هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

بدأت حكايتي مع الثقافة الكورية في عام 2013، حين شعرت أنني فقدت شغفي بالأفلام والمسلسلات الأمريكية. بدا لي أن معظمها أصبح يحمل رسائل تتعارض مع ثقافتنا ومعتقداتنا. ثم جاء الاكتشاف الجميل.


كانت صديقتي تشاهد مسلسلاً كورياً مترجماً على قناة MBC4، والتي بدأت بعرض هذا النوع من المحتوى منذ عام 2011. دخلت إلى هذا العالم الجديد وأنا لا أعلم أنني لن أخرج منه. منذ ذلك الوقت، أصبحت الدراما والموسيقى والثقافة الكورية مصدر متعتي الحقيقي. لم تكن مجرد هواية، بل أصبحت جزءاً من أسلوب حياتي، وجسرت لي طريقاً إلى صداقات لم أكن أتخيلها. حيث تعرفت على العديد من الصديقات وكوّنا مجموعات على "الواتساب"، كنا نتبادل فيها الحديث عن فرقنا المفضلة، وعن المشاهد التي أثّرت فينا، وشاركنا الشغف الذي لم يكن مفهوماً لكثيرين من حولنا.


أعلام السودان و كوريا الجنوبية. المصدر: Shutterstock


تعرضت أحياناً للتنمر والسخرية، سواء من الأهل أو الأصدقاء أو حتى الزملاء في العمل. كنت أسمع تعليقات، بل وكان البعض يناديني ساخراً بـ"ولاء شينق شونق" وأوشين. لكني لم أكن أكترث، كنت أفعل ما أحب، وما يمنحني سعادةً لا يستطيعون فهمها. من الغريب أن الناس غالباً ما يهاجمون ما لا يعرفونه، ويسخرون من المختلف بدل أن يحاولوا فهمه.

 

في تلك الفترة 2015، أنشأت السفارة الكورية في السودان الركن الكوري، في الطابق الأرضي لمركز تقانة المعلومات واللغات بجامعة الزعيم الأزهري، للتعريف بالثقافة الكورية وتدريسها، وقد تم بناء مركز تقانة المعلومات واللغات في العام 2007 بمنحة من الوكالة الكورية للتعاون الدولي (KOICA)، وهي وكالة المساعدات التنموية لجمهورية كوريا. كان مساحة مميزة لكل من يهتم بتعلم اللغة الكورية واكتشاف ثقافتها. احتوى المركز على مكتبة تضم كتباً لتعلّم اللغة، ألبومات لفرق الكيبوب، مجلات، ومواد عن السياحة والحياة في كوريا. كنت أشعر أنني في بيتي هناك. 


الكورنر الكوري. مصدر الصورة: صفحة جامعة الزعيم الازهري


حيث ذكر السفير الكوري آنذاك السيد بارك وون سوب في مقال: أن الموجة الكورية أو "التدفق الكوري" أو ما يعرف أيضاً ب"الهاليو" قد اجتاحت العالم، حاملة ثقافة كوريا الجنوبية إلى جميع أنحاء العالم، مشيراً الى أن الموسيقى الشعبية الكورية (الكيبوب) والمسلسلات (الكيدراما) هي المفضلة للملايين من الناس، الذين يتابعون بانتظام المجموعات والموسيقيين والنجوم والأفلام و البرامج التلفزيونية." بالنسبة للأفراد والأسر، فان الهاليو تقدم نافذة للثقافة والمجتمع واللغة الكورية التي يمكن أن تكون بمثابة رحلة تعليمية إلى كوريا. تستخدم كوريا الجنوبية الموجة الكورية للترويج عن ثقافتها التقليدية داخل كوريا وخارجها. 


الصورة من صفحة جامعة الزعيم الازهري باعتبار الركن الكوري جزء من منشآتها - لكني استطيع تمييز هذه الوجوه.


حضرنا عدة فعاليات بتنظيم السفارة الكورية. أذكر منها احتفالاً بالعلاقات السودانية الكورية، شارك فيه العديد من الشخصيات الدبلوماسية، وفعالية أخرى كانت دعوة عشاء في منزل السفير نفسه، خُصّصت للزوار المواظبين على ارتياد الكورنر الكوري. تحدثنا مع السفير الكوري وقتها، وكان مهتماً بسماع آرائنا حول الثقافة الكورية وتفضيلات الشباب السوداني. كان اللقاء ممتعاً ودافئاً، والطعام الكوري كان أبرز ما ميّز الأمسية، ومنذ ذلك اليوم، أصبح الطعام الكوري من أحب الأذواق إلى قلبي.


