هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

في يوم من الأيام، قرابة العام 1930، ولد صبي يدعى عبد العزيز داوود، في بلدة صغيرة شمال السودان. أصبح يتيماً وهو صغير جداً، وبدأ العمل في سن مبكر أثناء حضوره الخلوة المحلية (المدرسة القرآنية) حيث تميّز بين أقرانه لصوته العذب. الصوت الذي كان مقدراُ له أن يأخذه لأماكن بعيدة، وفقا لأستاذه. بالطبع المعلم يعني في تلاوة القرآن الكريم، ولكن بدلاً من ذلك صدح صوت الصبي بالغناء من قلبه في حفل ختان صديقه وألقوا به من الخلوة في إشمئزاز. وفي وقت لاحق، أبو داود – كما أصبح يُعرف في وقت لاحق – سينتقل إلى الخرطوم ويصبح واحد من أكثر المغنين شهرة و شعبية في وقته وبعدها بكثير. إبتسامته الواسعة وروح دعابته جعلت ذكراه عطرة، حتى بعد أن إنقطعت حياته القصيرة في سن 57 في عام 1984. 

بعد ثلاثة عشر عاماً من وفاة أبو داوود، ولد صبي آخر باسم سماني حجو، ولكن ليس في بلدة صغيرة في شمال السودان، ولكن في مدينة في المملكة العربية السعودية. كبر الصبي وتنقل في جميع أنحاء الخليج، وإستمع إلى أبو داوود – وغيرهم –  ممن كان والديه يستمعون إليهم في جميع أنحاء المنزل، مثل الكثير من أطفال جيله، ممن ولدوا في المهجر لآباء وأمهات يشتاقون إلى وطنهم. سيكبر هذا الولد لينظر لموسيقى أبو داوود – وموسيقى كثيرين آخرين – بطريقة مختلفة، مع إحتمالات مختلفة في عقله. حتى أصبح مسلحاً أخيراً بإحساسه الخاص بالإيقاع، وبعض المهارات الموسيقية التي علمها لنفسه ومجموعة من البرامج المنزلية لصنع الموسيقى. هنا بدأ إعادة صوت أبو داوود وموسيقاه الجميلة للعالم بطريقة تماشي القرن الواحد وعشرين، فكانت لتجعل أبو داوود نفسه فخوراً بدون أي شك. صدور الألبوم خلق ضجة في وسائل الإعلام الاجتماعية، وقسّم الناس سريعاً لمعسكرين، مشجعين ونقاد. على الرغم من أن سماني كان قد أطلق بعض الأغاني مسبقاً لتعطينا فكرة عن كيفية الإنتاج والتوزيع التي يسعى لها، ولكن تنوع ألبوم “الحقيبة” تجاوز توقعات الجميع. وبالتالي أتت مع إصدار الألبوم مناقشات، في محاولة لفهم الفنان وإستكشاف أسبابه وفلسفته.

سماني: “لنكون صادقين بدأ كل شيء كأمر شخصي. لقد كنت أستمع إلى الأغاني السودانية أثناء نشأتي، وفي الوقت نفسه أحب موسيقى الهيب هوب، والآر اند بي، و موسيقى الجاز ومعظم الأنواع الأخرى. لذلك عندما بدأت في صنع الموسيقى، كانت فكرة مزج الموسيقى السودانية مع الأنواع الأخرى دائماً في ذهني. أنا فقط لم أعتقد أنني سأكون قادراً على القيام بذلك. ذلك حتى إطلاقي “من زمان” وتقبل الناس لها. حتى أنها جعلت الناس يريدون سماع المزيد وبعضهم سألني عن الأغنية الأصلية”.

معنى الحقيبة الأصلي هو عبارة عن مجموعة كبيرة وغير محددة إلى حد ما من الأغاني السودانية من منتصف القرن العشرين، والجمع بين كلمات وأغاني قوية من قبل كل من الشعراء والموسيقيين السودانيين وغير السودانيين. إسم “حقيبة” أتى من الحقيبة التي كان يحمل فيها المذيع أحمد عثمان الأغاني في ومنها الإختيارات المختلفة على برنامجه الإذاعي الذي ظهر في 1920. مع مرور الوقت، أصبحت هذه الأغاني العنصر الرئيسي في الموسيقى السودانية، وكل نوع جديد أصبح يخضع للمقارنة مع هذه الأغاني “الأصلية”.

undefined

وقد جُددت أغاني الحقيبة مئات المرات على مر السنين، حتى أصبحت كامل “صناعة” الموسيقى السودانية عبارة عن إيقاع الحقيبة نفسه. أصبح لأغاني الحقيبة إصدارات خاصة للحفلات، إصدارات للزفاف، وأخرى حزينة، إصدارات متطورة وأنواع جديدة في كل مناسبة. كورال المدارس والجامعات قامت بنسخها، وأصبحت على الراديو طوال اليوم، حتى مل الناس منها ومن قلة الإبداع في هذه الصناعة. على الرغم من هذا فموسيقى الحقيبة لا تزال أفضل موسيقى بالنسبة للكثيرين مقارنة بالأعمال الجديدة ذات الجودة منخفضة. لذلك أي تجديدات أو ريمكسات ليست موضع ترحيب من قبل الجميع. ومع ذلك، قفزت عدد مرات الإستماع لألبوم سماني من 2000 إلى 35900 في 24 ساعة فقط عقب صدور الألبوم. أي شخص لديه أي معرفة أساسية في الموسيقى السودانية يعلم أن سماني لا يفعل شيئا مختلفاً بشكل جذري. فما هو الجديد هنا؟ 

