هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

تحذير من المحتوى وإخلاء مسؤولية: المحتوى التالي يتناول تجارب شخصية وحساسة . ما يرد من آراء يعبرعن وجهة نظر الكاتب، ولا يعكس بالضرورة مواقف منصة أندريا. ندعوكم لقراءته بما ترونه مناسبًا. يمكنكم الاطلاع على إشعارنا التحريري الكامل هنا.


المقدمة


لقد تركت الحرب الدائرة في السودان منذ منتصف أبريل 2023، آثاراً نفسية عميقة ومدمّرة على الملايين من المدنيين. فالعنف المستمر، النزوح القسري، وفقدان الممتلكات والأحباء، كلها عوامل ساهمت في تفاقم الأزمات النفسية وظهور أمراض جديدة لم تكن منتشرة بهذا القدر من قبل. يشير خبراء الصحة النفسية إلى أن هذه الصدمات، في غياب التدخل المناسب وفي الوقت المناسب، قد تترك عواقب وخيمة على أجيال بأكملها.


تُعدّ الصراعات المسلحة والحروب من أبرز العوامل التي تؤثر سلباً على الصحة النفسية للأفراد والمجتمعات على حد سواء. ففي زمن الحرب، يتعرض الأشخاص لتحديات نفسية هائلة قد تؤدي إلى مشاكل صحية نفسية خطيرة، تتراوح بين القلق والاكتئاب إلى اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) والاضطرابات الذهنية. هذه الآثار لا تقتصر على الفترة الزمنية للحرب نفسها، بل يمكن أن تظهر وتستمر لسنوات طويلة بعد انتهائها.


صورة تعبر عن الدعم - المصدر: منظمة الصحة النفسية على فيسبوك


ازمة مؤسسات الصحة النفسية


كان نظام الصحة النفسية في السودان قبل الحرب هشاً. ووفقاً للخطة الوطنية للصحة النفسية في السودان، لم يكن هناك سوى 0.92 من العاملين في مجال الصحة النفسية لكل 100000 شخص وهي إحصائية مثيرة للقلق بالفعل لبلد يبلغ عدد سكانه 43 مليون نسمة. كان لدى السودان مستشفيان فقط للأمراض النفسية و12 وحدة مستشفى عام، مع 34 طبيباً نفسياً فقط على مستوى البلاد. كما تم توزيع خدمات الصحة النفسية بشكل غير متساوٍ، مما جعل الوصول إليها أكثر صعوبة بالنسبة لأولئك في المناطق الريفية أو المتضررة من النزاع. 


الآن، مع إغلاق جميع مستشفيات الأمراض النفسية البالغ عددها 12 مستشفى في الخرطوم والجزيرة وكسلا بسبب الحرب، أصبح الوصول إلى الرعاية شبه مستحيل. فر العديد من العاملين في مجال الصحة النفسية أو نزحوا، ولم يتبق سوى 79 معالجاً نفسياً في تسع ولايات. وقد أدى هذا النقص المدمر إلى نقص التشخيص ونقص العلاج والفشل التام في إعطاء الأولوية لاحتياجات الصحة النفسية في الاستجابة الإنسانية.


في 19 مايو 2023 تعرض مستشفى التجاني الماحي لعمليات نهب وتخريب ممنهجة من قبل قوات الدعم السريع مما أدى لتوقف عمل مسشفى الأمراض النفسية الاكثر شهرة . هذا الاعتداء آثار ردود فعل واسعة وأسفر لاحقاً عن صدور توجيه من والي الخرطوم في يونيو 2025 لاعادة تأهيل المستشفى و تشغيله ضمن خطط دعم المؤسسات المتضررة من الحرب. 


مستشفى التجاني الماحي للطب النفسي - المصدر: الحدث 

تصاعد حالات الأمراض النفسية


كشفت تقارير حديثة عن ارتفاع مذهل في نسبة الإصابة بالأمراض النفسية في السودان منذ بدء الحرب. وفقاً لمديرة إدارة الصحة النفسية بولاية الجزيرة، سجلت الولاية أربع حالات انتحار وحالتي شروع في الانتحار في مراكز الإيواء، خاصة بين النازحين من الخرطوم. وفي ولاية البحر الأحمر، سُجلت حالة انتحار واحدة، وارتفعت نسبة تعاطي المخدرات بشكل ملحوظ بين النازحين والشباب (الفئة العمرية من 15 إلى 25 عاماً) في مراكز الإيواء.