الطبق الذي ملأته تلك الليلة بما لذ وطاب.


الهدية التي اعاطانا اياها السفير ذك اليوم.


فتح لي هذا العالم أبواباً جديدة من الفهم والتواصل والانفتاح على الآخر. تعرّفت إلى أشخاص يملكون أفكارًا مختلفة، فتوسعت آفاقي وتعلمت الكثير. وأكثر ما أعتز به أنني أصبحت لا أضع حدودًا لطموحي، وتعلمت ألّا ألتفت لانتقادات من لا يفهمون شغفي.


كنت ضمن الفريق المنظم لاحتفال رحلة قافلة الصداقة الكورية العربية للعام 2016 في السودان والذي أقيم في قاعة الصداقة.

 

وفي عام 2016، قمت بخطوة وُصفت بالمجنونة في محيطي. قررت أن أعمل بجد وأوفر المال لأحضر مهرجان KCON في أبوظبي، وهو مهرجان عالمي يحتفي بالثقافة الكورية انطلق في 2012، ويُقام في عدة مدن حول العالم. لم يكن الأمر سهلاً على فتاة سودانية تحيط بها نظرات الاستغراب، وتساؤلات الناس عن جدوى هذا "الهوس الغريب". لكن داخلي كان ممتلئاً برغبة لا توصف في رؤية ما كنت أتابعه خلف الشاشة حياً أمامي، وسماع اللغة التي أحبها وهي تُتحدث من حولي، والاندماج في جو ثقافي يشبهني رغم بعده عني جغرافياً. عملت لساعات طويلة، حتى في أوقات إضافية، وجمعت المبلغ وسافرت.


رحلتي من الخرطوم لدبي ومنها الى ابوظبي بالباص.

 

كانت تلك الرحلة بمثابة ولادة جديدة. مشيت وحدي في مدينة غريبة، دخلت المهرجان بقلب يخفق، وغمرتني المشاعر حين رأيت كيف يمكن للشغف أن يصنع عالماً متكاملاً. التقيت بأشخاص من ثقافات مختلفة، لكننا نتحدث اللغة ذاتها: لغة الانبهار والحب لكل ما هو كوري. غيّرت تلك التجربة فيّ الكثير، وأعادت تشكيل شخصيتي من فتاة مترددة إلى إنسانة واثقة، تعرف ما تريد وتسعى إليه بلا خوف. كانت لحظة أدركت فيها أن الحلم، حين يُلاحَق بشغف حقيقي، لا يبقى مجرد حلم، بل يتحول إلى نقطة تحوّل.


 الحماس يغمرني خارج دو أرينا مع تذكرتي التي عملت بجد للحصول عليها.


وفي عام 2021، بعد انقضاء جائحة كورونا، فكّرتُ مع إخوتي في إطلاق مشروع خاص بنا، فاقترحتُ عليهم فكرة إنشاء مقهى مخصص لمحبي الثقافة الكورية واليابانية. كانت الفكرة غريبة وغير مألوفة، خاصةً لعدم وجود هذا النوع من المقاهي في الخرطوم آنذاك. ومع ذلك، شرعنا في تنفيذها بحماس.


وقد اخترتُ له اسم مايكروكوزمس كافيه ، وهي كلمة تعني الكون الصغير. أردتُ من هذا الاسم أن يُجسّد فكرتنا بالكامل: نحن هنا، في ركننا المتواضع من الخرطوم، نعيش عالماَ صغيراً، لكنه يشبه كوناً كاملاً بالنسبة لنا. وللاسم أيضاً مكانة خاصة في قلبي، فهو عنوان أغنيتي المفضلة لفرقتي المفضلة BTS، الأغنية التي لطالما شعرتُ أنها تحتضن عالمي الداخلي، وتمنحني القوة كلما تعثرت.


اللوقو الخاص بالمقهى.


