أصبحت الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 بين الجيش السوداني والدعم السريع عاملاً رئيسياً في تعميق المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في البلاد. فالاقتصاد السوداني عانى من أزمات هيكلية منذ عقود، تتمثل في التضخم وضعف الإنتاج وتدهور العملة المحلية وانسحاب رؤوس الأموال من الأسواق المحلية نتيجة لضعف السياسات الاقتصادية التي اعتمدت على تصدير البترول دون تنويع مصادر الدخل، ما جعل الاقتصاد السوداني هشاً وغير مستدام، وفشل قوانين الاستثمار بسبب عدم الاستقرار السياسي وعدم كفاءة البنى التحتية وانعدام الحوافز للمستثمرين. فالآن وجد السودان نفسه أمام عائق أكثر ضخامة حيث وصلت نسبة التضخم إلى 218% في أغسطس 2024 مقابل 83% في يناير 2023، وتراجعت قيمة الجنية السوداني مقابل الدولار إلى 3000 جنيهاً للدولار الواحد. ووفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي التي نشرت مؤخراً، يُتوقع أن يصل معدل التضخم في السودان إلى حوالي 119%، مما يجعله الأعلى بين الدول العربية.
تضخم الجنيه السوداني مقابل الدولار المصدر: بي بي سي نيوز
أمدر أمان
تتميز مدينة أمدرمان الواقعة غرب العاصمة السودانية الخرطوم بالطابع الحِرَفي التقليدي والصناعات الوطنية البسيطة ومشهورة بأسواقها الشعبية مثل سوق أمدرمان الكبير وسوق ليبيا الواقع غرب المدينة بالإضافة للسوق الشعبي. ويعتمد اقتصاد المدينة بشكل كبير على القطاع غير الرسمي الذي يشمل الحرف اليدوية والتجارة البسيطة، وهي مجالات تبرز فيها مشاركة النساء. سوق أمدمان الكبير كان يحتوي على قسم يسمى بسوق النساء وهو شارع عريض يتكون بشكل أساسي من نساء يبعن منتجات مصنوعة يدوياً مثل القفف السلال المصنوعة من السعف (السعف هو اوراق النخيل)، والاطباق (الطبق السوداني المصنوع من السعف أيضاً) بالاضافة إلى المفاريك (جمع مفراكة). والمنتجات الغذائية مثل الدكوة (زبدة الفول السوداني) والويكة (البامية المجففة والمطحونة) علاوة علي العطور والبخور السوداني.
القفة السودانية المصنوعة من السعف. المصدر: سودافاكس
لعب النساء في أمدرمان دوراً اقتصادياً مهماً خاصةً في فترة الحرب، حيث يقع على عاتقهن إعالة أسرهن من خلال أعمال بسيطة تقع تحت مظلة الاقتصاد غير الرسمي. يعود هذا الدور المتزايد للنساء في أوقات الحروب إلى عدة عوامل اجتماعية واقتصادية؛ فمن جهة، يُجبر العديد من الرجال على ترك منازلهم إما للانضمام إلى صفوف القتال أو فقدانهم للعمل نتيجة توقف الأنشطة الاقتصادية المنظمة. هذا الانقطاع يعيد توزيع الأدوار داخل الأسرة، مما يضع العبء الرعائي والاقتصادي بشكل أكبر على النساء.
ومن جهة أخرى، تتميز النساء بقدرة كبيرة على التكيف والمرونة في مواجهة الأزمات، حيث يستثمرن مهاراتهن التقليدية والحرفية مثل الطهي، الخياطة،الحرف اليدوية، أو تقديم خدمات مجتمعية بسيطة كمصادر للدخل. كما أن اعتماد الاقتصاد غير الرسمي الذي لا يحتاج إلى رأس مال كبير ولا يخضع لقوانين صارمة يتيح للنساء فرصاً أكبر للعمل مقارنةً بالقطاع الرسمي الذي قد يكون شبه متوقف أثناء الحرب. هذه الديناميكية تبرز النساء كعماد أساسي لاستقرار الأسر في ظل الظروف القاسية، مما يعكس قوة المرأة السودانية وصمودها في مواجهة الأزمات.
