هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

في تطوافنا داخل مدينة الأبيض في رحلة التعرف على إنسانها ومعالمها التاريخية، جذبتنا أصوات الآلات الموسيقية لنجد أنفسنا محلقين بلا أجنحة من دهشة الموسيقى وسحر اللوحات داخل المركز الفرنسي، وهو أحد نوافذ الإشعاع الثقافي بالمدينة. المركز من أهم أركان الفعل الثقافي بولاية شمال كردفان، و أتيحت لنا الفرصة لنتعرف على أقسامه ومكوناته من مجموعات فنية وثقافية. حدثنا الدكتور حيدر أحمد علي - مدير الرابطة الفرنسية بالأبيض وأستاذ اللغة الفرنسية بكلية الآداب جامعة كرفان، ورئيس قسم اللغة الفرنسية سابقاً - عن نشأة المركزالفرنسي ونشاطاته ورؤاه للتغييرعن طريق الفنون والثقافة.

التصوير: Sam Photography

يرجع تاريخ تأسيس الرابطة الفرنسية في الأبيض إلى يونيو 1989 وتم وقتها إفتتاح هذا المركز بإسم المركز الفرنسي السوداني. كان الهدف من قيام هذا المركز أن يفتح السودان بوابة للتواصل مع الدول الفرانكفونية ومنها على سبيل المثال لا الحصر السنغال وبنين. وُضِع المركز ضمن إستراتيجية السودان لخلق تقارب مع دول القارة الأفريقية عبر اللغات، وهي إحدى الأهداف التي تم التخطيط لها منذ الستينيات بعد إنضمام السودان لمنظمة الوحدة الأفريقية. ولكن للأسف لم يحدث هذا التقارب بسبب سياسات نظام الاخوان المسلمين على مر ثلاثة عقود منذ إفتتاح المركز. ومع ذلك ظل المركزالفرنسي بالأبيض منطقة إشعاع ترتكز على نشر اللغة والثقافة والفنون بمختلف أشكالها. فكان يرتاده الفنانين التشكيليين والموسيقيين والمختصين في تراث المنطقة، كما يرتاده ايضاً الأطفال. وأتاح لهم الفرصة بإكتشاف ذواتهم والإحتكاك بالآخر، حيث أنها تخرجهم من الدائرة الضيقة التي نعمل الآن كدولة للخروج منها: وهي الإنغلاق حول النفس والإنغلاق حول القبيلة والإنغلاق حول الحزب. حاول المركز طوال العقود الماضية ومازال يعمل على فتح أفق أرحب للحوار مع الآخر المختلف عن طريق الثقافة والفنون.

التصوير: Sam Photography

ظل المركز وعلى مدى ثلاثين عاماً يقاوم عسف نظام الإنقاذ المباد وإصراره على تدمير مراكز الفعل الثقافي- وهاهو صامد حتى الآن. السفارة الفرنسية كانت معين في تلك الظروف الصعبة ووفرت العديد من الفرص للدراسة. كما ساهمت بشكل كبير في تأسيس قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب في جامعة كردفان وهو من أقوى الأقسام التي تدرس اللغة الفرنسية على مستوى السودان؛ علاوة على أن المركز بوابة لهولاء الطلاب لممارسة الأنشطة المختلفة من مسرح وشعر وأدب باللغة الفرنسية.

كان المركز حريصاً على ألا يدخل في أي توافق مع النظام السابق، لذلك كانت فترة صعيبة جداً عانى فيها المركز من التهميش وعدم إمتلاك مقره الخاص ولكن آن الأوان الآن ليمتلك المركز مقر خاص به وهذا هو دور حكومة الثورة التي هي ملك لكل الشعب السوداني، ودعم الفاعلين الثقافيين يقع في نطاق مسؤولياتها. التغيير الجذري في المجتمعات تصنعه الفنون والثقافة وهذا ما كان يخشاة نظام الإنقاذ البائد، لذلك حارب الفنانين وهدم السينمات وأغلق الدور الثقافية.

بالنسبة لمدينة الأبيض، فالمركز معطاء مع كل مكوناتها المختلفة. فيرتاده الرياضيون والمهتمون بالمعرفة، والمثقفون وغيرهم. كما أنه ومنذ إنشاءه لم يكن متحيزاً جندرياً، وفرص إرتياد المركز والتعاطي مع أنشطته متساوية لكلا الجنسين، بل ويشجع في الكثير من الأحيان النساء ويتيح لهن فرص أكبر للمشاركة في فعاليات المركز المختلفة.