كان هذا المشروع من أكثر الإنجازات التي أفتخر بها في حياتي. عملنا بجهد كبير، أنا وإخوتي، حيث كان التمويل منهم، بينما كانت الأفكار والرؤية من جهتي. وبوصفي شخصاً شغوفاً بهذا النوع غير التقليدي من الثقافات، كنت أعرف تماماً ما يبحث عنه رواد هذا المكان المستقبليون. صممنا كل شيء بناءً على ذوق محبّي الكيبوب والأنمي: من الديكور والموسيقى إلى قائمة الأكل والمشروبات والأجواء العامة.


وجبة النودلز الكورية التي سرعان ما أصبحت الخيار الأول لروّاد المقهى.

 

وحتى تكون التجربة متكاملة، أضفنا قائمة طعام تحتوي على مجموعة من الأطباق الكورية الشهيرة. كما خصّصنا زاوية صغيرة عبارة عن متجر لبيع منتجات متعلقة بالثقافة الكورية واليابانية، من بضائع تحمل صور الفرق الكورية، إلى مستلزمات الأنمي والإكسسوارات التي يحبها هذا النوع من الجمهور.


وكنا نقيم بازارات لأصحاب الأعمال الصغيرة الذين يبيعون بضاعة كورية ولديهم صفحات إلكترونية. وكان لدينا حائط مُزيَّن برسومات الزوار الذين يأتون إلى المقهى، مما أضفى طابعاً شخصياً وتفاعلياً على المكان. لقد كان المقهى مساحة ثقافية مصغّرة تعبّر عن شغف كامل بأسلوب حياة.


صورة من بازار اقيم في المقهى لاصحاب المتاجر اونلاين.

 

وعندما افتتحنا المقهى، امتلأ المكان بالحياة والحماس. كان محبو الثقافة الكورية في قمة فرحتهم، فقد وجدوا أخيراً مساحة يجتمعون فيها، ويتحدثون بلغتهم الخاصة، ويتقاسمون شغفهم مع من يفهمهم ويشبههم.


الحائط الخاص برسومات رواد المقهى.


استمر المقهى عاماً كاملاً، إلى أن بدأت الأوضاع السياسية في السودان تتقلب من جديد، وواجهنا ارتفاعاً متسارعاً في أسعار الدولار وتأثيرات اقتصادية قاسية. حاولنا الصمود، لكننا اضطررنا لإغلاق المقهى مؤقتاً حتى تستقر الأوضاع. إلا أن ما كنا ننتظره من تحسّن لم يأتِ، بل جاءت فاجعة الحرب في 15 أبريل 2023، وانقلب كل شيء رأساً على عقب.

 

في الختام، معرفتي بالثقافة الكورية لم تكن مجرد هواية مؤقتة، بل كانت رحلة شكّلتني من الداخل، ووسّعت رؤيتي للعالم، وأثبتت لي أن الشغف قادر على أن يكون دافعاً حقيقياً للنمو وبوابة لعالم جديد ساعدني على اكتشاف ذاتي، والتصالح مع اختلافي، وتحويل شغفي إلى مشروع واقعي شاركني فيه إخوتي، وكوّنا به مجتمعاً صغيراً مليئاً بالحياة.


ورغم أن المقهى لم يستمر، ورغم أن الحرب مزّقت ما بنيناه، فإن الذكرى ما زالت حاضرة، والتجربة لا تُنسى. لقد علّمتني هذه الرحلة أن الشغف الحقيقي لا يضيع، حتى وإن تعثّر، وأن ما نحبه بصدق يمكن أن يصبح وسيلتنا للنجاة، للتماسك، بل وللإبداع أيضاً، حتى في أصعب الظروف. في النهاية، لم أعد أرى الثقافة الكورية مجرّد مسلسلات وأغانٍ، بل أراها مرآة لما يمكن أن يصنعه الشغف حين يُمنح مساحة. وربما، حين تهدأ العواصف، أبدأ من جديد.


ولاء عبدالعاطي محمد نور

ولاء عبد العاطي، مترجمة ماهرة، ومحرر أول، ,وصانعة محتوى، ولديها التزام قوي بربط الثقافات من خلال اللغة والإعلام. تشتهر ولاء بتفانيها في الدقة والإبداع، حيث تعمل على إضفاء الحيوية على القصص والأفكار، مما يجعل المحتوى متاحاً لجمهور متنوع. ساهمت في العديد من المشاريع التحريرية، حيث أظهرت موهبتها في إنشاء المحتوى وخبرتها اللغوية.