد.” 

بعد تلك الرحلة، سافر كوكا إلى جوبا والقاهرة للتخطيط للفيلم. تفكّر في مواضيع الهويّة، والحرب، والموسيقى، ثم غرق في البحث، قرأ أوراقاً وكُتب تُعالج سؤال الهويّة السودانية. قاده هذا إلى المزيد من تمارين البحث الروحيّ وأسئلة حول نماذج الثقافات المختلفة التي تتقاطع في السودان وتُشكّل مجتمعاته. من هناك زار مع الموسيقيّة “السارّة” إقليم النيل الأزرق، مخيّم يوسف كاوا وجبال النوبة لتصوير الفيلم، ومكثوا عدة شهور في كلٍ لإجراء مقابلات.بالنسبة لإقليم ممزّق بالحروب، الحديث عن التجمّعات الموسيقية الطائفية كانت بمثابة فكرة مغايرة ومناسبة لمشروع فيلم، يقول كوكا معلّقاً:

“أنا فنان تشكيليّ، لذلك عندما بدأت الفيلم كان مشروعاً شخصيّاً بالنسبة لي. ولكن أردتُ للمحيطين بيّ أن يروا ما رأيتُه وما جعلّني سعيداً هناك. أردتُهم أن يشعروا بما شعرتُ به. كان مزيجاً لتوضيح ما يحدث هناك، خاصةً الكمّ الهائل من الفنون والموسيقى – كانت افضل من أي موسيقى سمعتها في حياتي!”

على الرغم من أن جزء من الرسالة كان عرض موسيقي رائع، إلا أن كوكا كان واعياً بالأوقات الصعبة التي يعانيها الناس خلال تصويره للفيلم. و من ما تفهمه خلال التعايش مع المجتمعات في المعسكر، إستنتج أن الناس لا يتحدثون مع بعضهم عن معاناتهم وجزء منهم يبقى في الظلام ويتم تناسيه. أدّى هذا لإنهيار الكثيرين عندما تطوّعوا وفتحوا قلوبهم بالحديث عن الحرب وتأثيرها على حياتهم خلال المقابلات. كان هناك عبء نفسي إضافي وهو أن الكثيرين لا يثقون به – كشخص قادم من شمال السودان ومعه كاميرا لتصويرهم وسؤالهم عن أشياء تُثير مكنوناتهم وتُحرّك مشاعرهم. 

undefinedكوكا كان واعياً بالأبعاد المختلفة والتعقيدات في هذا المشروع لذلك جعل من أولوياته أن يعيش مع المجتمعات التي يقوم بمقابلتها وليس مع المنظمات غير الحكومية المتواجدة حول المعسكرات. محاولاته للإندماج في تلك المجتمعات كانت ضرورية لكسب ثقتهم وتمكينه من التحرّك بحرّية لتوسعة مجال تغطية الفيلم. مع مرور الزمن إستطاع أن يفهم المجموعات المختلفة بصورة افضل وأن يهيئ لهم الظروف الملائمة للتحدّث بحريّة. قال ملاحظاً:.

“البعض لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم كما يفعل الآخرون، الفتيات مثلاً يفضلنّ الغناء على إجراء المقابلات”.

كوكا أيضاً شَهِد ميلاد العديد من القصص أثناء التصوير. تذكّر إحدى تلك القصص التي بدأت عندما إضطُر لتأجيل مقابلة مع إحدى النازحات تُدعى “منى”:

“عندما عدتُ بعد ستة أشهر كانت تبدو بشرتها أفتح بصورة ملحوظة بعد أن قامت بتبييض لون بشرتها، الفكرة من المقابلة تغيّرت وأصبحت عن السبب الذي دفعها لتفتيح لون بشرتها”.

خلال الرحلة حاول كوكا إستطلاع الآراء المتعددة للناس في الإقليميْن والمخيّمات عن مجتمعات الخرطوم. بعضهم كان يتعجب لماذا يُقاتِلُهم ناس من الخرطوم إن لم يكن لديهم مشكلة معهم – ناس النيل الأزرق وجنوب كردفان. هنالك إتصال ضعيف إن لم يكن معدوماً بين جبال النوبة وبقية أجزاء البلاد. حالياً هناك طبيب واحد في المنطقة وهو أمريكي؛ يتساءل الناس لماذا لا يأتي الأطباء والمعلّمون من بقية أجزاء السودان للمساعدة أثناء الحرب. كوكا أشار إلى أن زيارة مائة ممن يسمونهم “الشماليون” لإقليم جبال النوبة ستغّير الكثير من المفاهيم. سيظّل الناس يشككون في نوايا بعضهم البعض إن لم يحدث إتصال مباشر بينهم.

واحدة من الرسائل التكاملية للفيلم تنعكس في المشاهد الحية والمؤثرة المناهضة للحرب. الفيلم يُصوّر بوضوح صوت قصف القنابل والفوضى التي يحدثُها تحليق طائرات الأنتينوف في الأجواء. في المقابلات، الناس يرون السلام كمطلب رئيسي لتحقيق التنمية وعودة الحياة إلى طبيعتها. يقول كوكا مفكّراً:

“أعتقد أن رسالة الفيلم المناهضة للحرب – بجانب كل حملات التضامن الأخرى بعرض الفيلم والتحدث عنه – تعكس وقوفك ضد هذه الحرب وتعمل على نشر تلك الرسالة. الناس في جبال النوبة سمعوا عمّا تفعله الحركات الشبابية ضد الحرب وبعضهم قد علموا أن للبعض في الخرطوم مواقف لمناهضة الوضع الراهن. مما يعكس أن الجهود في المركز قد ذهبت طريقاً طويلاً نحو التغيير”. 