الأقسام المختلفة للمركز تعمل في تناغم تام لتوفر لمرتاديه كل الخيارات الممكنة فنجد قسم تدريس اللغة الفرنسية وهو الأساس الذي تأسس علية المركز. قسم الموسيقى وبه فرقة "الأُبيض روتس"، وقسم تدريس الموسيقى الذي يشرف عليه الأستاذ ياسر عبد الرحمن. وقد تخرج من هذا القسم العديد من الشباب الموسيقيين.

التصوير: Sam Photography

هناك أيضاً معرض الفن وبه مجموعة "كورتريه" وهي مجموعة من التشكيليين الشباب من مختلف التخصصات. رسمت معظم جداريات مدينة الأبيض أيام الثورة تحت إشرافها، وهي من المجموعات التي كان لها دور مؤثر في ثورة ديسمبر. كما أنها تشرف على تنظيم المعارض التشكيلية داخل المركز، بالإضافة للمعارض والرحلات الخارجية التي شاركت فيها المجموعة بصدد تنظيم رحلتين إلى بورتسودان وأديس أبابا. وستكون رحلة إثيوبيا جزء من مشروع المركز في الإنفتاح على القارة الأفريقية خصوصاً وان السودان يشهد تحولات تاريخية وجوهرية يقودها هؤلاء الفنانين الشباب. 

التصوير: Sam Photography

بشراكة إستراتيجية مع المركز، دشنت مجموعة "معرفيون من أجل الديموقراطية والتنمية" نشاطها بولاية شمال كردفان وهي موجودة الآن كجزء لا يتجزأ من المركز، بفعاليات وأنشطة مختلفة من ندوات ومحاضرات ومعارض. تدعم المجموعة بشكل كبير توجهات الرابطه الفرنسية بالأبيض الرامية لصناعة السودان الجديد عن طريق نشر الوعي، من ما أمكن إحداث التغييرات الجذرية في المجتمع عن طريق نشر الفنون والثقافة، وهي من أكثر اللغات فعالية في فتح أبواب للتواصل مع الآخر المختلف.

من باب التشارك في المسؤولية الإجتماعية للمركز وخدمة إنسان المنطقة، سيتم في الأيام القادمة تدشين حملة مكافحة الآثار الصحية الكارثية التي خلفتها الفيضانات هذا العام بدعم ومشاركة كل مكونات المركز وشركاء من لجان المقاومة وجامعة كردفان والعديد من الأجسام الفاعلة في الابيض. وتستهدف الحملة مكافحة الباعوض الناقل لمرض الملاريا وحملات لإصحاح البيئة. ومن الجهات المستهدفة: مستشفى الأبيض، وجامعة كردفان، وحي الربع الثاني الذي يحتضن موقع المركز، وحي الوحده غرب المدينة. ستصاحب هذه الحملات فعاليات توعوية وثقافية من مسرح تفاعلي، غناء ، موسيقى والعديد من الفنون الاخرى. رسالة المركز عبر هذه الأنشطة هي أنه آن الأوان لأن يبادر الجميع للعمل والبناء وان يقوم كل شخص في المجتمع بدوره ولا ينتظر الحكومه لتقوم بكل شيء. يقول دكتور حيدر: "آن الأوان أن نوقد شمعة ونتوقف عن لعن الظلام، فهذا هو السبيل لنهضة سودان جديد ديمقراطي ومتحضر يشبه قيم ثورة ديسمبر المجيده".

الرابطة الفرنسية بالأبيض متمثلة في هذا المركز ليست حكراً على صفوة من الناس والمركز مفتوح دائماً لكل الجماعات المختلفة، ولكل من يريد المشاركة في الأنشطة أو حضور الفعاليات وحتى تقديم النقد والآراء التي تساهم في تطوير النشاطات؛ هذا المركز لكل الناس. في الفترة القادمة سيعمل المركز على إستمرارية الأنشطة التي دأب على تنظيمها؛ كما سيعزز من دعمه للشباب للإضطلاع بدوره في إحداث التغيير الإجتماعي عن طريق الفنون. كما نتطلع لأن يكون هذا المركز واجهة إنفتاح حقيقي بالنسبة للسودان إقليمياً وعالمياً.


فايز حسن

فايز كاتب مهتم بتوثيق الفنون المعاصرة والفنانين في السودان من خلال تقارير ومقالات ومقابلات. فاز فايز بجائزة الطيب صالح للقصة القصيرة للشباب عام 2020 ، ونشرت إحدى قصصه القصيرة في كتاب “حصاد” عام 2016.