قبل عام، بعد اندلاع الحرب في السودان وما صاحبها من انعدام الأمان انتقلت إلى المملكة العربية السعودية. جئت إلى بلد جديد، بعيد عن وطني الذي نشأت فيه، لكن لم أشعر بالغربة أبدًا. سكنت في حي غبيرا بالعاصمة الرياض، وهو أحد الأحياء الواقعة في شرق الرياض. يمتاز هذا الحي بكبر حجم الجالية السودانية، حيث يتركز فيه معظم السودانيين المقيمين في الرياض. وعندما أسير في شوارع الحي، أشعر أنني وسط أهلي، فأغلب من ألتقي بهم هم من السودانيين.
أحد الشوارع القديمة بحي غبيرا. المصدر: صفحة "ذكريات حي غبيرا" على X
يوجد في شارع غبيرا العام سوق يعد من أكبر تجمعات السودانيين ومنتجاتهم، ويحتوي على كل ما يشتهر به السودان. في هذا السوق، يمكنك العثور على العديد من المنتجات السودانية المميزة مثل الويكة (البامية المجففة والمطحونة)، الدكوة (زبدة الفول السوداني المحلية)، وزيت السمسم، وحتى المفراكة (أداة ذات يد طويلة ونهاية مدببة على شكل قارب صغير تستخم لمزج الطعام) التي تستخدم لصنع الملاح السوداني وأيضاً المقشاشة (مكنسة) التي تستخم لنظافة البيوت.
المفراكة والمقشاشة في المحلات التي تبيع المنتجات السودانية. تصوير: ولاء عبدالعاطي
الدكوة وزيت السمسم تصوير: ولاء عبد العاطي
تباع الكسرة في بعض المحلات، وأحياناً يمكنك العثور على بعض النساء يبعنها على جانبي الطريق. إلى جانب العديد من المنتجات السودانية المحلية الأخرى، مثل البهارات ذات الألوان الزاهية كالكزبرة والشمار (الكمون) والشطة السودانية، بالإضافة إلى منتجات مثل القونقليز (التبلدي)، الكركديه، الدوم، والعدسية والفاصوليا والقرض وغيرها. كما يوفر التجار السودانيين المنتجات المصنعة السودانية مثل بسكويت الشاي المصنع وشاي الغزالتين ـلأننا مقتنعون أنه لا يوجد لهما مثيل، مهما ابتعدنا وأينما ذهبنا.
بيع الكسرة من قبل السيدات وبعض المحلات التجارية تصوير: ولاء عبد العاطي
الألوان الزاهية للتوابل المحلية. تصوير: ولاء عبد العاطي
منتجات سودانية الصنع. تصوير: ولاء عبد العاطي
القونقليز والكركديه والدوم. تصوير: ولاء عبد العاطي
بالإضافة إلى ذلك، يتميز السوق بوجود محلات لبيع أدوات صنع البخور والدخان السوداني، التي تشمل أنواعاً مختلفة من الاخشاب مثل الطلح والشاف، سواء بالحجم الكبير أو الصغير المستخدم في صناعة البخور والمباخر. كما تتوفر أيضاً العطور السودانية المحلية والباريسية المتنوعة. فضلاً عن توفر كل ما يتعلق بصناعة البخور من أواني لتصنيعه وتعبئته. علاوة على بعض المحلات التي توفره جاهزاً للاستخدام.
الطلح والشاف والعطور التي يصنع بها البخور السوداني. تصوير: ولاء عبد العاطي
أشكال مختلفة من المباخر محلية الصنع والبخور الجاهز للاستخدام. تصوير: ولاء عبد العاطي
(الرحالة) القديمة والحديثة التي تستخدم للدخان، تصوير: ولاء عبد العاطي
يحتوي السوق كذلك على أكبر موردي الجلاليب (الزي التقليدي للرجال في معظم مناطق السودان) بكل أشكالها القديمة والحديثة (العلى الله بألوانها الزاهية)، إلى جانب الملابس السودانية التقليدية والمركوب (حذاء تقليدي مصنوع من جلد النمر، أو الثعبان) بأشكاله. حيث يتوافد إلينا العديد من أقاربنا وأصدقائنا من مختلف مناطق الرياض والمملكة لزيارة سوق غبيرا والتسوق فيه.
الجلابية سودانية والعلى الله وملحقاتها. تصوير: ولاء عبد العاطي
المركوب والأحذية الجلدية المخصصة للجلابية. تصوير: ولاء عبد العاطي
الطاقية التي تلبس تحت العمة وجلابية العريس والصديري. تصوير: ولاء عبد العاطي
كذلك يتوفر في هذا السوق أفضل وأجمل أنواع الثياب السودانية (الزي التقليدي للنساء السودانيات في وسط، شمال وشرق السودان) بمختلف خاماتها. يُعد هذا السوق وجهة مفضلة لهن في المناسبات لشراء أجمل الثياب ذات التصاميم الرائعة، حيث يجدن كل ما يحتجن إليه من ثياب ذات جودة عالية وأصالة سودانية.
