عندما قال الفيلسوف اليوناني إبكتيتوس: "لا تُفسِّر فلسفاتك. عِشها وجسدها" ربما كان يناشدنا أن نجسد كل جانب من جوانب الأشياء التي نوعظ بها الأخرين، من معتقدات وقناعات ومواقف أخلاقية. وفي حالة أبو عركي البخيت، فهو فننا.
وبهذا المعنى كان أبوعركي البخيت، في ذروة الحرب، يتحمل الواقع الحالي لبلادنا، فجسد فنه بعد أن أمضى عقوداً من حياته الماضية يفسره لنا.
يعد البخيت من أشهر الموسيقيين في السودان، وإرثه يتحدث عن نفسه. و لكنه أضاف علامة أخرى إلى سيرته الذاتية الشهيرة من خلال المثل الذي ضربه عندما رفض مغادرة منزله الواقع في منطقة مزقتها الحرب.
وبعد مرور أكثر من شهر على اندلاع الصراع، نشر على وسائل التواصل الإجتماعي صورة له من داخل منزله. وسرعان ما انتشرت صورة الموسيقي ذا الوجه الرقيق، الذي غلفه عامل السن بشعره ولحيته البيضاوان وهو مايتناقض بشكل صارخ مع النقاط البنية العميقة على جلده.
الصورة الأولى التي نُشرت لأبو عركي من منزله على صفحة فيسبوك وحصدت أكثر من 14 ألف إعجاب. المصدر: صور من السودان
استقبل عشاق الموسيقى في جميع أنحاء البلاد الأخبار بحماس كبير. وكأنهم إستعادوا آمالهم بالعودة إلى ديارهم، لأن أحدهم سوف يفكر: "انظر، حتى الموسيقي الكبير أبوعركي لا يزال هناك!"
واحدة من الصور العديدة لأبو عركي وهو لا يزال في منزله. المصدر: مداميك
لا يزال جريئاً ومعارضاً للعنف
إذا كان هناك فنان أثبت حبه لوطنه من خلال أعماله فهو بالتأكيد أبوعركي البخيت. يحافظ الموسيقي البالغ من العمر 63 عامًا على نفس الشخصية المرحة والمحبة للسلام واللطيفة التي اشتهر بها دائمًا منذ بداياته الموسيقية في السبعينيات.
تتألف أعماله التي أنتجها في ذلك الوقت من أغاني بارزة خاصة بالمقاومة عارضت العنف والقمع الاستبدادي. وبفعل ذلك، كان قد أزعج السلطات لذا مُنع من الأداء. بخلاف ذلك، أنتج أيضًا الأغاني الرومانسية والتي يصف فيها جمال الريف والعديد من جوانب الثقافة السودانية.
البخيت خلال إحدى مسيرات الاعتصام التاريخية لثورة ديسمبر. المصدر: SUNA
وقد يرى البعض أن إضفاء طابع رومانسي على إقامة البخيت في منزله في منطقة حرب أمر خطير. الشيء الأكثر عقلانية الذي يمكنك القيام به أثناء الحرب هو البحث عن ملجأ في مكان أكثر أمانًا، وهو ما قد يعني مغادرة منزلك مؤقتًا على الأقل. ومع ذلك، فإن سبب بقاء البخيت يصعب فهمه بالنسبة لمعظمنا؛ إنه عميق جدًا ويتحدى المنطق لدرجة أنه حتى هو نفسه لن يتمكن من شرحه بشكل كامل.
الفن محايد ويجب أن يدعو إلى السلام وليس إلى التفرقة
منذ بداية الحرب بين الجيش الوطني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، كان للمشهد الفني إيجابياته وسلبياته، لكن بسبب السلبيات تقزمت الإيجابيات.
لم يدافع سوى عدد قليل من الفنانين عن السلام، في حين إنحاز كثيرون آخرون إلى أحد الجانبين، حيث دعم بعضهم القوات المسلحة السودانية وآخرون قوات الدعم السريع. يجب على الفنان، بكل المقاييس، أن لا يدعو للحرب. من خلال الانحياز إلى أحد الجانبين، أظهر هؤلاء الفنانون الذي يدعمون الحرب مثالًا سيئًا وربما أثروا سلبًا على الوعي الجماعي للعديد من المعجبين والمتابعين.
ومع ذلك، فقد أثبت أبو عركي البخيت، دون أن يضطر حتى إلى إنتاج عمل فني، أنه منارة للسلام وهذا ماكان عليه دائماً. أن شيئًا بسيطًا - مثل مجرد العيش- يصبح مصدرًا للإلهام سيظل لغزًا بالنسبة لنا إلى الأبد. هكذا فعل أبو عركي البخيت، لم يحرك ساكنا ليكتب أو يغني سطر من أغنية. وهو على ما يبدو لا يحتاج لفعل ذلك. لقد ألهم إرثه الموسيقي بالفعل أجيالًا متعددة على مدار العقود الماضية. لكنه أصبح فنه هذه المرة. لقد جسد فنه.
في هذه الأوقات التي تتسم بالإنقسام السياسي والتنافر الإجتماعي غير المسبوق، يذكرنا أبو عركي البخيت بأن ندع حبنا لهذا البلد يتجاوز كل المضايقات الحالية والماضية، وأن نتوق إلى السلام وألا ندع دعاة الحرب يجعلون السودان المسالم الذي عرفناه (أو طمحنا إلى تحقيقه) أن يصبح مجرد ماضي نحِن إلى أيامه.
اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا.