هل للمباني القديمة قيمة مادية أعلى من قيمتها المعنوية، أم أن الإهتمام الجمالي لفن العمارة في المدينة يزول حين يتعلق الأمر بالمادية والدين والسياسة؟ إن تطور ثقافة المجتمعات ورخائها إضافةً لعاداتها وتقاليدها فيما يتعلق بالبناء، يعد من العوامل الموازية للرؤية الفنية والحسية لما يستحدثه الإنسان من فن وجمال ينمي إهتمامه للأشياء الحسية حوله كما قد يحصرها في قيمتها المادية فقط.
هنا في السودان ؛ يظل السؤال ،كيف تعاملت ثقافة الإنسان مع ما تبقى من أثار المجتمعات الإستعمارية كمكون لثقافة البلاد في زمن الحالي؟
نما مع الوقت الإهتمام بالمباني القديمة ومعمار فترة الإستعمار التركي والبريطاني كونها أثار تاريخية ذات تأثير في تاريخ السودان . وتزايد بعد ملاحظة التشابهه في مدن: الخرطوم، عطبرة، بورتسودان ومدني والآن في مدينة الأبيض، كآثار باقية، كتحف معمارية باعثة لروح قديمة للأمكنة داعية للتأمل والإستغلال الثقافي والتاريخي. برغم إختلافات الفصول ودرجات الحرارة في هذه المدن إلا أن التسلسل المعماري متقارب في انشاءات المباني ليلائم طبيعة المكان معتمداً على الأسقف الحديدية والخشبية معاً، والأبواب والنوافذ الخشبية من الداخل والخارج وإستخدام الطوب الأحمر والأسمنت بصورة شائعة مع اللجوء لإستخدام الصخور المحلية في البناء.
الأبيض كمدينة، شكلتها رحلات القوافل قديماً وجعلتها مركزاً تجارياً وميناءاً برياً لشمال، وشرق، ووسط ،وغرب أفريقيا حيث جلبت لها ثقافات واثنيات مختلفة، وقادت الإستعمار الإنجليزي للسودان لمد خطوط السكة حديد إليها. وبرغم التغيير العمراني والتمدد السكاني للمدينة، إلا أن ما تبقى منها ظل واقفاً كآخر الفرسان في معركته مع الزمن، دون أن تأسره امتدادات المدينة بسكونها، ليظل كأطلال آيلة للنهضة بقصص قديمة وإنتصارات عظيمة.
السكة حديد
المصدر: wikimedia.org
في سنة 1911، كان وصول السكة حديد - الذي يعد حينها دلالة على وصول التقدم والتحضر للمدن - في مبنى المحطة الرئيسية يتكون من طابق واحد من الطوب الأحمر بسقف خشبي ومزينٌ بقطع القرميد الحمراء والمميزة للثقافة الإسلامية القديمة والمعمار الأندلسي. نشطت معها حركة بناء المكاتب الإدارية والأحياء السكنية والمتبقي منها الآن في الحي البريطاني وحي المديرية في مدينة الأبيض كتوزيع جغرافي متقارب للمكاتب الإدارية والمنازل السكنية للجاليات المختلفة في وقتها.
تصوير: خالد عمر
مباني حي المديرية والحي البريطاني
تصوير: خالد عمر
تواليت الحكومات بعد الإستقلال عمد على إستغلال المباني القديمة لمصالحها الحكومية، فتم تحويلها وطمس معالمها القديمة بشكل غير ملائم. فتحولت لجدران أسمنتية وطليت بألوان مختلفة كما حدث للمبنى الواقع في حي المديرية أو شارع الوزارات والذي يمثل وزارة المالية للولاية. وبرغم كل ذلك هنالك بعض الاهتمامات المتمثلة في ترميم بعض مباني حي المديرية من قبل هيئة الآثار بالتعاون مع منظمة اليونسكو باعتبارها من التراث العالمي.
يظهر البناء من الخارج على شكل قلعة، بفناء متسع في منتصفه على هيئة حديقة، و جدران سميكة وبوابات تظهر فن المعمار الإنجليزي. أعلى المبنى تزينه أسوار خشبية تدور حول كامل المبنى و تظهر نظام الحماية والمراقبة للقصر.
أما في الحي البريطاني فتعددت أشكال المباني وتاريخ بنائها وكانت الأكثر عرضة لتغير معالمها، فالشائع فيها كانت المباني المبنية بالحجارة. كما أًستخدم الأسمنت للأسقف بدلاً عن الأسقف الخشبية والحديدية النادرة، إضافة للشكل المميز للجدران الخارجية القصيرة والتي تعلوها أشكال هندسية مختلفة .
المعمار الإنجليزي الحديث
المصدر: wikimedia.org
تلى فترة الإستعمار بعد ذلك بروز معمار نهضة السودان الإدارية. وقد تمثل في شكل الفلل الصغيرة بالمساحات الخضراء والحدائق الدائرية والمربعة؛ والتي تظهر جليا في الأندية القديمة وما تبقى منها في الحي البريطاني وفنادقه التي تمتاز مبانيها من طابق واحد وبرندات طويلة ذات نوافذ وبلكونات مفتوحة كفندق كردفان وفندق جون .