التوب السوداني المزين بألوان مفعمة بالحيوية. تصوير: ولاء عبدالعاطي
سوق غبيرا يحتوي كذلك على العديد من المطاعم السودانية بما في ذلك مطاعم الفول بتتبيلاته الشهية التي يتقنها المتخصصون في إعداد الفتة (والبوش) والخبز البلدي الذي لاتكتمل الفتة بدونه. بالإضافة إلى ذلك، توجد محلات حلويات الباسطة (البقلاوة) الشهيرة بأشكالها وأنواعها المختلفة. العديد من المحلات تتنافس فيما بينها لتقديم أفضل وأشهى أنواع الباسطة للمستهلكين، سواء من السودانيين أو من الجنسيات الأخرى الذين يتوافدون إلى غبيرا لتجربة المأكولات السودانية الأصيلة وتذوق نكهاتها الفريدة.
وعاء صنع الفول مع الخبز السوداني اللذيذ تصوير: ولاء عبد العاطي
الباسطة الشهية. تصوير: ولاء عبد العاطي
إذا مررت بالشارع العام في حي غبيرا، ستشعر وكأنك في وسط العاصمة الخرطوم منطقة السوق العربي (داونتاون خرطوم). حيث نقل الوافدون السودانيون عاداتهم من الجلوس على جوانب الطرقات أمام المحلات التجارية. ستجد أيضًا ستات الشاي هناك، ولكن بطريقة مختلفة قليلاً، حيث يقدمن الشاي والقهوة مع خبيز النشادر السوداني الشهير (بسكويت محلي الصنع). إضافة إلى ذلك، ستجد باعة على الطريق ينادون لجذب انتباه المارة لبيع منتجاتهم المتنوعة، مما يضفي على المكان أجواء من الحيوية والود التي تشبه تلك التي تجدها في الأسواق السودانية التقليدية.
ستات الشاي بطريقة مختلفة قليلاً عن السودان ولكن نفس المفهوم. تصوير: ولاء عبد العاطي
يتميز حي غبيرا بتنوعه السكاني، حيث لا يقطنها الكثير من السعوديين، فالغالبية العظمى من السكان هم من الجنسيات السودانية واليمنية، مع وجود قليل من السوريين والمصريين. في المبنى الذي أسكن فيه، يوجد 8 شقق، جميعها يسكنها سودانيين من مختلف الولايات السودانية. نلتقي دائمًا في المناسبات المختلفة، ونحرص على قضاء وقت ممتع معًا. كل يوم خميس، نذهب جميعًا مع أطفالنا إلى الحديقة العامة، حيث اصبحوا لنا أهلاً وأصدقاء.
سودانيون في شارع غبيرا العام يرتدون الجلابية التقليدية. تصوير: ولاء عبد العاطي
نحرص أيضًا على إقامة جلسات القهوة بشكل دوري، بطقوسها الخاصة وأوانيها المميزة، مع البخور الذي يضفي على المكان أجواءً دافئة ومميزة. في هذه الجلسات، نجتمع معًا، تمتلئ الأجواء بالضحك والمودة، مما يعزز الروابط بيننا ويخلق جوًا من الألفة والمحبة.
طقوس الجبنة مع الجيران. تصوير: ولاء عبد العاطي
لم نشعر يوماً أننا في غربة، بل وكأننا في وسط أهلنا، فقد كانت جدتي دائمًا تقول: "بني جنسك هم المحنة"، أي أن الأقارب والأشخاص من نفس الثقافة هم من يقفون معك في الأوقات الصعبة ويمدونك بالدعم والمحبة. وهذا ما نعيشه هنا في حي غبيرا، حيث نجد دائمًا الألفة والراحة بين أبناء نفس الوطن، ونتشارك معًا في كل لحظة، مما يجعلنا نشعر بأننا في وطننا رغم البعد عن أرضنا الأصلية.
عندما اضطر السودانيون لمغادرة وطنهم هروبًا من جحيم الحرب، أصابهم الحنين إلى تراب بلدهم وحياتهم اليومية المعتادة. فاختاروا العيش بالقرب من بعضهم في نفس الأحياء، سواء في السعودية، الإمارات، مصر، أو حتى في أوغندا وجنوب السودان. تلك الأحياء أصبحت مراكز تجمع لهم، مثل حي غبيرا في الرياض، حي النعيمية في عجمان، وفيصل في مصر، وعمارة صندل في كمبالا.
عمارة صندل في كمبالا. المصدر: صحيفة التغيير
يحاول البعض إعادة تشكيل مجتمع مصغر يشبه ما كان عليه في وطنهم، ليسهل عليهم الحياة اليومية ويخفف من وطأة الضغوطات. هذا المجمتع يخلق بيئة داعمة لأن الجميع في نفس الظروف، سواء كان النزوح أو القلق على الأهل في السودان أو الشعور بالغربة.
كنا نعيش حياتنا كما لو كنا في وطننا، وأعتقد أن وجودنا في غبيرا بين بني جنسنا كان له هذا التأثير. فلاحظت أن السودانيين الذين يعيشون في أحياء أخرى حيث لا يوجد العديد من مواطنيهم، لا يمارسون العادات السودانية اليومية، بل تغيرت بعض جوانب حياتهم. أذكر أنه عندما زارنا أقاربنا في رمضان وصادف ذلك اليوم إفطارًا جماعيًا للجيران، كانوا مندهشين وسعداء لرؤية كل ما يعكس عادات الإفطار السوداني، مثل مشروب الحلو مر الشهير، والكبكبي (الحمص)، والخبز السوداني البلدي، وطقوس الجبنة.