هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

تعد صناعة البخور جزء أصيل من التراث الثقافي السوداني، حيث تعود بجذورها إلى تاريخ طويل يمتد عبر الحضارات الإفريقية والشرقية المتداخلة في السودان، متجاوزة الفكرة البسيطة لمنتج محلي لتصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية والهوية المتوارثة بين الأجيال ويستخدم كجزء من الطقوس الاجتماعية والاحتفالات التقليدية. 


في السودان، تعد صناعة البخور موروثاً حياً، تجمع بين المواد الطبيعية والأيدي الماهرة التي تستخرج وتجمع المكونات بعناية، حيث تأتي المواد العطرية من مصادر متعددة، تشمل النباتات المحلية والزيوت العطرية الطبيعية. ورغم الأزمات المتتالية التي مرت على السودان، مازال الحرفيون المحليون يواصلون الحفاظ على تقاليد هذه الصناعة، في تحدٍ للأوضاع الصعبة التي تعصف بالبلاد. والحديث عن صناعة البخور في سياق الحرب هو توثيق للمسار التاريخي الذي تسلكه المجتمعات المحلية في الحفاظ على الموروث الثقافي، علاوة على الاحتفاء بمجهودات الصنّاع على النهوض إبان الصراع الذي أضر بالصناعة السودانية بشكل مباشر. 


من هواية إلى عمل مزدهر

"في الاشهر الاخيرة التي سبقت اندلاع الحرب، كنت قد اقتربت من تحقيق أهم طموحاتي بإدخال البخور والعطور السودانية في السوق الحر لمطار الخرطوم ومبيعات خطوط الطيران المحلية، من بينها شركة بدر للطيران، وقبل أن يكمل حلمي خطواته الاخيرة قطعت الحرب الطريق أمامه" تقول هند صلاح الدين مؤسسة علامة ام الفاضل للعطور والبخور.


بعض منتجات أم الفاضل - الصورة مقدمة من صفحة أم الفاضل على الانستجرام


يُعتبر بخور الصندل، هو الأغلى والأكثر شهرة، رمزاً للأناقة والرفاهية. أما الأنواع الأخرى، المصنوعة من أخشاب الشاف، والعنفر، والعدني، فتُستخدم في المنازل بشكل دوري، وترافق جلسات القهوة السودانية التقليدية لاظهار الترحيب والكرم. 


في حديثي مع هند ابتدرت الكلام بوصف حبها للبخور السوداني والعطور، الأمر الذي دفعها لتعلم صناعة البخور نفسه ليشكل جزءاً من روتين حياتها الطبيعي، إلا أن النساء في أسرتها شجعنها على الشروع في استخدام موهبتها في صناعة البخور كمصدر دخل إضافي. 

"كنت ربة منزل عادية، إلى أن اخبرني عدد من قريباتي بعمل مشروع صغير لبيع البخور، لاني كنت دائماً أهدي البخور للأقارب والأصدقاء ودائماً اهديهم البخور الذي صنعته بيدي".


واجهت هند الأمَرَّين من أجل صمود منتجها في السوق السودانية أمام الازمات المتواترة، بداية بانتشار وباء كورونا، ثم عدم الاستقرار السياسي عقب ثورة ديسمبر الذي ألقى بظلاله على كل نواحي الحياة اقتصادياً واجتماعياً، وصولاً إلى الحرب الدائرة في السودان منذ أبريل ٢٠٢٣. 

على الرغم من أن صناعة البخور لم تكن بمنأى عن الأزمات المتلاحقة التي ألقت بظلالها على مختلف القطاعات في السودان حتى قبل اندلاع الحرب، لكن مع اندلاعها، تسببت الحرب في انهيار الاقتصاد بشكل متسارع، وانهارت معه أحلام الصناع والمبدعين الذين سعوا للحفاظ على التراث ونقله إلى العالمية.