لماذا يشارك النساء بنسبة أقل في الاقتصاد الرسمي؟
تُعَدُّ مشاركة المرأة السودانية في الاقتصاد الرسمي محدودة، نتيجة لتداخل عوامل تعليمية، ثقافية، واجتماعية. فيما يلي أبرز هذه العوامل:
محدودية الوصول إلى التعليم: على الرغم من الجهود المبذولة، لا تزال هناك فجوة في معدلات التعليم بين الذكور والإناث، مما يؤثر سلباً على فرص النساء في الحصول على وظائف رسمية. كما يُعتبر تدنّي مستوى التعليم سبباً مباشراً في ضعف مشاركة المرأة وإنتاجيتها في النشاط الاقتصادي.
المعتقدات والتقاليد الثقافية: تُعزِّز بعض المعتقدات الثقافية السودانية الدور التقليدي للمرأة كربات منزل، مما يحد من فرصهن في الانخراط في سوق العمل الرسمي. بالإضافة إلى أن النساء يواجهن تحديات اجتماعية تتعلق بالمفاهيم التقليدية التي تقلل من قيمة عمل المرأة خارج المنزل.
نقص الفرص الاقتصادية: تعتمد نسبة كبيرة من النساء على الاقتصاد غير الرسمي، مثل الأعمال الحرفية والتجارة البسيطة، نظراً لعدم توفر فرص عمل رسمية ملائمة. أيضاً قلة السياسات الحكومية التي تدعم تمكين المرأة اقتصادياً تسهم في استمرار هذا الوضع.
النزاعات والتهميش السياسي: تؤدي النزاعات المستمرة إلى تفاقم معاناة النساء وتهميشهن سياسياً، مما ينعكس سلباً على مشاركتهن الاقتصادية.
قصص بعض نساء أمدرمان العاملات
عوضية عبده _المعروفة بعوضية سمك_ هي إحدى سيدات الأعمال الأمدرمانيات التي ذاع صيتها، فبعد أن كانت بائعة شاي بشارع النيل بامدرمان اتجهت لطهي السمك للصيادين ثم أصبحت تبيع السمك وتحولت لأيقونة ومثال عن المرأة العاملة والناجحة التي دعمت بشدة تمكين النساء السودانيات ووظفت الكثير من النساء في مطعمها، ادراكاً منها لحاجة المرأة للعمل في ظل الظروف الاقتصادية بالبلاد. وبعد اندلاع الحرب فقدت عوضية مطعمها الرئيسي الذي يقع بشارع الموردة بامدرمان، لكن ذلك لم يُثنِ عزيمتها وتمكنت في يونيو 2024 من افتتاح فرع جديد بامدرمان الثورة الحارة 17 التي تعد آمنة نسبياً.
سلفانا ناجي، صاحبة مشروع "أبانوب للمأكولات الجاهزة"، الذي انطلق في عام 2020 خلال جائحة كورونا كوسيلة لدعم زوجها في تأمين نفقات الأسرة، قبل أن يتحول إلى مشروع أساسي يجمع جهودهما معاً. ومع اندلاع الحرب، تعرضت سلفانا لصدمة كبيرة بفقدان منزلها في أمدرمان، حيث احترق كل ما بنته خلال ثلاث سنوات، بما في ذلك مشروعها الذي كان مصدر رزق أسرتها. ورغم المحنة، استطاعت سلفانا إعادة افتتاح مشروعها من منزل أحد أقاربها في الثورة، متحديةً شح المواد اللازمة لإعداد الطعام وارتفاع أسعارها. على الرغم من انقطاع الكهرباء والشبكة لفترات طويلة، تمكنت من التواصل مع الزبائن مسبقًا لتجنب تعطيل العمل.
