في مساء بدا هادئاً في أم درمان، كنت أستقل حافلة تتجه شمالاً بمحاذاة منطقة تُعرف بـ"البلوك ٥٤" (ويُطلق عليها محلياً اسم "الخُضَير"). كان ذلك المساء خالياً من القصف، فلم تُسمع فيه أصوات المدفعية الثقيلة القادمة من ثكنات كرري العسكرية، ولا تحليق الطائرات في أفق المدينة القديمة.
من نافذة الحافلة، كان يمكن للمرء أن يلمح الباعة الجائلين، وعدداً من الأطفال يلعبون أمام منازلهم، وجنوداً يمشون أو يقودون دراجات نارية، وعربات يجرّها حصان تُستخدم في إجلاء السكان، محمّلة بأثاث منازلهم. كانت هذه المشاهد اليومية المألوفة في أم درمان. لكن ما لفت نظري في ذلك المساء تحديداً هو "الراوكِيب"، وهي أكواخ صغيرة تُشيَّد من مواد محلية، قائمة على أربعة أعمدة خشبية، وتُستخدم عادة كمقاهي شعبية تديرها نساء يعملن في بيع الشاي.
جنود تابعين للجيش السوداني يقودون دراجة نارية. المصدر نيويورك تايمز
تبدو الراوكِيب للوهلة الأولى بسيطة وعادية؛ لا تختلف كثيراً عن أي كشك آخر تمتلكه سيدة تسعى لكسب رزقها. لكن تبيّن أن بعضاً من أكثر المعاملات اللاأخلاقية تجري داخل هذه المنشآت الصغيرة. ولسنا هنا بصدد الحديث عن تجارة مخدرات أو قمار أو أنشطة غير قانونية أخرى فحسب، بل عن أمر أشد خطورة وأكثر فظاعة، فهو يمثل أحد أبشع تجليات الحرب المستمرة.
قبل أيام قليلة، دار حديث بيني وبين أحد الجنود الذين اعتادوا التردد على تلك المنطقة، فسألته عن المكان، وعن سبب وجود عدد كبير من النساء في المساء. فأجابني قائلاً: "هذا مكان تلقى فيه أي نوع يخطر على بالك… نساء كثيرات، صغيرات في السن، كبيرات، متزوجات، مطلقات… كل الأنواع موجودة." وقد قصد بذلك أن هذا المكان يُعد رسمياً، أو ربما غير رسمي، حيّاً للدعارة.
شكل الراكوبة السودانية. المصدر: موسوعة عريق
لطالما ارتبطت ممارسة العمل الجنسي بالحروب على مرّ التاريخ. فقد وثّقت "الموسوعة الدولية للحرب العالمية الأولى" التحديات التي واجهت القيادات العسكرية من كلا الطرفين على الجبهة الغربية في التعامل مع انتشار العمل الجنسي، والذي كان، في ذلك الوقت، قد خرج عن السيطرة. وبسبب الخوف من الانتشار السريع للأمراض التناسلية بين الجنود، لجأت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا إلى محاولة تنظيم هذه الظاهرة عبر إنشاء بيوت دعارة خاضعة للرقابة الطبية.
ومع ذلك، ظلّ هناك سوق موازٍ للعمل الجنسي السري، اعتمد في الغالب على نساء كنّ "صغيرات السن، غالباً فقيرات، عاطلات عن العمل، أو يعملن في وظائف منخفضة الأجر"، بحسب مقالة للباحثة جيرني ستيوارد من جامعة شمال إلينوي. وتشير الكاتبة إلى أن معظم هؤلاء النسوة كنّ يعملن في الشوارع، الحانات، الحدائق العامة، النوادي الليلية، والفنادق في مدن وموانئ ومناطق تمركز الجيش في الإمبراطورية النمساوية-المجرية، بل وحتى في بعض بلداتها الصغيرة.
إن ما يحدث اليوم في أم درمان يثير القلق بحق، إذ إن احتمالية انتشار الأمراض التناسلية بين الجنود والمجتمع المدني تُعد مرتفعة للغاية. فمسائل مثل استخدام وسائل الوقاية أو الخضوع لفحوصات طبية تبدو شبه معدومة، خاصة في ظل وجود آلاف الجنود الذين يقودون دراجات "سوزوكي GN125" وبخلفهم نساء على متن الدراجة، دون أي شكل من أشكال الحماية أو الرقابة.
