بوستر فيلم زوجة حفار القبور. المصدر: IMDB
النظرة السلبية نحو الصومال هي قضية تاريخية وثقافية عميقة الجذور، تعكس تحديات وتجارب متشابكة تأثرت بها هذه الدولة الإفريقية على مر العصور. وقد تشكلت هذه النظرة السلبية نتيجة لعدة عوامل، بدءاً من الترسبات الاستعمارية وصولاً إلى التحديات السياسية والاقتصادية المعاصرة.
تُعتبر الصومال واحدة من الدول المرتبطة بصورة سلبية في الإعلام العالمي، حيث غالباً ما يتم الإشارة إليها في سياقات ترتبط بالصراعات والفقر وانعدام الأمن، مما انعكس على السينما العالمية.
يسعى بعض الشباب الصومالي في مختلف المجالات إلى تقديم صورة أكثر توازناً عن الصومال؛ من أبرز هؤلاء المخرج خضر عيدروس أحمد، وهو مخرج أفلام وكاتب سيناريو. أخرج مؤخراً "زوجة حفار القبور"، أول فيلم صومالي يترشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم روائي طويل دولي لعام 2021. كما تم ترشيحه أيضاً في مهرجان كان السينمائي للجائزة الكبرى والكاميرا الذهبية، ترشيح الفيلم أيضاً للجائزة الكبرى في مهرجان كييف الدولي. كما فاز الفيلم بجائزة أفضل فيلم في حفل توزيع جوائز الأكاديمية الأفريقية للأفلام.
المخرج خضر عيدروس يفوز بجائزة الحصان الذهبي في مهرجان السينما والتلفزيون الأفريقي. المصدر: صفحة خضر عيدروس على منصة X
وُلد خضر عيدروس أحمد في العاصمة الصومالية مقديشو، وفي سن السادسة عشرة إنتقل إلى فنلندا كلاجئ مع أسرته خلال فترة الحرب الأهلية.
وفي إقتباس من لقائه في برنامج "On the Couch with Bossina"، ذكر أنه بدأ مسيرته ككاتب سيناريو محب للرواية القصصية، لأنه جاء من بيئة ثقافية مختلفة عن بيئته الجديدة. لكنه غير مساره المهني نحو الإخراج بعد أن سئم من رؤية تشويه السيناريو الذي بذل فيه الكثير من الوقت والجهد، حيث يتم إخراجه بطريقة سيئة وغير لائقة بثقافته ونشأته من قبل مخرجين لم يأتوا من نفس خلفيته الثقافية. ومن هنا، اتخذ القرار بأن يخرج أفلامه بنفسه.
المخرج خضر عيدروس أثناء عمله. المصدر: صفحة خضر عيدروس على الانستقرام
يُعتبر "زوجة حفار القبور" أول عمل سينمائي يُنتج باللغة الصومالية، ولذلك استغرق خضر عيدروس أحمد فترة طويلة لإقناع المنتجين بإنتاجه بهذه اللغة التي تعتبر غير مألوفة على الشاشة الكبيرة، كما ذكرت BBC News Africa. ولكن، بعد جهد طويل، نجح في تحقيق ذلك، ولاقى الفيلم استحساناً كبيراً وفتح المجال أمام المخرجين الأفارقة للخروج عن المألوف ورواية قصصهم بلغاتهم الأصلية.
تم عرض الفيلم في المسرح القومي الصومالي في مقديشو، الذي كان قد توقف عن العمل لسنوات، ولاقى قبولاً واسعاً وتعليقات إيجابية من الجمهور الذي تم تمثيله للمرة الأولى بطريقة معقولة وواقعية مع إخراج جميل.
يشارك أبطال الفيلم المخرج في نشأتهم، حيث انتقلوا من الصومال في بداية الحرب الأهلية، وقد ساعدت مشاركتهم في نفس الجذور الثقافية على إيصال رسالة المخرج خضر عيدروس أحمد.
من بين هؤلاء الأبطال، هناك عمر عبدي الذي قام بدور "جوليد" وهو ممثل صومالي له عدة أعمال، من أبرزها فيلم "المواطن"من كتابة المخرج خضر عيدروس أحمد أيضاً، وقد فاز عمر عبدي بجائزة أفضل ممثل في دور رئيسي في حفل توزيع جوائز الأكاديمية الأفريقية للأفلام.
الممثل عمر عبدي مؤدي دور جوليد، المصدر: The Cable Life
وعارضة الأزياء الصومالية ياسمين ورسمة التي أدّت دور "نصرة" في تجربتها السينمائية الأولى. وُلدت ياسمين في العاصمة الصومالية مقديشو، ثم انتقلت مع عائلتها إلى كندا حيث أكملت دراستها الجامعية ونالت درجة البكالوريوس في علم النفس، بدأت مشوارها في عرض الأزياء في كندا عندما كانت في العشرين من عمرها، وقد حققت نجاحاً كبيراً بفضل مظهرها المميز.