الكاتدرائية الكاثوليكية Our Lady Queen of Africa Cathedral
تصوير: Sam Photography
للحياة الروحية والفكرية للأديان المختلفة تأثيرات متعددة ومختلفة على حياة الأفراد والجماعات، تظهر بشكل بصري في أماكن التعبد كالمعابد والكنائس والمساجد. فتتجلى مركزية الحياة الروحية والفكرية في المسيحية بصورة ملموسة بالكنائس والأديرة. في مدينة الأبيض تتمثل عمارة الكنيسة كأحد المراكز المعمارية المرموقة في السودان. زارت آندريا المطران يونان تومبي الذي قال: "تُعد كاتدرائية الأبيض من أجمل الكنائس في أفريقيا والشرق الأوسط، أسسها دانيال كمبوني في العام 1881، وتم بناءها بشكلها الحالي بواسطة راهب إيطالي بين العامين 1961-1964. ساعد الرهبان السودانيين كعاملين في بنائها ، وقد تم جلب كل مواد البناء من إيطاليا".
وأفاد المُطران يونان تومبي "لا يوجد رسم أو رمز داخل الكاتدرائية دون معنى ودلالة، فاللغات المنقوشة تعني عدم التجاهل وتمييز تعددية اللغات والثقافات في الدين المسيحي والتي تُظهر جلالة وقدرة الله على الإحاطة بكل الألسن. فنقشت لغات متعددة على محيط سقف الكنيسة لتدل على فهم الله لكل دعوات عباده مهما كانت لغته وأصله، و هناك سهولة الأيحاء وبيان للآيات بشكل رسومات ورموز كلغة توضيحية بسيطة لفهم عامة الناس".
تصوير: Sam Photography
جمال الكاتدرائية يطل من معمارها الخارجي بألوانها الحمراء القانية المتناسقة مع أشكال الأعمدة القائمة على الأبواب وألوانها، كما تميزها الأبراج متوسطة الحجم وشكل الأقواس حول نوافذها من الخارج والداخل كامتداد لفن العمارة اليونانية والإيطالية المدهشة. والكاتدرائيات على وجه الخصوص، تحوي أشكال هيكلية معقدة. وتميل إلى عرض مستوى أعلى من النمط المعماري المعاصر، والعمل مع عدد كبير من الحرفيين من أجل إنجازها. واحتلت الكاتدرائية مكانة إجتماعية وثقافية وتاريخية هامة في حضارة المنطقة.
تصوير: Sam Photography
فمن خلال ذكر التفاصيل الجمالية التي تزين الكاتدرائية مثل الحوائط العالية في الكنيسة والمكونات الطبيعية للبيئة المحيطة بصورة شاملة لثقافة المنطقة وتعددية المكونات الأثنية والجغرافية ؛ تتمثل رمزية واضحة لمعاني العبادة الروحية المتوازنة للتقرب لله دون تمييز. يتجلى وضوح ذلك برسومات دلالية عن ثقافة وجغرافية السودان منها رسومات للنخيل والجِمال الموحية لشمال البلاد، كما تدل على جنوبه بشكل القطاطي والجبال.
تصوير: Sam Photography
كاتدرائية السيدة ملكة أفريقيا بمدينة الأبيض تدق أجراسها للصلوات كل أحد، كما تنادي بجمال العمارة الكنسية بفسيفساء زجاجية على النوافذ والجدران، وأقواس أعلى الأبواب المتعددة بمسمياتها المختلفة وآياتها وأدعيتها المحببة والتي تُرغب في التقرب لله. كما ترى فيها الرسومات اليونانية الأسلوب لحياة المكان ببساطته، فلوحة الراهبة بخيتة والقديس والسيدة مريم العذراء وعيسى إبن مريم تملك الزائر تفاصيل جمالية وروحية لمعالم معمارية فريدة لهذه الكاتدرائية.
الأبيض كمدينة وريف تُشكل تجمع لثقافات متعددة منذ وقت طويل، فتبين معمارها من إستخدام المواد المحلية لبناء القطاطي وأسوارها الخشبية قديماً بشكلها البسيط والمُعبّروالشائع في قرى السودان المختلفة. وتباين كل ذلك عن مباني الحكم الإنجليزي الممتد بين عامي 1899-1956 وتطورها. وصولاً لما آلت إليه الهيأة المعمارية الآن في المدينة. فكل ما جاء في هذه المقالة ببساطته، هو محاولة لإعادة فهم وإخراج المحتوى الثقافي والفني المحلي لإنسان المنطقة بشكل أفضل وغير معتاد؛ رابطاً بين المعمار المحلي القديم وثقافته، وبين القديم التاريخي للآخر المختلف عن الإنسان المحلي ليتشكل حاضر معماري لثقافة المدينة.