هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English


تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة لحرب السودان. تعكس الآراء الواردة في هذه المقالة آراء المؤلف فقط وليس آراء أندريا. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا.


 الحرب هي السياسة... لكن بوسائل أخرى على قول المفكر البروسي كارل فون كلوزفيتز. لا تتغيّر أبداً طبيعة الحرب فهي تُخاض لأهداف سياسيّة، لكن الأكيد أن خصائص الحرب تتغيّر تبعاً للتغييرات في الأبعاد الإقتصاديّة والسياسيّة كما الإجتماعيّة. كانت هذه الحرب متوقعة نظراً لإنسداد الأفق السياسي بين القوى المدنية وأتباع النظام السابق في اللجنة الامنية والدعم السريع والفشل في الإتفاق على ادارة صراع سياسي.  وقبل تناول رؤية مابعد الحرب، أُفضل البدء  بتداعيات الحرب وتوابعها ورسم صورة موضوعية للوطن بعد الحرب.


ممارسات بغيضة


يبدو بشكل واضح أن هذه الحرب ستنتهي بلا منتصر نهائي، وسوف تثبت الطريقة التي ستنتهي بها صحة هذه المقولة. لقدإحتلت قوات الدعم السريع بممارساتها الشائنة والسلب والنهب والتقتيل والإغتصابات، وعدم إكتراثها البتة بأي مفاهيم للإنسانية والشرف وإحترام المواطنين المسالمين وإنتهاكاتهم، موضعاً متدنياً وأثبتوا أنهم بلا أخلاق تماماً. لقد زرعوا الفتنة وحصدوا نتائجها في موقف السكان أجمعين سوى من اشتروهم. حتى الحاضنة الإجتماعية المفترضة بدأت تلفظهم وشركائهم في الجريمة وصانعيهم الكيزان ليسوا افضل منهم فقد مارسوا ممارساتهم منذ بداية فترة حكم نظام الإنقاذ.

الرئيس السوداني السابق ورئيس حزب المؤتمر الوطني عمر البشير يخاطب وحدة عسكرية في أبريل 2012. المصدر: AP/Abd Raouf


ينعكس موقف غالب جداً عند المواطنين متمثل في قبول عام لوجود الجيش كمؤسسة من مؤسسات الدولة بشرط الإصلاح الشامل، والرفض التام لقيادته الكيزانية الفاسدة والضعيفة والعاجزة مهنياً. يجب أن نتفق إن إعادة العسكر لثكناتهم وأي اتفاقات مع الدعم السريع -لعدم وجود منتصر في الحرب- وقضايا المؤسسية هي أكثر إشكالات مابعد الحرب.


ثاني و أكبر الإشكالات هي المرتبطة بالسكان. فقد تشتت شمل مدينة العشر ملايين: حيث اضطر المواطنين للفرار لدول الجوار والإغتراب والهجرة، في صورة لجوء غير مسبوق في تنوعه وحجمه وفي ظروف كارثية سيئة وبدون أي تجهيزات مسبقة. ألقى هذا النزوح الكبير بثقله على كافة نواحي الحياة من تعليم وصحة وزعزعة الهدوء النفسي والشعور بالأمن والإستقرار. الملمح الثاني من هذه الإشكالية كانت عودة ملايين السكان إلى مراقد أجدادهم في القرى والمدن السودانية التي كانت غير جاهزة بسبب ضغوط الدولة السودانية الكيزانية وإمتدادها وإنهيار أنظمتها التعليمية والصحية والإنتاجية وعلاقاتها الجوارية وفساد بنية الحكم. حيث دفع نظام الإنقاذ لمفاهيم الخلافات الإثنية والقبلية والعنصرية، وأيضاً إرتباط الدعم السريع الإثني بالقبائل العربية في جنوب دارفور وإمتداداتها في دول الغرب الأفريقي أدى إلى تعريض أواصر الصلات التاريخية القديمة بين هذه المجموعات وبقية سكان الوطن للخطر الشديد وتعالي مفاهيم الفرقة والضغائن بين المجموعات السكانية.