تظهر الإحصائيات أن نسبة الإصابة بمرض الفصام ارتفعت بنسبة 67.5%، والاكتئاب بنسبة 86%، والإدمان بنسبة 33.5%، والقلق بنسبة 37%، واضطراب ثنائي القطب بنسبة 6.5%، والاضطرابات العقلية بنسبة 7%، والوسواس القهري بنسبة 1%، والصرع بنسبة 9%، واضطرابات تعاطي المخدرات بنسبة 5%، وذلك في الفترة من منتصف أبريل 2023 حتى يوليو 2024. هذا الارتفاع يشير إلى حجم الكارثة النفسية التي يعيشها السودان.



تأثير الصدمات المباشرة: العنف والاغتصاب


في لقاء مع أخصائية علم النفس السريري، هدى هاشم، أشارت إلى أن الصدمات المباشرة مثل التعرض للقصف، الإصابات الخطيرة، والعنف الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب، تعتبر أسباباً رئيسية لاضطرابات الصحة العقلية الحادة. وقد وثقت منظمات دولية مدافعة عن حقوق النساء عمليات اغتصاب منهجية واختطاف وإخفاء قسري للفتيات، مما وضع عائلاتهن تحت ضغوط نفسية يصعب تحملها. وأن هذه التجارب المؤلمة تؤدي إلى اضطرابات مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) الذي يتميز بذكريات متكررة وملحة للحدث المأساوي، وكوابيس، وشعور قوي بالمعاودة، وقلق شديد عند تذكر الحدث.


الرجال أيضاً تعرضوا لمعاملات مهينة عند حواجز المسلحين أو داخل منازلهم، مما ولد لديهم رغبة عارمة في الانتقام، وهو ما يعكس الأثر النفسي المدمر لهذه الانتهاكات.


صورة تدل على اضراب ما بعد الصدمة – المصدر: الذكاء الاصطناعي 


الصحة النفسية لدى الاطفال 


تقول هدى أن الأطفال من أشد الفئات تضرراً من النزاعات المسلحة، فهم يواجهون صدمات نفسية عميقة تتجاوز فهمهم وقدرتهم على التحمل. مشاهدة العنف، فقدان الأهل والأصدقاء، النزوح المفاجئ، والحرمان من بيئتهم الآمنة، كلها عوامل تُساهم في تدهور صحتهم النفسية بشكل كبير. ملايين الأطفال في السودان فقدوا منازلهم، وانقلبت حياتهم رأساً على عقب، مع مستقبل غامض ومهدد.


تظهر الصدمات النفسية لدى الأطفال في صور متعددة، تتراوح بين اضطراب ما بعد الصدمة والكوابيس المتكررة، إلى صعوبات في التركيز والتعلم. يعيش العديد منهم في حالة من القلق والخوف الدائم، مما يؤثر على قدرتهم على النوم والشعور بالأمان. وقد يُظهر بعض الأطفال سلوكيات عدوانية، بينما ينطوي آخرون على أنفسهم ويُحجمون عن اللعب أو التفاعل الاجتماعي، وهي علامات تُنذر بآثار طويلة الأمد على نموهم النفسي والاجتماعي إذا لم يتم التدخل.


يُشكل تعطل التعليم أحد أكبر التحديات التي تواجه أطفال السودان. ملايين الأطفال خرجوا من المدارس، مما يُعرضهم لمخاطر إضافية مثل الاستغلال، العنف القائم على النوع الاجتماعي، الزواج المبكر، عمالة الأطفال، وحتى التجنيد في الجماعات المسلحة. هذا الانقطاع عن التعليم لا يُفاقم فقط من معاناتهم النفسية، بل يُهدد مستقبل جيل بأكمله ويُعيق قدرتهم على بناء حياة أفضل لأنفسهم ومجتمعاتهم.


في خضم الأزمات، يبرز التعليم كأداة حماية أساسية وكمصدر للأمل والتعافي. توفير بيئة تعليمية آمنة وداعمة يُمكن أن يُحدث فرقاً هائلاً في حياة الأطفال المتضررين من الحرب. فعندما تُتاح لهم الفرصة للعودة إلى المدارس، يُمكنهم استعادة شعورهم بالروتين الطبيعي، والتفاعل مع أقرانهم، واكتساب المهارات التي تُمكنهم من التعامل مع تحديات الحياة.