تجلب الحروب معها، إلى جانب أهوالها ومآسيها، تحولات اقتصادية كبرى تؤدي بالضرورة إلى تغيّرات اجتماعية عميقة. فبحسب تقرير التحوّل 2023: الأعمال في ظروف غير اعتيادية، الصادر عن البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، فإن "الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد ينخفض في المتوسط بنسبة 9% مقارنة بمستواه قبل الحرب، قبل أن يبدأ بالتعافي، بينما يبلغ الانخفاض الوسيط نحو 3%. أما في أشد عشرين حالة انكماش تم توثيقها، فقد تراجع الناتج المحلي الإجمالي للفرد بنسبة تراوحت بين 40% و70% في ذروة الحرب".
وقد استند التقرير إلى تحليلات مبنية على سنوات من البيانات التي جمعتها مؤسسات دولية رائدة مثل صندوق النقد الدولي. ورغم أن التحليل شمل أكثر من 700 حرب داخلية وخارجية وقعت في عدد كبير من الدول، فقد أشار معدّو التقرير إلى أن السودان يُعد من الاستثناءات النادرة؛ فبينما بلغ متوسط مدة الحرب في البلدان المشمولة بالدراسة حوالي 2.4 سنة، كانت مدة الحرب في السودان تتجاوز 25 عاماً عند صدور هذا التقرير. ولم يكن النزاع المسلح الذي اندلع في 15 أبريل حتى مُدرجاً ضمن هذه الدراسة، رغم كونه أحد أكثر الحروب دماراً في تاريخ البلاد.
وفي المقابل، يجد الشبان، سواء من المجتمعات الريفية أو من الطبقات المهمشة في المدن، أنفسهم في وضع معقد للغاية. فبعضهم التحق بالجيش بصفته من جنود الاحتياط، بينما انضم آخرون إلى قوات الدعم السريع، لأسباب عديدة، يأتي في مقدمتها العامل الاقتصادي. هذه العسكرة المتزايدة لجيل الشباب ستكون لها عواقب وخيمة على مستقبل السودان.
أنصار وأعضاء المقاومة الشعبية المسلحة السودانية، التي تدعم الجيش. المصدر: وكالة فرانس برس
قال لي متوكّل، وهو شاب مفعم بالحيوية تعرفت عليه مؤخراً، وهو يرفع صوته بحماسة: "لقد التحقت بالجيش!" فقد قرر الانضمام للجيش كاحتياطي بعد أن ظل بلا عمل لأكثر من ستة أشهر. وأضاف: "غداً أسافر لبدء التدريب العسكري." ومثله، آلاف الشبان اليائسين اتخذوا القرار ذاته، وللسبب ذاته تقريباً: الضرورة الاقتصادية.
ليست الصورة كلها قاتمة أو محصورة في الأنشطة غير المشروعة، فهذه لا تمثل إلا شريحة صغيرة مما يفعله غالبية السودانيين. إذ تكيف معظم أفراد المجتمع مع تحديات المرحلة بصبر استثنائي ورباطة جأش مذهلة. رجال ونساء يعيلون أسرهم من خلال بيع الطعام، وهو السلعة الوحيدة التي ما زالت مطلوبة في ظل هذا الركود. يبيعون الطعمية (الفلافل) أمام منازلهم، أو قرب الشوارع الرئيسية، أو في الأسواق.
لطالما عُرف السودانيون بصبرهم، بالنظر إلى التاريخ الاجتماعي والاقتصادي العاصف لهذا البلد. فقد اعتادوا تحويل أقسى الظروف إلى فرص، واستخرجوا من شحّ الموارد ما يكفي لبناء حياة، مقدمين بذلك ما يتجاوز طاقة البشر في بيئة موغلة في القلق والاضطراب.
حرق أرزاق المواطنين في الفاشر شمال دارفور. المصدر: وكالة فرانس برس
لقد رأيتُ أناساً يقيمون حفلات زفاف بينما كان دويّ الرصاص لا يزال مسموعاً من مناطق مجاورة! وآخرين يزورون أقاربهم في مناطق مختلفة، غير آبهين بمخاطر الحواجز العسكرية أو احتمال تصاعد القتال فجأة ودون سابق إنذار. قد يقول البعض إن مثل هذه التصرفات متهورة وغير مسؤولة في ظل هذه الأوضاع الاستثنائية، وهذا القول يحمل بعض الصحة. لكن، أليس من التهور وقلة المسؤولية أيضاً أن تُشن حرب طاحنة على مجتمع فيه أناس يمتلكون هذا القدر من الشغف بالحياة؟