سند ثقافي ومادي

من جانب آخر كانت أميمة زين العابدين مؤسسة سند للبخور والعطور تعمل على إعادة تعريف مفهوم العطور والبخور السوداني إذ بدأت في ابتكار بعض توليفات العطور السودانية وإضافة نكهات مستوحاة من عطور باريسية إلى خلطاتها عبر علامتها التجارية، من أجل موائمة متطلبات السوق الحالية، و بينما تواجه "سند" تحدٍ في بيع منتج سوداني تقليدي في دولة مختلفة وجذب المستهلكين من خلفيات متعددة، قررت تجديد شكل منتجاتها.


بعض منتجات سند - الصورة مقدمة من أميمة


تقول أميمة "قمت باضافة عبوات صغيرة وانيقة تناسب السوق الخارجي، حجم العبوة الجديدة 50 مل فقط بينما في السودان نستهلك عبوات 500 مل أو أكثر ، اردت ان اعطي المستهلك حق التجربة على الأقل". لم تقتصر فكرة تصغير العبوات على أميمة فحسب، حيث شاركت هند ذات التجربة لأسباب مختلفة، إذ تفاجأت هند في آخر عودة لها للسودان لشراء مواد خام بالأسعار الجديدة، و قبل أن تفكر في تغيير أسعار منتجاتها كانت قد قررت بيع كميات أقل باسعار أقل. "أصغر منتج لدي 20 مل واسميته النتشة، لانه صغير جدًا و لكن الاوضاع الاقتصادية اصبحت سيئة جدًا لا اعلم كيف سيشتري الناس و اصاب بغصة كلما فكرت في مضاعفة السعر الاسعار بينما أعلم جيدا كيف انتهى الأمر بالسودانيين ماديا في أعقاب الحرب"


رغم هذا التوجه نحو الخارج، لم تتخلَ أي من العلامتين عن أصالة منتجاتهما. بالنسبة لأميمة، كان التحدي الأكبر أن تظل وفية لجذور الصناعة السودانية مع المحافظة على استخدام خامات بمواصفات محددة ومعروفة وبين عبق الصندل ولمسات العطور الباريسية، وبين زجاجات العطر الأنيقة التي تسافر بها الذكريات، ترسم العلامات السودانية الجديدة ملامح جيل من النساء المبدعات اللاتي حولن تحديات الحرب إلى بوابات التجديد والبقاء. 


صناعة العطور والبخور: التراث والمساحات الخاصة

تاريخياً إرتبطت هذه الحرفة بالمناسابات الاجتماعية مثل الزواج، والولادة، في وقت لم تعرف فيه النساء السودانيات الكثير من المساحات العامة التي تمنحهن حرية اللقاء والتعبير، شكلت جلسات صناعة البخور متنفساً برحاً للنساء اللواتي تركزت أدوارهن حول العمل الرعائي. إذ تمثل المساحات الخاصة التي تجتمع فيها النساء مثل قعدات الجَبَنة (القهوة) وعمل البخور والعطور وبقية مستحضرات التجميل التقليدية مساحة خاصة تجتمع فيها النساء بعيداً عن أعباء حياتهن اليومية.


البخور في مبخرة جرتق سودانية, الصورة مقدمة من موقع Capitol Romance 


توفر هذه المساحات طقوساً حميمية تستطيع فيها النساء ممارسة حرفهن ومشاركة أفكارهن، أسرارهن ومشاعرهن المختلفة تجاه الحياة، وهو ما يمثل جسراً للتواصل بين النساء عبر الأجيال.


صناعة البخور. الصورة مقدمة من MAJIN BU(˶˃ ᵕ ˂˶)

على صعيد آخر، مثلت صناعة البخور والعطور السودانية وسيلة رزق أساسية للعديد من النساء، خاصة أولئك اللاتي لم يجدن فرصاً في سوق العمل المنظم. بعيدًا عن المتاجر وخطط التسويق المعقدة، كان الإنتاج يعتمد بشكل كبير على المهارة الفردية والسمعة. نجحت هذه الصناعات المنزلية في خلق مساحات اقتصادية وإبداعية للنساء، مما جعل البخور والعطور ليس فقط رمزًا للتراث الثقافي، بل وسيلة لتمكين النساء اقتصادياً واجتماعياً. 


