بقينا، ربما حتى نتمكن من إثبات وجود السودان فلا يمكن لأي حرب أن تمحوه من الوجود. ربما لأن جذورنا متشابكة بعمق هنا، واقتلاعها سيكون معناه موتنا. ربما لأن هذا كله كابوس. كابوس طويل لانستطيع الإستيقاظ منه.
ربما لأننا نؤمن بالأمل. ربما لأننا نؤمن بالغد. ربما لأننا لا نستطيع التخلي عنها (السودان). نتركها وحيدة في بؤسها. ربما لأننا أردنا أن نحزن عليها. نصرخ بأصواتنا للعالم. نزف طريقنا إلى الحرية وحلمنا بالديمقراطية.
ربما لاستقبالهم بالسلام الدافئ الملئ بالقافية والموسيقى. الله يسلمكم الله يعافيكم. ربما حتى يتمكنوا من إخبارنا عن مغامراتهم وعن مدى غفلتنا عن ثقافتنا. وكيف أننا أجانب في بلدنا.
ربما حتى يتمكنوا من إخبارنا عن أهرامات مروي الملكية حيث كانت مملكة كوش العظيمة ذات يوم. وأن نسب ملكي يجري في دمائنا. لكننا أنكرنا ذلك النسب، أنكرنا تلك الهوية وتخلينا عنها، لغينا شرعية الهوية الأفريقية. ربما ليحدثونا عن معابد النقعة والكشك الروماني أحد أعمدة الحضارة، الذي يقف بمجد رافضاً أن يغطيه التراب ليدفن في غياهب النسيان.
جبال التاكا ترتفع خلف كسلا. المصدر: هشام كاروري
ربما يمكنهم أن يخبرونا عن جبال التاكا المتعرجة في كسلا. ربما ليخبرونا عن أشجار النخيل والكثبان الرملية في الشمالية. ربما ليخبرونا عن جذوع شجرة القونقوليز الضخمة وجبل مرة الملكي العظيم الذي يتوج أرض دارفور. ربما حتى يتمكنوا من إخبارنا عن أركويت ونسيم البحر المشبع بالملح والمياه الزرقاء الهادئة في بورتسودان. ربما حتى نسمع عن خرافات وأساطير جزيرة سواكن المهجورة. نحن أجانب في بلادنا. رُحَل في بلادنا. رحلنا مرة من الريف إلى العاصمة. والآن انعكست الهجرة من العاصمة إلى الريف.
السماء ليلاً أكثر قتامة وأكثر غموضاً من أي وقت مضى. ما هي الأسرار التي تخفيها عنا هذه النجوم؟ أي عذاب وحزن يكمن في نجومنا المشؤومة؟
- غداً ستنتهي الحرب. غداً سيوقعون معاهدة السلام. كل آمالنا مرتبطة بشدة بقوتنا وأيماننا بالغد.
- غداً سنجتمع تامين ولامين. غدًا سنستيقظ على صوت الزغاريد، وليس على دوي البنادق أو الإنفجارات. غدًا سنتناول شاي الصباح مع الزلابية المنتفخة والمرشوشة بمسحوق السكر. غدًا سيتم عجن الحناء لصبغ أيدي وأرجل الخالات بتدرج لونها الذي تتركه على أجسادهن لتلمع بألوان كالعسل والقرفة ثم أحمر مثل الكركدي، وعند إعادة تطبيقها تعطيهن سواداً كليلة من ليالي السودان والجنة على أخماص أقدامهن.
عروس سودانية مزينة بالحناء التقليدية. تصوير ياسر حمدي. المصدر
http://500wordsmag.com
غدًا سيطوقن أجسادهن بالتوب الموشح بأشعة الشمس وأزهار الحديقة. الأعمام سيتوجون رؤوسهم بالعمة. وغدًا سوف يعطر خشب الصندل الهواء، فيفرق سحابة الدخان السوداء الكثيفة الخانقة. غدًا سنبسط سجاداتنا الخضراء الكبيرة المصنوعة من القش في الشوارع ونتناول الغداء. وأطباق الخزف الأبيض المجوفة تحتوي على يخنة اللحم الحمراء والعصيدة الشاهقة تتوسط المُلاح. وتُثنى شرائح الكسرة الرقيقة والشفافة لتقطيعها وغمسها في اليخنة اللذيذة. سنتناول مشروبات الحلو مر والكركدي لإرواء عطشنا. أكمام الجلابيات ملفوفة حتى كوع اليد لكي لايلطخ الطعام تلك الأكمام العريضة.
غدًا سنشرب الجبنة في الخارج. غدًا سنشرب الشاي المُقنن، عندها سنشتم رائحة الكراميل الجوزية التي تنبعث من الحليب الناعم المخملي. سنغمس بسكويت رويال والمنين في جمادة الحليب المقنن. وغدًا سيجلس الأجداد من كبار السن بملابسهم الكتانية "العرَاقي" متربعين تحت ظل شجرة النيم يراقبون المارة.
جبنة بجانب النيل، نشاط ترفيهي شائع للعائلات والأشخاص من جميع مناحي الحياة. المصدر
https://acertainblindness.com.au/
يأتي الغد ليوقظنا خائفين مرعوبين. يأتي الغد وأحبابنا البعيدين قلقون علينا للغاية، بسبب انقطاع الشبكات. يأتي الغد وأحبابنا القريبين يتضورون جوعاً. يأتي الغد وقد نفذ الأنسولين من الصيدليات. يأتي الغد ويظللنا ظلام دامس ونحن مشلولون من الخوف، ننطق الشهادة كل برهة تحت أنفاسنا. يأتي الغد ونفاجأ بأننا مازلنا أحياء، فقد أصبح الغد الذي طال انتظاره هو اليوم. ويأتي الغد ونقول إن الحرب ستنتهي وسيوقعون معاهدة سلام. يأتي الغد والذي يليه والذي يليه لقد سأمنا من إنتظار الغد.