تُقدم المدارس بيئة منظمة و روتيناً يومياً يُساعد الأطفال على استعادة شعورهم بالحياة الطبيعية والحد من القلق والاضطراب. هذا الروتين يُشعر الأطفال بالأمان والاستقرار، وهما عنصران أساسيان في بيئة يسيطر عليها الفوضى وعدم اليقين. كما أن وجود معلمين ومرشدين نفسيين مُدربين داخل المدارس يُمكن أن يُوفر الدعم النفسي الأولي ويكتشف الحالات التي تحتاج إلى تدخل متخصص.


يُوفر التعليم فرصاً حيوية للأطفال للتفاعل مع أقرانهم، مما يُقلل من شعورهم بالعزلة ويُعزز من قدرتهم على التعافي الاجتماعي. كما أن اكتساب المعرفة والمهارات يُمكن أن يُمنحهم إحساساً بالتحكم في مستقبلهم ويُعزز من آليات التأقلم الصحية لديهم. هذه العوامل تُسهم بشكل كبير في بناء المرونة النفسية التي تُمكنهم من تجاوز التحديات الحالية وبناء مستقبل أفضل.


التعليم يساعد على تحسين الصحة النفسية للطفل – المصدر: أحمد يعقوب


قصة عثمان


عثمان الذي يبلغ من العمر 12 عام - والذي كنت أعرفه منذ أن كنت في السنة الرابعة بالجامعة - هو طفل مصاب باضطراب طيف التوحد وكان يعيش في منطقة الجرافة بأم درمان، حيث كان يحصل على دعم نفسي وسلوكي محدود قبل الحرب من خلال جلسات فردية في أحد المراكز المجتمعية. لكن بعد اندلاع الحرب، توقفت هذه الخدمات تماماً، واضطرت أسرته للنزوح تحت وطأة القصف المتواصل، مما أدى إلى تدهور حالته النفسية والسلوكية بشكل حاد.


 أصبح عثمان يعاني من نوبات غضب متكررة، وانعزال تام عن محيطه، وفقد القدرة على التعبير عن احتياجاته كما كان يفعل سابقاً. هذه الحالة تعكس بوضوح كيف أن غياب الرعاية المتخصصة أثناء الأزمات يعمق معاناة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، الذين غالباً ما يُنسَون في خطط الاستجابة الإنسانية رغم أنهم من أكثر الفئات احتياجاً للرعاية المستمرة والدعم النفسي المتخصص.


قصة حسن


حسن (اسم مستعار) الذي كان يملك محلاً للإلكترونيات في شارع الحرية بالخرطوم، إلى جانب منزله في الخرطوم بحري. مع بداية الحرب، نُهب محله التجاري و سرق منزله و احرق، لكنه حاول النهوض من جديد، فانتقل إلى ولاية الجزيرة وافتتح مشروعا صغيرا بما تبقى له من مال. لم يدم الأمل طويلاً، إذ تعرّض محله للسرقة مجدداً بعد دخول قوات الدعم السريع للمنطقة. هذه الخسارة المتكررة أثّرت عليه نفسياً بشدة، فأُصيب بصدمة نفسية حادة وتوفي بعدها بفترة قصيرة. 


رجل يقف على ركام منزله وتبدو عليه الصدمة - المصدر: الجزيرة

 

قصة أنوار 


أنوار (اسم مستعار) فتاة مراهقة من الخرطوم بحري، كانت ضحية لاغتصاب ارتكبه أفراد من قوات الدعم السريع في الاشهر الأولى للحرب. كانت انوار عائدة للمنزل بعد ان ذهبت للسوق لكن تبعها فردان من الدعم السريع إلى منزلها و داهموا المنزل وقاموا بالإعتداء عليها وتهديد والدتها بقتل ابنها الصغير. هذه الجريمة لم تتوقف عند حدود العنف الجسدي، بل امتدت إلى آثار نفسية شديدة ورفض اجتماعي من أقرب الناس إليها.


تقول أنوار أنها لم تتلقى اي دعم طبي وانها بعد فترة قصيرة من الحادثة لاحظت تغييراً في تعامل أسرتها معها حيث لم تتقبل اسرتها في البداية ما حدث، بل تعاملت معه على أنه فضيحة تمس شرف العائلة، ما أدى إلى عزلة أنوار وتفاقم شعورها بالذنب والعار، رغم أنها الضحية.


تمكّنت من بدء جلسات دعم نفسي لأنوار وأسرتها، كان هدفها الأساسي إعادة تعريف مفاهيم مغلوطة حول الشرف والإعتداء الجنسي، وبناء أرضية من الفهم والتقبل داخل العائلة وتجاوز الصدمة التي مرت بها، وقد استجابت للعلاج في غضون شهرين.