يفر الناس من الجزء الجنوبي من العاصمة السودانية مع استمرار معارك الشوارع بين قوات جنرالين سودانيين متنافسين. المصدر: إبراهيم حميد/وكالة الصحافة الفرنسية


وفيما يرتبط بالسكان، فإن الحرب كشفت بشكل مجهري عن أسوأ وأفضل السلوكيات المجتمعية. لقد بان بشكل واضح وجنوني هذه السلوكيات السيئة التي زرعها نظام الإنقاذ الكيزاني من السمسرة والأنانية وإستغلال المواقف. لقد بانت اللصوصية والسرقة وإنعدام الرجولة والأخلاق من الكيزان و الدعم السريع بشكل جلي. كما تعالت سلوكيات النجدة والرجولة والتضحية والنبل في غالب عموم السودانيين في جميع مهاجرهم ونزوحهم، كما بانت روح التعاضد والشهامة. ولم تكن هذه السلوكيات بمثل هذا الوضوح والنصاعة قبلاً، من الجانبين.


مسار الهلاك


الإشكالية الثالثة كانت سقوط أقنعة النخب المدنية ذات الإرتباطات الكولونيالية والإرتباطات الإقليمية والدولية منذ مابعد الإستعمار، والتي تربت داخل بعض الأحزاب الطائفية والعقائدية وتكوينات هلامية تتستر خلف منظمات المجتمع المدني. لقد استجابت بشكل لايصدق في التخلي عن سيادتها لصالح الكولونيالية الإقتصادية الممثلة في صندوق النقد الدولي و مظلة المنظمات الدولية وفقدان أي رؤية تستجيب لشعارات الثورة السودانية في التحرر وحصر "الحرية" في حرية التعبير "والعدالة" في عدالة العفو عن المجرمين ، أما "السلام" فقد كان أكثر تعاسة في تقاسم سلطة لا تملكها ووظائف خاوية وأموال.



الإشكالية الرابعة تجلت في قلة إشتغالنا بالجيوبوليتكس "الجيوسياسة" على كافة المستويات، وأرجعها لحصر النخبة في عقلية ومفاهيم مجلة "السودان في مدونات ورسائل" وهي مغرقة في المحلية لإحتياجات المستعمر. خلال الحرب لم يعد العالم الذي نعرفه هناك. أفرزت حروب أوكرانيا وغزة وإنقلابات الدول الأفريقية الغربية واقعاً مختلفاً تماماً. الهيمنة الغربية يتم تحطيمها تدريجياً من الصين والبريكس وتفرق دول أوربا وتضعضع الناتو والرفض الواسع من شعوب العالم لوجهة النظر الأمريكية والبريطانية.



توضيح لكيفية سرقة السياسيين والموظفين الحكوميين للفساد من مواطنيهم. المصدر: Quote Master


الإشكالية  في مجال الفكر السياسي للنخبة التي تناولناها قبلاً وعرفناها، مما يعرضها للمساومة والتخاذل وعدم الإستقواء بحواضنها الشعبية  وإعلاء المصالح الوطنية على المكاسب الفردية والحزبية. لقد أدى تجاهلنا للجيوبوليتيكا أنها افترست وطننا ممن لعبوا عليها وعزفوا سمفونياتها.



الإشكالية الخامسة و الأخيرة ترتبط بإمكانية تمكن بلادنا من إنجاز قضايا تنتمي للقرن السابق من إعادة بناء الدولة بكامل مؤسساتها، حل الأزمة الاقتصادية وسيطرة الدولة على الإمكانيات، والوصول لصيغة مناسبة من نظام الحكم المبني على سلطة الشعب وحياة حزبية برنامجية مستقرة، ونظام تعليمي تتم مراجعته لغرس السلوكيات الأخلاقية والوطنية والكفاءة وغيرها. إذا لم نستوعب هذا التغير في عوامل صياغة جيوبوليتيك بقية القرن الحالي عالمياً وإقليمياً ومحلياً وإستعدينا لها بشكل ملائم ولم نقرأ تاريخنا ونفهمه، ولا نكرر أخطائه، فسوف نجد أنفسنا  نكررها وندخل الزمن الجديد كما فعلنا من قبل. لقد تم صياغة برنامج إسعافي أثناء الثورة تضمن كل هذه المرتكزات، وسوف نحتاج لصياغتها بشكل أفضل عن طريق حوار مجتمعي عموده سلطة الشعب في مستوياتها المتعددة ( القاعدية، الولائية والمجلس التشريعي الإنتقالي).