بعد التعديل الأولي للفيلم تمّ عرضه في المعسكر الذي تمّ فيه تصوير بعض من المقابلات، عندما رأى الناس أنفسهم يتحدثون ويصبحون جزءاً من القصة كانت ردود أفعالهم إيجابية.حصل الفيلم بعد ذلك على مستويات هائلة من الإحتفاء العالمي عندما فاز بجائزة إختيار الجمهور في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي لعام 2014. ثم حصد جائزة النيل الكُبرى عن أفضل فيلم وثائقي في مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، وجائزة افضل وثائقي في مهرجان قرطبة للفيلم الأفريقي ثم جائزة البوابة الذهبية للفيلم الوثائقي في مهرجان سان فرانسسكو السينمائي الدولي.

كل ذلك حدث بالصدفة البحتة، يتذكّر كوكا:

“لديّ صديقة مخرجة أعمل معها في مشروع، تلقّت رسالة من لجنة مهرجان تورونتو السينمائي الدولي أن لديهم مبعوثة قادمة إلى كينيا وترغب في مقابلتي، لأنهم يريدون ضمّ عدد أكبر من الأفلام من أفريقيا والشرق الأوسط. المبعوثة أبدت إهتماماً بفكرة الفيلم وعندما عرضتُ عليها مقاطع منه أُعجِبت به. وهكذا تمّت دعوتي لتقديم العرض الأول لفيلم “على إيقاع الأنتنوف” في حفل توزيع جوائز مهرجان تورونتو”.

الفيلم تمّ عرضه في السودان على نطاق ضيّق في شاشات عرض وتجمّعات خاصّة في أوساط الشباب ومجتمعات جبال النوبة. أراد المخرج أن يرى السودانيّون هذا الفيلم لأنهم الجمهور الذي كان يستهدفه أثناء تصويره للفيلم، أضاف:

“أشعر أنهم سيكونون أكثر تفاعلاً مع مواضيع الهويّة، خاصّةً في مدينة الخرطوم لأنها المكان الوحيد الذي يشكّل بوتقة إنصهار لكل أجزاء السودان وثقافاته. يوجد الحل في الخرطوم وكذلك كلّ القضايا المهمّة، إنها المكان الذي يجب أن يبدأ منه حوار الهويّة. وتكمّن المشكلة ايضاً في الخرطوم وهي مشكلة الموارد التي تؤخذ لتستفيد منها الخرطوم وتبقى الأطراف مهمَّشة. كمثال: تم إقامة سد على النيل الأزرق لتوليد الكهرباء للخرطوم، كذلك البترول والصمغ العربي من جبال النوبة يتمّ تصديرهم لرفدّ خزينة الخرطوم بالأموال. الناس في جبال النوبة يشعرون أنهم غير مستفيدين من تلك الموارد بينما المستفيدة هي الخرطوم. ثم هناك أيضاً صمت سكّان الخرطوم تجاه إنعدام العدالة؛ جزء من ذلك الصمت سببه الجهل بالحقائق، والآخر نتيجة للعجز وقلّة الحيلة. ببساطة أهل الخرطوم هم الوحيدون القادرون على تغيير هذا الواقع”.

“على إيقاع الأنتنوف” تمّ عرضه في عدة مهرجانات حول العالم أهمها: المهرجان العالمي للفيلم الوثائقي في أمستردام، أيام قرطاج السينمائية، مهرجان دبي السينمائي الدولي، المهرجان الأفريقي للسينما والتلفزيون (واغادوغو) ومهرجان بَنَما السينمائي الدولي.

مهارات حجوج كوكا الفنيّة و إهتمامه بالمشاريع الإنسانية قد تكون البذرة التي تدفع بالرسائل وحملات المناهضة للحرب في السودان وخارجه. الجوانب الإنسانية التي تمّ عكسها في الفيلم تنوّعت في طبيعتها؛ من نقاشات الهويّة الثقافية إلى اللغات والتنوّع الموسيقي والعادات الإجتماعية المحيطة بمعايير الجمال. مع ذلك كانت الرسالة واضحة، الحرب تعمل على تدمير الإقليم وتترك جرحاً عميقاً في مجتمعاته، تُعيق نموّه وإزدهاره ونتيجة لذلك تؤخر تقدُّم البلد ككل. الحقيقة التي لا جدال عليها أن السلام يعتمد على التضمين الثقافي في تكوين فُسيفساء السودان المتنوعة، وهذا يقع على عاتق الأفراد الذين جلب هذا الفيلم والمبادرات الأخرى إلى إهتمامهم تأثير الحرب على مناخ وروح ووحدة السودان. 


ريم شوكت

مصور مناظر طبيعية عثمان بخيت مصور طبيعة كثير الترحال، ومن مناصري ريادة الأعمال والتنمية المستدامة. تصويره الفوتوغرافي يشير لحبه للطبيعة و البراري، وصوره تظهر جواً من الصفاء والروعة في ظل مغامراته في البرية. إعتمد نهجاً فوتوغرافياً يطمح لإظهار قيمة المناظر الطبيعية في شتى البلدان، وعكس جمال وفخر تلك البلدان بما تتمتع به من طبيعة ساحرة.