صورة لمشروع سلفانا ناجي بامدرمان، المصدر: سلفانا ناجي
أمل (اسم مستعار)، امرأة سودانية وأُم لستة أطفال فقدت عملها في إحدى الشركات الخاصة بالخرطوم بسبب الحرب، حيث كانت تعمل سكرتيرة. ومع عدم تلقي زوجها معاشه الشهري منذ بداية الحرب، وجدت أمل نفسها المعيل الوحيد لأسرتها. وفي ظل غياب رأس المال والدعم، قررت أمل أن تبدأ ببيع الثلج لتأمين قوت أسرتها. كانت تبيع الثلج يومياً لعدد من البِقالات، وتكسب منه دولاراً واحداً في اليوم. تقول أمل أن نظرات المارة كانت أقسى من حمل الثلج الذي تبيعه، لكن ذلك لم يوقفها عن العمل، ومع دخول فصل الشتاء، يقل الطلب على الثلج، مما يجعل أسرتها تواجه خطراً حقيقياً في ظل الظروف الصعبة. بعزيمتها وإصرارها، استطاعت أمل جمع مال قليل وافتتحت مشروعاً صغيراً للعطور النسائية السودانية.
الخالة حليمة هي أم لخمسة أطفال تقيم بالثورة أمدرمان، تحملت حليمة عبء إعالة اسرتها بعد وفاة زوجها في 2021 فكانت تبيع الشاي في طرقات المدينة. تحدت حليمة خطورة الخروج لعملها في شارع مكشوف في ظل القصف العشوائي على المدينة، وفي حادث مأساوي، سقطت إحدى المقذوفات في مكان عملها، مما أدى إلى وفاتها هي وابنتها التي كانت تساعدها.
صورة تدلل على التمكين الاقتصادي للنساء، المصدر: براءة محمد
استراتيجيات التمكين الاقتصادي للنساء في فترات النزاع
في ظل الحرب، تحتاج استراتيجيات التمكين الاقتصادي للنساء في أمدرمان إلى الجمع بين التدابير قصيرة الأجل لتلبية الاحتياجات العاجلة والتدابير طويلة الأجل لتعزيز الاستدامة والاعتماد على الذات.
أولاً: استراتيجيات قصيرة الأجل
الدعم النقدي المباشر: تقديم مساعدات مالية طارئة من قبل حكومة الولاية أو الجمعيات الخيرية الداعمة للنساء، لتلبية الاحتياجات الأساسية لهن وأسرهن.
توفير فرص عمل مؤقتة: خلق فرص عمل قصيرة الأجل، مثل العمل في مشاريع الإغاثة أو ورش العمل المحلية.
التدريب المهني السريع: تنظيم دورات قصيرة في مهارات مثل الخياطة، الحياكة، أو الطهي لمساعدة النساء على توليد دخل فوري.
توزيع المعدات الصغيرة: توفير معدات بسيطة مثل ماكينات خياطة أو أدوات حرفية لدعم الأعمال الصغيرة التي تقوم النساء بها.
شبكات التضامن المجتمعي: إنشاء صناديق تعاونية صغيرة في الأحياء، تتيح للنساء الاقتراض أو توفير رأس مال أولي للأعمال.
ثانياً: استراتيجيات طويلة الأجل
التعليم والتدريب المستدام: تقديم برامج تعليمية ومهارات مهنية تركز على الحرف اليدوية، الإدارة المالية، وتقنيات ريادة الأعمال، بالإضافة لتعزيز الدور التعليمي للنساء والعمل على محو المعتقدات السودانية التي تدعم دور المرأة كربة منزل فقط.
تعزيز المشاريع الصغيرة والمتوسطة: تقديم الدعم الفني والمالي من قبل المنظمات الأممية والمحلية للنساء لتأسيس مشاريع مستدامة في مجالات مثل الزراعة، الصناعات اليدوية، أو التجارة.
الوصول إلى التمويل: إنشاء برامج تمويل صغيرة من قبل البنوك بفوائد ميسرة 12% - 10%، أو تقديم قروض دون فوائد لتشجيع الاستثمار النسائي.
إدماج النساء في سوق العمل الرسمي: وضع سياسات حكومية تُلزم المؤسسات والشركات بتوظيف النساء وتعزيز حقوقهن في مكان العمل.
بناء القدرات: الاستثمار في برامج تدريبية لتعزيز مهارات القيادة، التخطيط، والإدارة لدى النساء.
تعزيز البيئة القانونية: إصلاح السياسات والقوانين لضمان حماية حقوق النساء الاقتصادية وتعزيز مشاركتهن في التنمية.
