مقدمة
لطالما حاول الشباب السوداني مقاومة الجهل والتخلّف الذي شهدته بلادنا منذ زمن طويل. كان الشباب عصب حياة السودان، فعند إلقاء نظرة على المبادرات التي تهدف إلى مساعدة المواطن السوداني وتوفير الأساسيات التي كان من المفترض أن توفّرها الدولة، مثل الصحة والتعليم ومساعدة الفقراء ودعمهم، نجدهم دائماً في المقدمة.
كنتُ دائماً أرى منشوراتها على صفحتها في فيسبوك، التي تشير إلى الحاجة المستمرة لمتطوّعين لمساعدة الطلاب في مركز "الشعب المعلّم" في إصلاحية الجريف. كانت هذه المنشورات تعكس الجهود المبذولة للبحث عن دعم من المجتمع. في بعض المنشورات، رأيتها تشجّع الناس على الانضمام إلى مبادرة "اضرب واهرب"، وهي مبادرة ضمن مشروع الصيانة المجتمعية من حركة "تعليم بلا حدود"، حيث يسعى المتطوّعون إلى تحسين البنية التحتية للمدارس وجعلها أكثر دعماً لتطوير التلاميذ.
متطوعون في مبادرة "أضرب واهرب" يطلون مسرح لاحد المدارس بالخرطوم المصدر: صفحة تعليم بلا حدود (اضرب واهرب) على الفيس بوك
لم أسمع عنها منذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل، ولكن تذكّرتها عندما رأيت إحدى منشوراتها على صفحتها على فيسبوك، وهي جالسة في أحد مراكز "الشعب المعلّم" في إحدى ولايات السودان التي لم تتأثر بالحرب، حيث كانت نشطة في رسالتها وتشارك في مراكز محو الأمية هناك. ففكّرت في أن أسألها وأُجري معها مقابلة لأعرف المزيد عن رحلتها، وأن أُسلّط الضوء على قصتها وكيف بدأ كل شيء.
سارة وهي في إجتماع فريق الشعب المعلم دنقلا. المصدر: صفحة الشعب المعلم على الفيس بوك
أندريا: حدثيني عن "تعليم بلا حدود" وكيف نشأت؟
سارة: "تعليم بلا حدود" ليست مبادرة أو منظمة مسجلة، هي حركة تغيير اجتماعي تهدف إلى تطوير التعليم والبيئة التعليمية في كافة أنحاء السودان عبر تفعيل المجتمع والتفاعل معه من خلال مشاريع "تعليم بلا حدود" المختلفة، لتخلف وراءها مجتمعاً مؤمناً بأهمية التعليم باعتباره قضية ملحة، وقادراً على أن يتحرك بمفرده بتدوير الموارد المتاحة لديه وتطويرها.
تعمل حركة "تعليم بلا حدود" على توعية المجتمع بوجود المشكلة المعينة في التعليم وطرح حلول بسيطة وسهلة التنفيذ. الغرض الأساسي في كل مشاريعها ليس تنفيذ المشروع فقط، بل خلق مجتمعات مؤمنة بأهمية التعليم، مستقلة في ابتكار حلول لمشاكلها وتنفيذها.
مركز الشعب المعلم (1) الخرطوم بري المصدر: صفحة الشعب المعلم على الفيس بوك
نشأت "تعليم بلا حدود" عام ٢٠١١ عن طريق طالبين من جامعة الخرطوم بحملة لجمع الكتاب المدرسي وإعادة تدويره تحت شعار (كتابك القديم كتابي الجديد)، وتوجيه حملات جمع الكتب المدرسية للمناطق ذات الحاجة، ليصبح أول مشروع لـ "تعليم بلا حدود"، التي تضم ثمانية مشاريع تستهدف قضايا ومشاكل معينة في التعليم في السودان:
- اضرب واهرب - البيئة المدرسية
- إصلاحية الجريف - التبني الأكاديمي للأطفال الأحداث
- مكتبتنا - مكتبة استلاف مجانية
- نادي القراءة - يهدف إلى التشجيع على القراءة
- سينما كتاب
- Cool School - الأنشطة اللاصفية
- مشروع الشعب المعلم - محو الأمية وتعليم الكبار
- حملة جمع الكتاب المدرسي
بالإضافة إلى فعالية يوم القراءة العالمي التي تُقام في ٢٣ أبريل للتشجيع على القراءة وإحياء ذكرى الكتاب وتسليط الضوء عليهم.
أندريا: كم عدد مراكز "مشروع الشعب المُعلِّم"؟
سارة: تم افتتاح ٢٢ مركز لمحو الأمية وتعليم الكبار في ٩ ولايات في السودان ( الخرطوم - شمال دارفور - جنوب دارفور - نهر النيل - جنوب كردفان - البحر الأحمر - الجزيرة - النيل الأزرق - الشمالية ) لعام 2025، وقد توقف بعضها عن العمل بسبب الحرب والأوضاع الأمنية وتداعيتها .