حان  وقت الإستعداد


عددنا الإشكاليات الخمس التي من  المتوقع أن نواجهها  بعد الحرب على مستوى غاية في العمومية، لأن كل منها هي حزمة من المشكلات المركبة. ولأنها افتراضات فسأتناولها بمستوى التجريد المناظر. الإشكالات السكانية متشعبة ومركبة وفي حاجة لدراسات شاملة لتبينها والوصول لإستراتيجيات قصيرة الأمد وبعيدة، بإعتباره إعادة استكمال لبناء الأمة السودانية، والتي  كانت أصلاً تعاني من معضلات عدم الإكتمال. وسوف تكمن صعوبة حلها، خاصة في العاصمة والمدن المتضررة، لإختلاطها بقضايا خلق البيئة المناسبة الخدمية والإجتماعية والمعمارية وغيرها، وقضايا إعادة الترميم والتعويضات والدعم والمساندة للأسر والمجتمعات. وبما سوف تواجهه الدولة السودانية من عجز مالي وإنهيار إقتصادي وإنتاجي، لابد من الإنتباه للسعي لإعادة الأموال المسروقة والمنهوبة من الكيزان و الدعم السريع والجيش، كذلك التعويضات من الدول المتسببة في تدمير البنية التحتية بدعم قوات الدعم السريع .



(AP)اتُهمت قوات الدعم السريع السودانية بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. المصدر


أهم الإشكالات التي سوف تواجه سودان مابعد الحرب هو" إنهاء الدائرة الشريرة" والذي يمثلها شعار "العسكر للثكنات" وتوابعها من حل المليشيات سواء الكيزانية الرسمية من أجهزة أمن والتنظيمات  السرية وتنظيمات منتسبي المؤسسات العسكرية من الكيزان. كما سوف تواجه الإتفاقات التي سيتمخض عنها واقع عدم الإنتصار الكامل من إحتمالات محاولات إشراك  الدعم السريع في المشاركة السياسية، وكذلك المليشيات المتنوعة من الحركات المسلحة. معالجة هذه الإشكالية المعقدة تحتاج لحزمة قرارات وإجراءات.


تشمل الحزمة عودة القوات المسلحة لثكناتها كقوات محترفة ومهنية تلتزم بواجباتها المنصوص عليها في كل الدساتير كحامية للوطن والدفاع عن ترابه وحماية الدستور. يستلزم هذا مراجعة بنيتها ومنسوبيها من تراتبية وقوانين ولوائح وإعادة هيكلتها لتتحول لقوات محترفة وتحديثها لقوات متطورة تكنلوجياً وفعالة وذات كفاءة. 


تظهر الأرقام مليارات الدولارات المطلوبة لدعم خطة الإستجابة الإنسانية. المصدر: مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية.


تخيلات المستقبل


إشكالات النخبة الكولونيالية وفسادها وتخاذلها مستمرة معنا منذ ماقبل الإستعمار وفي أحشاء مرحلة التحرر الوطني. فاقمت من الإشكالية وصول هذه النخبة إلى السلطة دون مشروع وطني واضح المعالم ومتفق علية، وغياب الرؤية حول توجهاتنا القائمة على الديمقراطية والعدل الإجتماعي. التدخل الفظ من العسكر كان دائماً مايعمق الأزمة بدعوة من حزب من الأحزاب أو بموافقتها وتأييدها. لقد كانت هذه النخب السبب الأساسي في القبول بتقاسم السلطة مع العسكر واللجنة الأمنية، سوء إدارة شئون الحكم، التنازل عن السيادة ونشر الإنقسامات والتشظي في وسط الثوار وقطاعات الشعب السوداني.


الأحزاب ركن أساسي في الديمقراطية وهو حق مشروع لكل المواطنين ولا تنظمها القوانين العامة لحرية التعبير المضمنة في الدستور، واللوائح التي إرتضتها المجموعة المكونة. يجب أن يسرى الحظر على المؤتمر الوطني و توابعه ويمنع قيام أحزاب على أساس ديني أو عنصري ويمنع كذلك المال السياسي والتمويل الخارجي. 


