هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

نعني بالعنف هنا كل ما يلحق الأذى بالإنسان سواءً كان ذلك جسديا او جنسيا او نفسيا، ويندرج تحته استخدام القوة بالضرب او بالآلات الحادة، والاغتصاب، والتمييز على اساس الجنس والعرق، والحرمان من الحقوق والحريات وإهدار كرامة الانسان قولاً او فعلاً .

قامت الكثير من المدارس النفسية والفلسفية بمحاولات لتفسير سيكلوجية العنف، من أهمها المدرسة السلوكية التي ترى أن العنف يتولد بالممارسة أو النمذجة؛ اي ان المعتدي قد يكون ضحية تعرضه للعنف في السابق أو مشاهدته لأحداث عنف أُسري أو في نطاق الحروب مثلاً. أما فرويد فيرى أن العنف أحد غرائز الإنسان التي يلجأ اليها لتحقيق رغباته ومصالحه التي قد تصطدم بمصالح الآخرين. كما أضاف هوبز أن نشأة العنف قديمة بقدم الانسان الأول الذي إستخدم العنف كوسيلة دفاعية ليقي نفسه المخاطر ويضمن بقائه، الأمر الذي إختلف كثيراً عقب ظهور المجتمعات والقوانين التي قللت من التحديات التي كانت تهدد بقاء الفرد في السابق.

تعتبر الشخصية المعادية للمجتمع أحد اضطرابات الشخصية التي تتسم باستخدام العنف والاساءة للآخرين، وانعدام الشعور بتأنيب الضمير، وعدم احترام القوانين وغيرها من السمات التي تجعلها أكثر ممارسة للعنف ، وتلعب كل من الوراثة والبيئة دوراً في تشكيل هذه الشخصية. ذكر الدكتور حجازي في كتابه سيكولوجية الرجل المقهور أن الإنسان الذي يعاني من الضغوطات المادية والمعنوية يستخدم العنف لتخفيف توتره في محاولة لرد إعتباره وكرامته؛ فيقوم إثر ذلك بممارسة العنف في نطاق نفوذه إبتداءاً من أسرته. وهذا قد يفسر تزايد وتيرة العنف (والعنف الأسري على وجه الخصوص) في بلدان كالسودان حيث الأوضاع المعيشية صعبة.

وتظل ثقافة المجتمع أحد أهم العوامل في ترسيخ العنف أو نبذه، فعلى سبيل المثال فإن مجتمعنا يشجع ضرب الأطفال بهدف تربيتهم وضبطهم ويعتبر ذلك من أنجح طرق التربية مما قد يجعل الطفل أكثر عرضة لأن يصبح ممارساً للعنف في المستقبل كما أوضحنا آنفا (المدرسة السلوكية). مثال آخر هو التمييز على أساس الجنس المتجذر في ثقافتنا، والذي يعطي الذكور أفضلية على الإناث وينصبهم أولياء عليهن مهما تقدمن في السن وإكتسبن من الخبرات؛ فقد تقضي الواحدة منهن حياتها متنقلة بين معتدين مختلفين لا تلبث أن تتخلص من أحدهم حتى تقع في قبضة الآخر! وفقاً لبيانات منظمة الصحة العالمية فإن واحده من بين كل ثلاث سيدات حول العالم قد تعرضت للعنف الجسدي أو الجنسي في فترة من فترات حياتها وفي معظم الحالات يكون المعتدي ذو علاقة وثيقة بالضحية. إن مجتمعنا ينظر لضحايا الإعتداء الجنسي على عكس غيرها من الجرائم نظرة ملؤها الخزي والعار كما أورد مندوب الأمم المتحدة عن زيارته للسودان في فبراير 2018 ؛ الأمر الذي يحفز الضحايا على إلتزام الصمت وعدم التبليغ عن هذه الجرائم مما يصعب مهمة تقدير حجم المشكلة والنظر في
حلها. في بعض الأحيان تصل الضحية – نتيجة العنف المستمر- خصوصاً في حالات العنف الأسري، للدخول في متلازمة ستوكهولمية *مع الجاني بحيث تتقبل تجاوزاته عليها بل تشرع في التبرير له كذلك.