"خلال العام 2020 انتقلت مع أطفالي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبدأت بيع البخور في ولاية فيرجينيا ولكني كنت أعود إلى السودان قبل أن تنتهي آخر دفعة من البخور المخزن لدي. بالتأكيد بإمكاني صناعة البخور هنا في الولايات المتحدة لكني أريد عمل البخور في الحيشان البرحة مع عائلتي وصديقاتي، لا يمكنني الاستغناء عن هذه الأجواء ولا أظن أن البخور سيحافظ على ذات الجودة دونها" تقول هند.


وتروي هند صلاح عن دعم أختها في هذا المجال قائلة: "كانت أختي تساعدني في صناعة البخور في السودان، ولكنها كانت تعمل في وظيفة مكتبية براتب زهيد. عرضت عليها ضعف الراتب الذي تتلقاه من عملها السابق، بشرط أن تتفرغ لتساعدني في صناعة البخور لأني أصبحت أنتج كميات أكبر لعملائي".


من أجل العودة، تحديات جديدة 

لم تستثن الحرب مجالا إلا وألقت بظلالها المدمرة عليه، بعد أن أجبرت الملايين على مغادرة منازلهم وولاياتهم بحثاً عن ملاذ آمن، تركت الحرب خلفها الصناعات المختلفة في حالة شلل تام. و مع اقتراب الحرب من إكمال عامها الثاني على التوالي تخوض الأسماء التجارية رحلة شاقة للعودة مجددا للحياة، سواء داخل السودان أو خارجه. 


وبينما تضع العلامات التجارية الباقية في السودان نفسها في موضع خطر إذ لا توجد أي ضمانات على سلامة الولايات لم يصلها الصراع حتى الآن، لم تتوقف التحديات التي تجابه صناع البخور عند أزمة الغربة و غياب السوق التقليدية فحسب، فالغلاء الفاحش متضافراً مع انهيار القوى الشرائية أثقل كاهل الصُناع، و تروي هند صلاح، تجربتها مع هذه الأزمات قائلة:

"للأسف الشديد عطّل الغلاء في السودان عملي لفترة طويلة.. مؤخراً اشتريت جوال من خشب الشاف بقيمة 300 دولار، وكانت قيمته في المرة الاخيرة عندما اشتريته قبل الحرب في السودان بما يعادل الـ 20 دولاراً، أعلم أن عدداً من النساء يحضّرن للزواج في مصر والدول الأخرى التي لجأن إليها واضطررت أن أصمم عرضاً جديداً للعرائس بقيمة 10 آلاف جنيه مصري لأني متعاطفة جدًا مع وضع النساء اللاتي سيُحرَمن من فرحتهن كعروس سودانية لمرة على الأقل في حياتهن "


بالنسبة لأميمة، اتخذت صناعة البخور منحىً مختلفاَ تماماَ، حيث بدأت مشروعها عقب اندلاع الصراع في السودان لأسباب اقتصادية بحتة. وتمارس أميمة هذه الحرفة لسنوات حيث تصنع بخورها الخاص للاستخدام الشخصي أو لتقديمه كهدايا، إلا أن الحرب دفعتها لتحويل ما ورثته من والدتها إلى مصدر دخل أساسي. نزحت أميمة مع عائلتها إلى مصر، وكانت الحاجة ملحة لابتكار وسيلة جديدة تعينهم على مواجهة الحياة في المهجر.