الممثلة ياسمين ورسمة, المصدر: Yoolia Lugovska مؤدية دور نصرة. المصدر: IMDB
فكرة الفيلم:
يقول خضر عيدروس في لقائه مع قناة (Scandinavian films) خلال مهرجان كان السينمائي "جاءتني فكرة الفيلم بعد موت أحد أقاربي في فنلندا ، ومدى تعقيد إجراءات العزاء والدفن التي قد تمتد لأسابيع في أوروبا. في ذلك الوقت، قال لي أخي إن الأمر أسهل بكثير في الصومال، حيث يستغرق فقط بضع ساعات. وأضاف أننا ننحدر من دين وثقافة مجتمع متصالح مع الموت بشكل كامل، لإيمانهم التام بأنه جزء من الواقع. لذلك، يرون أن التصالح معه يخفف من رهبة الموت. عندها تذكّر المخرج مشاهد وذكريات من طفولته في الصومال، حيث كان يمر بجانب المستشفى ويجد حفار قبور بالقرب منها، وكانوا يواجهون الموت يومياً، وهو واقع لا مفر منه."
إحدى لقطات الفيلم جوليد ونصرة يؤديان إحدى الرقصات الشعبية. المصدر: IMDB
قصة الفيلم:
في مقدمة الفيلم، يقول البطل جوليد: "نصطاد الموتى، أي أن قوت يومنا يعتمد على الموتى." وهنا تكمن سخرية الموقف، كأنه يخاف الشيء ويبحث عنه في ذات الوقت. كما يعبر عن معاناته كأب لطفل لا يستطيع أن يكون قدوة له، ومع ذلك، لم تمنعه هذه المعاناة من أن ينام مطمئن البال كل ليلة.
تدور قصة "زوجة حفار القبور" حول "جوليد"، حفار قبور صومالي يبلغ من العمر 45 عاماً، يعيش مع زوجته "نصرة" التي تبلغ من العمر 39 عاماً في أحد أحياء جيبوتي الفقيرة. تعاني "نصرة" من مرض مزمن في الكلى، ولا يملك "جوليد" أكثر من أسبوعين لإنقاذها.
المخرج خضر عيدروس وابطال الفيلم جوليد ونصرة. المصدر: IMDB
الخاتمة:
لقد كانت رحلة "زوجة حفار القبور" رحلة مشوّقة ومحفّزة في مجال السينما الصومالية. هذا الفيلم لا يعكس فقط الهويات المتعددة للشعب الصومالي، بل يعبر أيضاً عن الصراعات والتحديات التي واجهها على مر السنين.
أعتقد أن تسليط الضوء على مهن مهمشة كحفار القبور كمحور لسرد قصة سينمائية، لا يقتصر على الجانب الفني فحسب، بل يتعداه إلى مستوى أعمق. فمن خلال هذه الأعمال، يمكننا كشف الستار عن قصص حقيقية ومعاناة إنسانية مشتركة نتشارك في تجارب الحياة والموت، بغض النظر عن اختلافاتنا الظاهرية، أتمنى أن تشجع هذه الأعمال على إعطاء صوت لكل فرد، مهما كانت ظروفه للمساهمة في بناء مجتمع أكثر تعاطفًا وتفهمًا لجميع أفراده.
من خلال هذا العمل الفني، تمكن المخرجون والممثلون الصوماليون من كسر الحواجز الزمانية والمكانية، ليعرضوا للعالم قصة مثيرة تعكس تجاربهم ومعاناتهم وآمالهم. وبهذا، يرسّخ الفيلم مكانته كأول فيلم يحمل توقيع الهوية الصومالية على الساحة العالمية، مما يمهد الطريق لمزيد من الأعمال السينمائية ذات الجودة العالية من المنطقة. إن هذا الإنجاز يمثل نقطة تحوّل في كيفية استيعاب الجمهور العالمي للثقافة الصومالية، كما يفتح الأبواب للمبدعين الجدد من كافة أنحاء الصومال لاستكشاف هذه الصناعة.
يعيش المشهد السينمائي الصومالي في الفترة الأخيرة تطوراً وتقدماً ملحوظاً، ومن أبرز الأعمال الجديدة فيلم The Village Next to Paradise للمخرج محمد هراوي، الذي رُشّح لمهرجان كان السينمائي ومهرجانات سينمائية عديدة. على المستوى المحلي، هناك تطورات ملحوظة في الأعمال الدرامية، حيث تتنافس شركات الإنتاج المحلية لإخراج أعمال تلبي ذائقة الجمهور.