ورغم أن دورها هو المشاركة مع الآخرين في الفترة الإنتقالية إلا أنها تشارك فيها بأعضائها الأكفاء وتحتاج لإصلاحات عميقة من البناء المؤسسي والبرامجي لإستعادة ثقة الشعب بعد أخطائها في الفترة الإنتقالية الأولى. على القوى المدنية الإتفاق على أن تتكون مستويات الحكم من المستقلين عن الأحزاب كتنظيمات ومشاركتها في أي مستوى بناءاً على كفاءة أفرادها والتفرغ في الفترة الإنتقالية لإعادة بناءها تنظيمياً وبرامجياً والمشاركة في القضايا الوطنية مثل الدستور والرؤية والبرنامج وغيرها. 


 الإطار العام لمعالجة القضية يجب أن يكون بالإستناد على تراث سوداني مترسخ وتراث عالمي لحل هذه المشكلات بعيداً عن العنف والإنتهاكات عن طريق العدالة الإنتقالية. لاتشمل هذه العملية حالات العنف الجنائي والجرائم الثابتة على مجموعات أو أفراد تم التقدم فيها ببلاغات محددة أو تم رصدها وتوثيقها. هذه الجرائم كلها منذ سقوط الشهيدة التاية أبو عاقلة وحتى آخر شهيد سيسقط تستوجب لجان تحقيق ويمكن الإستعانة بمفصولي الشرطة من ضباط وصف وجنود لهذه اللجان مع إضافة أعضاء ملائمين. سوف تستغرق هذه المحاسبات وقتاً ليس بالقليل لكنها ضرورية لإعادة تأسيس دولة سودانية معافاه وقائمة على سيادة القانون وحقوق المواطن، وأهمها جميعاً مبدأ عدم الإفلات من العقاب.


إن التماسك النسبي والتمسك بالقيم والمباديء والأخلاق ونبذ كل سلوكيات الإنحطاط الأخلاقي ورفضها المجتمعي، وتواجد قادة التغيير والذين انتصروا بثورتهم في كل المعارك الضارية، في أرجاء السودان  وتبادل التجارب المشتركة بين القادة والقواعد الثورية، كانت تحقيقاً عملياً  لما طرحته الثورة ونادت به "سلطة الشعب" . لقد تم تشكيل البنية التحتية لسلطة الشعب وتجسيدها للمجموعات السكانية والتجمعات المحلية وعلى مستوى المحليات من لجان المقاومة المنتشرة، ولجان التغيير والخدمات في المستويات الإدارية ولجان الطوارئ وغيرها، حتى لم يتبقى سوى أن تتكامل على مستوى الولايات وتكوين المجلس التشريعي الإنتقالي.


هذا التكوين السياسي المجتمعي الذي ينبع من القواعد الشعبية ويمثلها بشكل ديمقراطي، هو الماعون المتنوع والذي يضم كل قوس قزح التيارات المضطرمة في أحشاء الفضاء الوطني السوداني، وهو صمام الأمان في حل الإشكالية المتعلقة بالسكان وسوف لن ندخل في تفاصيلها التي تقوم على: حسن ادارة التنوع؛ حل إشكالات التمازج وتطوير الثقافات، سيادة مفهوم المواطنة وتجذيرها ونشر الفكر الديمقراطي في العمل السياسي والإعلامي والمناهجي وكلها خطوات إضافية مطلوبة. سيتم إستكشاف المزيد في الجزء الثاني من هذا المقال، بعنوان “الكتابة عن المستقبل في حاضر غائم: أولويات مهام ما بعد الحرب”.



عمرو عباس

د. عمرو عباس طبيب متقاعد ومستشار للصحة العامة. وكرس تقاعده للمشاركة في المناقشات عن الفكر الثقافي والسياسي، وتأليف المقالات والكتب والأوراق العلمية حول النقد السياسي السوداني، وتأسيس هوية ورؤية وطنية من بين موضوعات أخرى، والمشاركة في مبادرات البحث والتعليم والمشاركة بين الأجيال في السودان