وبطبيعة الحال لم تكن البداية سهلة، فإطلاق علامة تجارية سودانية في بلد مهجر بعادات وثقافة مختلفة شكّل تحدياً كبيراً. لكن مع نزوح عدد كبير من السودانيين إلى مصر، تمكنت أميمة من تكوين قاعدة مستهلكين وفية لمنتجاتها. لم يكن البخور بالنسبة لها مجرد منتج للبيع، بل كانت دائماً تعبيراً عن الهوية والحنين للوطن. حدثتني أميمة: "لطالما أرسلت البخور لابني وزوجته في المهجر. وعندما اندلعت الحرب، توقفت لفترة عن إرساله. عندما تمكنت أخيراً من إرسال بعض البخور لعائلته، اتصلت بي زوجته لتشكرني، وقالت إن ابني متأثر جداً ولا يستطيع التحدث معي لأنه كان يبكي قائلاً إن البخور يذكره برائحة منزلنا". تتابع أميمة حديثها: "تلك اللحظة أثرت فيَّ جداً، أتمنى ان نتمكن من العودة مجددا الى منازلنا و احبائنا".


بعض منتجات سند الصورة مقدمة من أميمة

هجرة العلامات التجارية 

"لم تكن البداية سهلة بالنسبة لي، لكني تمكنت من العمل في خضم كورونا، وحاولت جهدي خلال الحرب. الأمر يزداد صعوبة، وأتمنى أن أتمكن من تغطية حاجة النساء السودانيات في جميع البلدان." ذكرت هند. كما عملت هند جاهدة لبناء شبكة تعاون مع مناديب في عدة دول مثل السعودية، السودان، مصر، الإمارات، بالإضافة إلى مقرها في الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن توسع العمل لم يخلُ من التحديات، حيث تضيف: "الصعوبات تزداد حسب قوانين وشروط كل دولة"


والحديث عن النمو الاقتصادي في السودان حالياً يعد ترفاً من الخيال إذا ما نظرنا للواقع الذي خلفته الحرب، حينما اشتدت نيران الحرب في السودان، لم يكن أمام هند صلاح، مؤسسة علامة، سوى أن تعيد ترتيب خططها. كانت تطمح إلى أن تحلق بعلامتها التجارية في فضاءات الأسواق العالمية، بدءاً من معرض في باريس، لكنها تقول: "لما اندلعت الحرب، كنت على وشك حضور معرض عطور كبير، وقد بدأت خطوات إدخال منتجاتي للسوق الحر بمطار الخرطوم، لكن كل شيء توقف فجأة." ما كان يبدو كطريق ممهد إلى العالمية، تحول إلى رحلة جديدة أشبه بالبدء من الصفر.


رغم الظروف القاسية والعقبات التي تواجه صناع وصانعات البخور، تمكنت العديد من العلامات التجارية من العودة للعمل ومجاراة الأوضاع الاقتصادية. في الوقت نفسه، بدأت علامات تجارية جديدة نشاطها بعد اندلاع الحرب، ولم تكن العقبات سبباً لتوقفها. تحدثت أميمة، التي أسست علامتها التجارية بعد اندلاع الحرب، قائلة: "مثلت صناعة البخور أكثر من مجرد مصدر دخل بالنسبة لي. ارتبط لدي بذكريات النساء في الأسرة والمنزل. كنا نحب البخور منذ صغرنا، نستخدمه بكثرة ونستمتع بصناعته مع والدتي وخالاتي، قبل أن يتحول إلى مصدر رزق لي ولأسرتي".


يعكس هذا الإصرار على الاستمرار العلاقة العميقة بين صناعة البخور والإرث الثقافي المرتبط بالصنّاع والمستهلكين، علاوة على ترسيخ الموروث الثقافي الذي تهدده الحرب ليصبح رمزاً للمقاومة في وجه العقبات التي فرضتها الأوضاع الصعبة في السودان .


آية السماني

باحثة وصحفية ذات خبرة، تتمتع بخلفية قوية في مجال البحث في الموارد المفتوحة، ومراقبة وسائل الإعلام، وجمع البيانات. شغوفة بتطوير الأدوات والتقنيات للمحتوى الرقمي المؤثر والجذاب والميسور الوصول.