undefined

Source: www.istockphoto.com

في دراسة بريطانية نشرت عام 2015 أجريت على طلاب المدرسة المتوسطة الذين تعرضوا لإعتداء جسدي أو جنسي وقامت بتتبعهم حتى سن ال29، وجدت أن المشاركين كانو أكثر عرضة للإصابة باضطرابات ما بعد الصدمة والشخصية المعادية للمجتمع وغيرها من المشاكل النفسية في مقتبل سنوات شبابهم. يمكننا تصنيف الآثار التي يتركها العنف إلى صحية أو جسدية : كالجروح والإصابات الناتجة عن استخدام القوة، الإيدز وغيره من الأمراض المنقولة جنسياً في حالة العنف الجنسي. وآثار نفسية مثل الاكتئاب، الانتحار، و اضطرابات ما بعد الصدمة **،اضطرابات النوم والطعام، ،وادمان الكحول والمخدرات، فقدان الشعور باحترام الذات، وفقدان الثقة في النفس وفي الآخرين.

إذن هل ثمة حلول بامكاننا تقديمها؟!

قامت العديد من المنظمات العالمية والمحلية بالعمل على برامج لمكافحة العنف، ولكن كيف يمكننا الإستفادة منها إذا كانت أغلب حالات العنف الأسري والاغتصاب لدينا لا يتم التبليغ عنها؟! كيف يمكننا المساعدة إذا كنا لا نعلم من هم بحاجة إليها؟

يبدو أن الأمر هنا أكثر تعقيدا وأن أول خطوة في مكافحة العنف لابد أن تكون التوعية لنشر ثقافة الحقوق بين الناس ولنتخلص من وصمة العار التي تلازم كل من يهم بمقاضاة الجناة خصوصاً إن كانوا من العائلة والأقرباء. وهذا ما ركزت عليه الجهات القائمة على الأمر في السودان (الحكومية وغير الحكومية) والتي أهمها وحدة حماية الأسرة والطفل التي تعنى بحماية الاطفال من الانتهاكات الجنسية والجسدية والإهمال، وتهدف لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا وأسرهم، و ترفع الوعي لدى الأسرة والمجتمع بكيفية التعامل مع ضحايا العنف وبأهمية التبليغ المباشر. ودعمت اليونيسف نبذ العادات الاجتماعية التي تؤدي للعنف والاستغلال والإيذاء مثل ختان الإناث وزواج القاصرات والعنف المنزلي، وأيدت أنشطة حقوق الطفل ورفع مستوى الوعي. كما يقدم مركز سيما لحماية المرأة والطفل المعالجة الصحية والنفسية للضحايا وأسرهم والعون القانوني للسير في مجريات القضية.

undefined

Source: UN women

أما في دول العالم المتقدم كالولايات المتحدة فهنالك خط ساخن يعمل على مدار 24 ساعة يعمل في نطاق قانون منع العنف المنزلي وقانون حماية المرأة يقوم بتقديم الدعم النفسي والمعنوي، والمعلومات التي تلزم الضحية عن طريقة التبليغ بما يزيد عن 170 لغة ليصل الى مئات ضحايا العنف. كما يتضمن برنامج منع العنف توفيرالمأوى والمساعدة القانونية للضحايا. وتركز المنظمات غير الحكومية (العالمية والمحلية)على التوعية والدعم النفسي لضحايا العنف؛ أي أن الدور الأساسي في برامج منع العنف في الولايات المتحدة هو دور الجهات الرسمية والقانونية ويأتي دور منظمات المجتمع المدني مكملاً وداعماً لها - على خلاف ما هو موجود في بلداننا.

*متلازمة ستوكهولم: هي حالة حدوث تعاطف بين الضحية والجاني وسميت كذلك تشبها بحادثة السرقة واحتجاز الرهائن في مدينة ستوكهولم التي دامت ستة أيام وانتهت بتعاطف الرهائن مع الخاطفين .

**اضطرابات ما بعد الصدمة : تحدث عندما يتعرض الشخص لحدث مروع او مهدد للحياة ، يعاني فيها المصاب من الشعور بحدوث التجربة من جديد والكوابيس والشعور بالقلق والذنب وغيرها من الاعراض.