لقيمات إلى جانب شاي بالحليب المقنن. المصدر: يوتيوب
مستلقية على السرير وعيوني مثبتة على السقف على أزيز المروحة. تدور وتدور ويبدو أن حياتنا تدور حول بصيص من الأمل. عقلي يعود إلى الثورة. الحماس والطاقة والأمل لبلد كامل. كان حلماً. حلم جميل ولطيف لكنه تحطم الآن. اُطلق عليه النار الآن، ينزف الآن، ومات الآن. نحن الجيل الذي قررنا البقاء لتحريرها خائضين معركة سلاحها الكلمات. كلمات ضد السلاح. كلمات ضد السلاح. كانت جرائمنا هي أحلامنا. واختنقت أحلامنا تحت الدخان الأسود الكثيف، انفجرت وتحطمت. لقد دُفنت أحلامنا حية.
رن الهاتف ومعه تسارعت دقات القلب. طوفان من الأفكار السلبية يغرقنا في الخوف. حُبست الأنفاس. أسئلة مكبوتة تنتظر الإجابة عليها.
- إن شاء الله. إن شاء الله. أستطيع سماع أمي تكرر. توسعت العيون، وارتعشت الأيدي. تمشي مثقلةً ذهابًا وإيابًا. هناك مأساة تنتظرنا.
هل كان جيراننا نائمين؟ أم كانوا مستيقظين؟ هل كانوا يتحدثون أم كانوا يضحكون؟
صورة تظهر تدمير الخرطوم بعد أيام من الصراع. المصدر: وكالة فرانس برس
يصدمون الأبواب، مقعقعةً بنادقهم. السلام والعزلة في الليل مزعجة فهي توقظ خوفنا. مرعوبين، أيدينا على قلوبنا لتحتضنه وتسنده. الدعاء والصلاة هم دروعنا.
أغلقت العيون وانجرف العقل إلى الأفكار المخيفة. مشهد من التشويق والرعب. تنبض القلوب بإيقاع الخوف والرعب. نردد الشهادة ونقرأ آيات من القرآن الكريم .أصبحت الأيدي باردة. اللقاء. فالاستجواب. انتهى الإستجواب. ذهبوا. هل سيعودون؟ وفر على نفسك القلق لوقت لاحق. تنهدات الراحة. حمداً وشكراً لله.
- لايمكننا البقاء هنا بعد الآن. علينا أن نغادر. لا يمكننا أن نعيش في خوف. سوف يأتون مرة أخرى.
عندما خرجنا إلى الشارع، أحسست بطعنة الخيانة في أعماق قلبي وأصابتني بألم ينبض عندما نظرت إلى قبح الشوارع المهجورة. لكنني كنت أسمع صخبها وضجيجها الذي كان في يوم من الأيام مفعمًا بالحيوية، والآن تسكته الأسلحة، والآن في عزلة تسكت عويلها الذي يطارد روحها.
- بائعة الكسرة كانت تجلس هنا. كان ظهرها منحنيًا فوق طاولة مستطيلة صغيرة تبيع بذور التسالي المملح والفول السوداني المقشر. أشجار النيم تحرس وتتوج شوارع السودان. الأولاد الصغار يحملون البيستلة لجلب الحليب المقنن. بائعة الشاي تحمص حبوب البن برائحته المغرية والمسببة للإدمان. رجال يحتسون الشاي بالنعناع مسترخين وهادئين ويجلسون مخلوفي الأرجل. رجل يدحرج درداقته التي تحتوي على بضاعة مرتبة ومرصوصة بشكل مغري من الفول السوداني المحمص بالمملح و وكل أنواع حلوى المولد من الفولية والعدسية والسمسمية. بائعة الأيسكريم التقليدي تجلس في الزاوية مع حافظة التبريد الخاصة بها. أيسكريم الكركدي والحلو مر والقونقوليز البارد والمنعش، علاج لذيذ لحرارة الصيف الجهنمية.
المصاصات التقليدية محلية الصنع. المصدر: تويتر/الثقافة السودانية
سائقو المواصلات العامة يصرخون بأعلى حناجرهم عربي .. بحري. وسرعان ما يمتلئ الباص بالرجال الواقفين عند عتبات الباب، مائلين. ويتحرك تاركاً خلفه خيط من الدخان الأسود الكثيف.
أطفال يتجولون في زيهم المدرسي وهم يلعقون الايسكريم، ويتناولون وجبات خفيفة من الفول السوداني المحمص ويقطفون الليمون.
ذهب كل شئ الآن. ذهب الجميع. لا بائعة كسرة ولا بائعة شاي. لا يوجد رجل الدرداقة ولا الأطفال. لا الجد الكبير في السن. لا عربات الكارو ولا بائعيين متجوليين يصرخون سمك الموردة أو عجور وطاطم. لا يوجد أطفال يحملون البستلة.
الخرطوم، خرطومنا الحبيبة أصبحت مدينة أشباح.
سوف نعود. سف نعود.
انتظرينا يا حبيبتنا. انتظرينا يا ماما
حيينا عندما نعود بتوبك المعطر بخشب الصندل.
حيينا بسلامك الموسيقي.
احتضنينا بأيديك المخضبة بالحناء.
سنعود جميعا ... سنعود بكرة تامين ولامين يا ماما.