في كل مرة باشرت بمغامرة جديدة في جزء جديد من السودان فوجئت بإتساع وتنوع هذا البلد. من الممتع جداً رؤية الحياة خارج الفقاعة التي تتمثل في مدينة الخرطوم. قادني الفضول هذه المرة نحو أعالي نهر عطبرة. بداية من الطريق المألوف من الخرطوم إلى مدينة عطبرة، هناك الكثير من بواقي إطارات إنفجرت فتناثرت بقاياها على جانبي الطريق الضيق – يذكرنا هذا المنظر أن هذه البيئة الصحراوية يمكن أن تكون قاسية لا ترحم.
بعد الوصول إلى عطبرة تركنا الطريق المغطى بالأسفلت وغامرنا على المسارات الترابية، مروراً بأعداد كبيرة من مدن الأشباح التي بُنِيَت لتعويض أهل المناصير لنزوحهم من مروي. المنازل وقنوات الري الجافة وقفت بمثابة تذكير صارخ عن فشل الحكومة في تقديم أي نوع من التشاور أو الوصول إلى حلول مقبولة يمكن أن تكون أقل تكلفة بكثير من هذا الخراب الحالي.
ياللعار.

قُدنا بالتوازي مع نهر عطبرة الذي يمتد عبر ولايتي نهر النيل وكسلا وراء الحدود إلى إثيوبيا و إريتريا. عبر الحدود يشار إليه كنهر Tekeze .الطريق (أو عدمه) يتألف من المسارات التي وضعتها الشاحنات التي سارت أمامنا. القيادة عبر الكثبان الرملية التي لا تنتهي و بقع أشجار السنط التي تظهر عشوائياً تعطي الإحساس أن الأفق أقرب مما ظننت في البداية. بدا كما لو أن سيارتنا ستسقط من على وجه الأرض وراء الكثبان الرملية القادمة. على الرغم من صفاء المشهد، وجدت نفسي أتساءل كيف يمكن لأي شخص أن البقاء على قيد الحياة في هذه البيئة القاسية
معظم القاطنين في هذا المكان هم الرُحَل؛ يرعون مواشيهم على طول الطرق المستخدمة تاريخياً. لعدة قرون تمكنوا من الحصول على لقمة العيش من خلال التجارة بالإبل المربحة في سلام نسبي.
للإستفادة من برودة الطقس، كانت رحلاتنا تبدأ عادة بين الخامسة و السادسة صباحاً قبل شروق الشمس. في الصباح الباكر إستمتعنا بمشاهدة سباقات الهجن المرتجلة. كان الأولاد الصغار -الذين لا يتجاوزن العشرة أعوام، أقوياء على ظهور الإبل، راكضين عبر الرمال الطبيعية تاركين خلفهم غيوم غبار شرسة. يُدَرِب هؤلاء الأولاد الإبل للمشاركة في السباقات التي تقام في ولاية كسلا. من هناك أفضلهم يباع بأسعار قد تصل إلى 10,000$ أو أعلى. وتؤخذ هذه الإبل إلى شبه الجزيرة العربية، الإمارات بالتحديد إلى أعرق و أكبر مربيي الإبل. منذ وقتٍ ليس ببعيد، كان الكثير من هؤلاء الصبية الصغار يباعون مع الإبل لأن أجسمهم الصغيرة النحيلة مناسبة لرياضة سباق الإبل. سُلِطَت الأضواء على محنتهم عندما بدأت عدة مصادر بنشر الإنتهاكات الغير موثقة في الدول الخليجية، حيث تساء معاملة صغار المتسابقين ثم التخلص منهم بعد أن يتجاوزوا الحجم و الوزن المناسب للسباق.

بعد عدة أيام في تلك المناطق من البلاد، كان من الواضح أن هذه المجتمعات قد نُسِيت تماماً من قِبَل الحكومة المركزية، و المجتمعات بدورها لا تثق كثيراً في هذه المؤسسة لتزويدهم بأي مظهر من مظاهر الخدمات الأساسية. المجتمعات تشعر بآثار تغير المناخ وتقلباته، فالعشائر التي كانت تتفاخر في آن ما بقطعان عددها عشرات الآلاف الآن تُعد محظوظة إذا إحتفظت بحفنة من أجل الدخل الأساسي. كانت سخرية الوضع واضحة. السودان كبلد واحد من أكبر مُصَدِري الماشية في القارة، ولكن الذين يتعبون في تربية هذه القطعان لا يجنون فوائد تُذكر.

Image Credit: NubiaNomad. Inside tent of bushaira family
وصلنا لنهاية رحلتنا متعبين ومغطين بطبقة من الغبار الناعم. عند إقرابنا من مشارف الخرطوم، رأينا لهيب مصفاة الجيلى للنفط في الأفق ثم الأضواء و الكثافة السكانية. دخول مدينة الخرطوم تركني في حالة ذهول محاولة التوفيق بين أحاث الأيام السابقة. فكرت في البيئة التي أُدخِلت، والشوارع التي تنتشر فيها سيارات -حيث السائقين الذين يفتقرون الصبر يحاولون حشر نفسهم في فتحات صغيرة داخل جمود حركة المرور. تذكرت سرد المحادثات الممتعة على كوب من الجبنة الطازجة (القهوة) المتناقضة مع عدم صبر قاطني الخرطوم، فكان من الصعب الإقتناع أن هذه المجموعات موجودة في نفس القارة.
تقديراً بالتنوع الذي يشكل هذا البلد أتمنى أن يكون أكثر إحتفالاً به بدلاً من أن يُستخدم كأداة للإنقسام في الأجندات السياسية.
تابعوا المزيد من مغامرات الترحال على مدونة المؤلفة .