عينات سماني من الأغاني الأصلية في موسيقاه هي نفسها التسجيلات منخفضة الجودة من قبل المطربين الأصليين، مع مزيج الريغي، والهيب هوب ودمج الآر اند بي. ومع ذلك، فإن التعديلات ليست متطرفة بما فيه الكفاية لتُفسد الأغاني الأصلية، والعديد من أكبر محبي الحقيبة إعترفوا بإستمتاعهم بالتوزيعات الجديدة ووفاءها للأغاني الأصلية. في الواقع، عندما أرسل لي زوجي أغنية أبو داود الأصلية (بعد سماع ريمكس السماني ل “يا حليلهم”)، كانت مفاجأة سارة لي أن الأصل كان جميلاُ كما الريمكس – أو العكس! أعترف أنني شعرت بعزة أكثر بعد أن إستمعت إلى أغنية الحقيبة الأصلية من البداية إلى النهاية. الجانب السلبي لهذا، بطبيعة الحال، هو عدم وضوح جميع التسجيلات، ومع إيحاءات قوية من الموسيقى الجديدة يمكن للكلمات الأصلية أن تصبح مختلطة إلى حد ما وتٌفقد.

ومع ذلك، بالنسبة للكثيرين منا، يمثل هذا النوع من الموسيقى شيء أكبر من ذلك بكثير. لجيل بأكمله نشأ خارج السودان، وكبر معه حنين لوطن لم نعرفه قط إلا من خلال قصص والدينا، وبعض الذكريات، والأهم من ذلك، الموسيقى، فعدد قليل جداً منا لم يستمع لهذه الأغاني  في وقت ما أو آخر. شخصياً، نشأت بين نيوزيلندا ودول الخليج وقدمت فقط إلى السودان كبالغة، إخوتي وأنا نشأنا على سماع هذه الأغاني في السيارة والمنزل. أنا أذكر سماع أغنية وردي “ارحل” وكيف كانت تتغنى بها والدتي في المطبخ . ويمثل هذا النوع من الموسيقى السودان الذي عاش فيه أهالينا ويحبونه: سودان الرخاء والعدالة، والليال الهادئة الحلوة وأيام السلام. السودان من دور السينما والحفلات الموسيقية في الهواء الطلق، سودان التعليم العالي والرعاية الصحية المجانية. بطبيعة الحال، كان السودان بعيداً عن الكمال، ولكنه كان نسخة أفضل بكثير من السودان الذي نعرفه اليوم. يبدو أن الموسيقى التي أنتجها سماني تكون جسر بين سودان مشرق، لامع والسودان الحالي المدمّر الذي نعرفه و نعيشه.

وهكذا، حقيبة سماني غير مألوفة وجديدة، تثير الحنين ومثيرة للإهتمام، و تجسد موسيقى يمكننا التواصل معها على حد سواء من خلال الذاكرة وطعم الثقافة الحالي بكمية العولمة التي تم غرسها. بالنسبة لكثير من الناس، هذا الإنصهار الموسيقي الجديد هو المرة الأولى التي يتمكنون فيها من “الإستماع” إلى هذه الأغاني والبدء في تقديرها. وبالنسبة لآخرين، فإنها وسيلة ناجحة لتقديم الموسيقى السودانية إلى الجماهير غير السودانية، بما أن الإيقاع عالمي بما فيه الكفاية ليكون محبوباً حول العالم، والأغاني سودانية بما فيه الكفاية لتحافظ على سودانويتها.

إذا ما هو التالي؟

سماني: “أخطط بالتأكيد لإستكشاف أشياء أخرى. أنا في الواقع أريد أخذ قسط من الراحة قليلاً من صنع الإيقاع وزيادة التركيز على الأدوات والعروض الفعلية. فإنه مقيّد للغاية أن يكون التعديل فقط في الأغاني السودانية. ومع ذلك، إذا حصلت على فرصة للتعاون مع الموسيقيين والاستوديوهات المهنية، فقد أقوم بإعادة صياغة بعض الأغاني السودانية. حقيبة 2.0 ربما، من غير العينات”.

حقيبة 2.0؟ نحن في الإنتظار. 


ريم جعفر

ريم طبيبة، كاتبة، مدونة، مصورة، صانعة أفلام ومصممة جرافيكية. نشأت بين نيوزيلندا وعُمان، وعادت إلى السودان في عام 2012. إهتماماتها تدور حول المساواة الإجتماعية والصحة والتعليم وحقوق المرأة وإدارة التغيير. ريم تكتب عن الطبقة العاملة السودانية بطريقة ساخرة لتسليط الضوء على التحديات والتطلعات و ترى أن الأفضل لم يأتِ بعد للسودان. مدونة ريم على هذا الرابط:http://reemgaafar.blogspot.com