أنواع الدعم النفسي المقدم


يتنوع الدعم النفسي المقدم في السودان ليشمل عدة جوانب حيوية لمواجهة الأزمة الراهنة. يمكن تقسيم هذه الجهود إلى مستويات مختلفة تهدف إلى تقديم الرعاية الفورية وطويلة الأمد للمتضررين.


الإسعافات النفسية الأولية


اشارت هدى هاشم إلى ان الإسعافات النفسية الأولية تُعد حيوية فور وقوع الحدث الصادم. تهدف هذه الإجراءات إلى توفير بيئة آمنة للطفل أو الناجي، وتقديم المساندة والرعاية الذاتية. هذا يشمل توفير مكان آمن بعيداً عن مشاهد الدمار، واحتضان الطفل لتزويده بالأمان والمحبة، وبناء علاقة قائمة على الثقة والاحترام. هذه الخطوات الأولية تساعد الطفل على استعادة وعيه بذاته وتملكها تدريجياً، وحمايته من آثار صدمة الإيذاء.


العلاج النفسي المتخصص


بالنسبة للحالات التي تعاني من أعراض حادة وواضحة لأمراض نفسية، يتم تقديم العلاج النفسي المتخصص. يشمل ذلك جلسات علاجية فردية أو جماعية لمساعدة اللاجئين والنازحين على التعبير عن مشاعرهم ومعالجة الصدمات التي مروا بها. تستهدف هذه الجلسات اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق الشديد.


التوعية النفسية


تعتبر التوعية النفسية ركيزة أساسية في التعامل مع آثار الحرب. تهدف إلى تثقيف الأفراد حول الصحة النفسية وتقديم المعلومات حول كيفية التعامل مع التحديات النفسية التي قد يمر بها الفرد في فترة الحرب. يجب أن تقدم هذه التوعية بصورة مستمرة في معسكرات النازحين وأماكن تجمعهم، لتمكين الأفراد من التعرف على الأعراض وطلب المساعدة.


الدعم النفسي الاجتماعي

إن الكارثة الإنسانية في السودان، بما في ذلك الأزمة النفسية، تتطلب استجابة دولية عاجلة ومتكاملة. الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية تحث على اتخاذ إجراءات عالمية لحماية ودعم المدنيين المتضررين من الحرب.


يساهم الدعم النفسي الاجتماعي في التخفيف من المخاطر والعواقب المباشرة وطويلة الأجل على الصحة العقلية والرفاهية النفسية والاجتماعية للأفراد والأسر والمجتمعات. ويشمل ذلك الأنشطة الترفيهية والتعزيز المجتمعي التي تساعد على إعادة بناء الروابط الاجتماعية والتخفيف من مشاعر العزلة والخوف.


المبادرات الإنسانية


في ظل الانهيار شبه الكامل للنظام الصحي في السودان، تبرز المبادرات الإنسانية كضوء في نفق هذه الحرب المظلم، حيث تسعى جاهدة لتقديم المساعدات الغذائية والطبية والنفسية للمتضررين، مع التركيز على تعزيز الاستقرار في المناطق المنكوبة وتوفير بيئة آمنة للنازحين والمجتمعات المتأثرة. تعتمد شبكات الدعم الشعبي والمبادرات المحلية على تقليد عريق من التضامن والمساعدة المتبادلة، وهي تلعب اليوم دوراً محورياً في التخفيف من آثار الكارثة النفسية والإنسانية التي خلفتها الحرب


من بين هذه المبادرات، نجد "طمنونا" التي تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتقديم محتوى داعم للصحة النفسية، وغرف الطوارئ التي ظهرت كاستجابة مجتمعية تقدم خدمات إسعافية طبية ونفسية وغذائية. بالإضافة إلى مبادرة "الاستشفاء بالفنون" التي توفر جلسات علاج نفسي جماعي وأنشطة فنية للأطفال والفتيات المتأثرات بالصدمات. كما ساهم "مركز الأحفاد للصدمات النفسية" في جامعة الأحفاد في تقديم استشارات نفسية مجانية وتدريب طلابه على تقديم الإسعاف النفسي الأولي عبر الهاتف. أما "منصة السودان للسلام"، التي تأسست في مايو 2023، فتضم 47 شبكة ومبادرة نسوية، وتعمل على دعم المجتمعات المنكوبة نفسياً ومجتمعياً، مع التركيز على النساء في مناطق النزاع. 