من ورشة لإعداد الميسرين لتدريس مناهج محو الأمية وتعليم الكبار لمنطقة مايو في مباني جامعة الخرطوم - الانمائية. المصدر: سارة ياسين
أندريا: وكيف دخلتِ وأصبحتِ جزءاً من حركة محو الأمية في مراكز "الشعب المعلم"؟
سارة: تطوعت في حركة التغيير الاجتماعي "تعليم بلا حدود" أواخر عام ٢٠١٥ عبر بوست في منصة التواصل الاجتماعي فيسبوك لمشروع إصلاحية الجريف. أتيحت لي الفرصة للتعرف على الحياة بطريقة جديدة وجمال تنوع المجتمعات السودانية.
كانت الأمية التي كانت متفشية بين الأطفال واليافعين الأحداث في إصلاحية الجريف دائماً محط اهتمام وتأمل ودهشة بالنسبة لي. كيف أن الحصول على التعليم والخدمات العامة في بلدي السودان هو مجرد حظ؟ أصبحت حينها قضية الأمية تستحوذ على جل اهتمامي وأولوياتي. تعرفت خلالها على مناهج محو الأمية وتعليم الكبار بصورة واسعة، أيضاً الفضل يعود لأستاذي القدير أ. الأمين أبو كيس، مدير إدارة التدريب في المجلس القومي لمحو الأمية وتعليم الكبار، الذي آمن بما نقوم به وكان قدوة ومنارة لي طوال الطريق وإلى الآن. لذلك، كان مشروع "الشعب المعلم" هو حلم ومكان طالما تمنيت الانتماء إليه.
سارة برفقة استاذ الأمين ابو كيس مدير إدارة التدريب في المجلس القومي لمحو الأمية وتعليم الكبار سابقاً. المصدر: سارة ياسين
صورة العم صالح بانقا الذي احرز اعلي مجموع 217 في امتحان الشهادة السودانية للاساس 2021-2022 علي مستوي القطاع في الخرطوم والأول في مركز الشعب المعلم (1) الحكومي وتم تكريمه من قبل وزاره التربية التعليم
أندريا: كيف واصلتِ جهودك في المدينة التي نزحتِ إليها؟ وهل كانت التجربة مختلفة عن مركز "الشعب المعلم" في بري الخرطوم؟
سارة: الحرب الدائرة الآن هي من أسوأ الأحداث التي مرت على السودان، وهي في المقام الأول نتاج لجهل طويل الأمد وممنهج. وفي رأيي الشخصي، الحرب لم تكن صدفة بل حدثاً متوقعاً يمكن التنبؤ به، كانت مسألة زمن فقط.
الرحمة والمغفرة لكل الشهداء، ودعواتنا بالشفاء العاجل لكل الجرحى والمصابين، والمفقودين، وجبر الله خاطر كل المتضررين من ويلات الحرب. بالرغم من الضرر البليغ الذي أصاب السودان، إلا أن الحرب سلطت الضوء بوضوح على المشاكل في السودان ومدى عمقها، مثل مركزية الخدمات في العاصمة، إهمال تطوير الولايات في السودان، وتكديس الخبرات في العاصمة. إلا أن هذه الحرب حملت بين طياتها آمالاً جديدة وحلولاً كثيرة يحملها أبناء السودان.
نأمل أن تنخمد نيران هذه الحرب قريباً للعمل على بناء سودان يرتقي إلى حبنا له. وجد في النزوح أغلب المتطوعين إلى مناطق السودان المختلفة فائدة كبيرة، لطالما حلمنا بها. حيث يحمل كل متطوع داخله تلك البذرة التي يحملها ليزرعها أينما أنبته الله، وقد كان ذلك. لذلك، كنت محظوظة جداً بأن أتيحت لي فرصة لأصبح من هؤلاء المتطوعين الذين يحاربون الحرب بالتعليم.
في إطار التحضيرات لافتتاح مركز الشعب المعلم (٥) - مركز الأستاذة زينب عثمان لمحو الأمية وتعليم الكبار في عطبرة، وهو أول مركز يتم افتتاحه خلال فترة الحرب. المصدر: سارة ياسين
فلقد بدأ المشروع في العمل بعد شهور من الحرب في ولاية نهر النيل في مدينتي شندي وعطبرة، حيث تم افتتاح أول مركز لمحو الأمية وتعليم الكبار أثناء الحرب، مركز "الشعب المعلم (٥)" الحكومي لتعليم الكبار والتعليم الموازي في عطبرة حي الموردة. تلاه افتتاح ٣ مراكز لمحو الأمية وتعليم الكبار في محلية شندي، ليمتد إنشاء المراكز إلى كافة أنحاء السودان في الولايات المختلفة بجهد جبار من بنات وأبناء ولاية نهر النيل.