أمثلة لتمكين النساء اقتصادياً في دول عانت من حروب طويلة
في المنطقة الصومالية بإثيوبيا، تمكنت النساء من بناء أعمال تجارية وزيادة قدرتهن على الصمود في وجه تغير المناخ. بدعم من برنامج الأغذية العالمي، تم تمكين النساء اللاجئات والمحليات من تحدي الأدوار المرتبطة بالنوع الاجتماعي في مجتمعات الرعاة المحافظة، مما أدى إلى تحسين سبل العيش وتعزيز الاستقلالية الاقتصادية.
في حضرموت اليمنية، تم تدريب مجموعات نسائية على استخدام وصيانة معدات الألبان، وتعزيز قدراتهن في مجال التصنيع والتسويق، مما أدى إلى زيادة الدخل وتحسين سبل العيش. هذا التمكين ساعد النساء على مواجهة التحديات الاقتصادية الناجمة عن النزاع.
واجهت النساء السوريات تحديات كبيرة في الاقتصاد خلال النزاع. محاولات منظمات المجتمع المدني للتصدي لاستبعاد النساء من الاقتصاد الرسمي من خلال مشاريع التمكين الاقتصادي كانت لها تأثيرات متفاوتة، مما يبرز أهمية تبني نهج نسوي نقدي لضمان فعالية هذه البرامج.
في ليبيا تسعى الشبكات العربية للتمكين الاقتصادي للمرأة، مثل شبكة "خديجة"، إلى تعزيز تكافؤ الفرص والنتائج بين النساء والرجال في المجال الاقتصادي في المنطقة، بما، من خلال توفير بيئة عمل أكثر شمولاً ودعم السياسات المواتية.
مشاريع لدعم النساء بامدرمان
توجد القليل من المبادرات والمجهودات المحلية والدولية لدعم و تمكين المرأة اقتصادياً في أمدرمان، مثل الدورات التدريبية عن كيفية تزيين الثياب السودانية التي تقيمها إحدى السيدات بالثورة الحارة 72 وورشة آلاء أحمد لصناعة الحلويات والمعجنات، بالإضافة لدورة تدريبة عن أساسيات التمريض تقيمها جمعية الهلال الأحمر السوداني بالثورة الحارة 30.
صورة لورشة تصميم الثياب بالحارة 72، المصدر: أم أمنية
خاتمة
يتضح أن التمكين الاقتصادي للنساء في أمدرمان يتطلب مقاربة متكاملة تجمع بين التدخلات العاجلة والاستراتيجيات طويلة الأمد. فمع استمرار النزاع، يظل تعزيز دور النساء في الاقتصاد ليس مجرد ضرورة لدعمهن فحسب، بل أيضاً كركيزة أساسية لاستقرار المجتمع بأسره.
يمكن للجهات الحكومية مثل وزارة التنمية الاجتماعية والحكومات المحلية أن تساهم في توفير الدعم المالي الطارئ وتنظيم ورش تدريبية لدعم النساء في المجالات الحرفية والمهنية. بينما تلعب المنظمات المحلية مثل جمعية الهلال الأحمر السوداني والجمعيات النسائية دوراً مهماً في تقديم الدعم الاجتماعي وتقديم تدريب للنساء. المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة للمرأة وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمة العمل الدولية يمكن أن تساهم في توفير التمويل وإنشاء برامج مستدامة لدعم إدماج النساء في سوق العمل الرسمي.
تُعدُّ الحاجة إلى توفير وظائف آمنة للنساء في مناطق النزاع أمراً بالغ الأهمية لضمان سلامتهن الجسدية ودعم استقرارهن الاقتصادي والاجتماعي. في ظل الحروب، تصبح النساء أكثر عرضة لتحمل أعباء إعالة الأسر والعمل في بيئات خطرة، كما أن غياب الأمان يحرمهن من فرص حقيقية لتحسين أوضاعهن الاقتصادية. لذلك، ينبغي على الجهات المعنية، المحلية والدولية، تعزيز مبادرات لدعم مشاريع تُتيح للنساء العمل في ظروف آمنة تُراعي التحديات التي يفرضها النزاع، مما يسهم في تمكينهن اقتصادياً وتعزيز دورهن في بناء مجتمعات أكثر استقراراً.