من ناحية أخرى، شاركت منظمات دولية في سد هذا الفراغ الكبير، إذ أطلقت منظمة الصحة العالمية حملات استجابة للصحة النفسية، وأكدت على الارتفاع الحاد في حالات الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة خاصة بين الأطفال والنساء، مطالبة بدعم دولي عاجل للقطاع النفسي في السودان. كما تعاونت منظمة Project HOPE مع نظيرتها السودانية "ندى" لتدريب أكثر من 1,200 من العاملين الصحيين و14,000 فرد من المجتمع المحلي على الإسعاف النفسي، إلى جانب توفير جلسات دعم نفسي مباشر وعن بُعد. 


وقد لعبت اليونيسف كذلك دوراً مهماً، إذ وفرت الدعم النفسي والاجتماعي لأكثر من 250,000 طفل عبر إنشاء أكثر من 850 مساحة آمنة صديقة للطفل حتى مطلع عام 2024، مؤكدة أن الدعم النفسي للأطفال النازحين بات ضرورة قصوى مع طول أمد الحرب وتعاظم الصدمات.


عيادات الارشاد و الدعم النفسي في ولاية الجزيرة – المصدر: شبكة الجزيرة 


الخاتمة

يعاني السودان من نقص حاد في خدمات رعاية الصحة النفسية حتى قبل اندلاع الحرب في أبريل 2023، حيث كان النظام الصحي هشّاً ومحدود الموارد، إذ لم يتجاوز عدد الكوادر الصحية النفسية الرسمية في البلاد 60 طبيباً نفسياً، بمعدل طبيب واحد لكل أكثر من 2.5 مليون شخص، مقارنة بالمعدل العالمي البالغ 25 طبيباً لكل 100 ألف نسمة، وهو ما يُعدّ فارقاً كبيراً يعكس حجم العجز الهيكلي في هذا القطاع الحيوي. 


ومع تصاعد النزاع، تفاقمت الأزمة بشكل غير مسبوق، حيث خرجت أكثر من 67% من مستشفيات البلاد عن الخدمة نتيجة القصف والاشتباكات المباشرة، ووصلت النسبة في العاصمة الخرطوم إلى 58.5% وفي ولاية الجزيرة إلى 56.2%، ما أدى إلى انهيار شبه كامل لخدمات الرعاية الصحية النفسية والطبية بشكل عام. هذا بالإضافة إلى نزوح واختفاء عدد كبير من الأطباء والأخصائيين النفسيين إما إلى ولايات أخرى أكثر أماناً أو إلى خارج البلاد، مما أدى إلى فراغ كبير في الكوادر الطبية المؤهلة. كما أن ضعف التمويل وصعوبة الاتصال والتواصل في مناطق النزاع، وانقطاع سلاسل الإمداد، كلها عوامل ساهمت في صعوبة تقديم الرعاية النفسية لملايين المواطنين المتضررين، خاصة الفئات الأكثر هشاشة مثل النساء والأطفال وكبار السن. 


هذه المعطيات تضع السودان في صدارة الدول التي تعاني من فجوة كبيرة بين الحاجة الفعلية للخدمات النفسية والقدرة على توفيرها، في ظل كارثة إنسانية مركبة تحتاج إلى تدخلات عاجلة ومستدامة على المستويين المحلي والدولي.


تُعد الأزمة النفسية في السودان نتيجة مباشرة وخطيرة للحرب المستمرة، وتتطلب استجابة فورية ومستدامة. إن الآثار المدمرة على الصحة النفسية للملايين، وخاصة الفئات الأكثر ضعفاً مثل الأطفال والنساء، تتطلب تضافر الجهود المحلية والدولية. المبادرات الإنسانية على الأرض، رغم التحديات الهائلة، تقدم بصيص أمل في ظل هذه الظروف القاسية. ومع ذلك، لا يمكن تحقيق التعافي الكامل دون وقف الصراع، وتوفير التمويل الكافي، وإعادة بناء البنية التحتية الصحية، ودمج خدمات الصحة النفسية في جميع برامج الإغاثة والتنمية. إن الاهتمام بالصحة النفسية ليس مجرد رفاهية، بل هو ضرورة حتمية لضمان مستقبل أفضل لأجيال السودان القادمة.


سهى عبدالرحمن،

سهى عبد الرحمن، خريجة علم النفس من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا ومرشدة نفسية مستقلة، مهتمة بالقضايا الإنسانية والاجتماعية. تسعى من خلال كتاباتها وتساؤلاتها إلى تسليط الضوء على أبعاد التجربة الإنسانية في سياقات الحرب والتغيير والثقافة، مؤمنة بأهمية الوعي النفسي كركيزة لبناء مجتمع أكثر تماسكًا ورحمة.