الشعب المعلم شندي
تضيف سارة: "السودان متميز ومتفرد بأنه بلد متعدد الثقافات، جميل من جنوبه الذي لم ينفصل عنّا إلا سياسيًا إلى الشمال، الغرب والشرق. اختلافنا في اللهجات، بل في اللغات أحيانًا، في الموسيقى، الألحان والغناء، الأزياء، العادات والتقاليد، والملامح، هو وجه جميل؛ كلما تأملت ركنًا من أركانه تمنيت ألا تتركه. لذلك، كل مجتمع وكل منطقة لها خصوصيتها واحتياجاتها ومتطلباتها الخاصة لإنشاء المشروع فيها، وكما قال أحد الأصدقاء مقتبسًا: "إن المجتمعات لا تستطيع أن تتطور بعيدًا عن ثقافتها".
مركز الشعب المعلم (6) الحكومي لمحو الأمية وتعليم - دار الرحمن الفاشر
أندريا: لماذا لا تزالين تؤمنين بهذا؟ وما هي أهمية وتأثير ما تفعلينه؟
سارة: لدي تجربة شخصية لها دور كبير جدًا في دافعي للعمل في قضية محو الأمية وتعليم الكبار.
فلقد انقطعت عن الدراسة في كلية الطب والجراحة لعدة سنوات، وتمكنت مني مشاعر مختلفة في تلك الفترة، وفتحت لي أبوابًا لأسئلة عدة:
من أنا؟ ماذا لو لم أكمل دراستي، هل أُعدّ فاشلة؟
هل أنا ذات قيمة؟ ما الهدف من وجودي في الحياة؟
أحسست بالنقص وعدم الثقة بالنفس، وبالفشل. كنت أعتقد حقًا أن قيمة نفسي مربوطة بإكمال التعليم، وهو مفهوم خاطئ تمامًا لفهم الذات. أصف دائمًا ما كنت عليه بـ"القاع". أحد الأسباب التي انتشلتني من ذلك القاع هو العمل الطوعي، وخاصة في مجال التعليم. أكملت لتوي دراسة طب وجراحة الأسنان، وأعمل على نيل درجة البكالوريوس في إدارة الأعمال. فأنا الآن مدينة للعمل الطوعي، ولتجربتي في "تعليم بلا حدود" خاصة، فلقد تمكنت أخيرًا من الإجابة على جميع الأسئلة أعلاه. أنا الآن أعي تمامًا ما قد يمر به من لم يتلقَّ تعليمه أو انقطع عنه، فأصبح لدي دافع كبير إضافي لأن أساعد كل إنسان يمر بالظروف نفسها التي مررت بها. إضافة إلى ذلك، أنا أعشق السودان وأرى أن خلاص كل مشاكله يكمن في التعليم. لدي صديقة دائمًا ما تردد: (لستَ مهزومًا ما دمتَ تقاوم)، وهذه هي طريقتي للمقاومة.
مركز الشعب المعلم (9) - الدمازين
أندريا: ما هي الجهود التي تقومون بها الآن، وكيف أثرت الحرب عليها؟
سارة: الآن، تحت شعار "بادر بإنشاء مركز لمحو الأمية وتعليم الكبار في منطقتك"، تم افتتاح 22 مركزاً لمحو الأمية وتعليم الكبار وقد توقف بعضها عن العمل لظروف الحرب، وبعض المراكز ما زالت قيد الإنشاء. نأمل أن تعم الفكرة كافة أنحاء السودان. الحرب لها أثر كبير على العمل الطوعي عامة، والمتطوعون يعملون في ظروف أمنية واقتصادية ونفسية قاهرة، لكن إيمانهم بالقضية كان أكبر.
احتفاء بانتقال أكبر الدارسين، العم عبد الحميد، الذي جلس لامتحان الشهادة السودانية للصف السادس الابتدائي، إلى المرحلة المتوسطة. المصدر: سارة ياسين
أندريا: ما هي تصوراتك للتعليم بعد الحرب؟
سارة: في سوداننا الجديد الجميل القادم قريباً، أتمنى أن يكون للتعليم الأولوية، اعتماد مجانية التعليم، ووضع قوانين واضحة وصارمة تجاه إلزام الأسر بالتعليم الابتدائي لأطفالهم، وتخصيص ميزانية جيدة لقطاع التعليم، لتحسين البيئة المدرسية وتجويد المناهج بطريقة تلائم اختلافنا وثقافاتنا المتعددة، ولتواكب التطورات من حولنا، وأيضاً توفير الكتاب المدرسي وتدريب للمعلمين ليساعدوا على تنشئة أجيال معافاة سليمة قادرة على قيادة السودان إلى مقدمة الدول. كلي أمل أن يكون لدينا سودان متعافٍ وخالٍ من الأمية.
خاتمة
كانت ترى سارة تأثير التعليم في كل دارس/ة على نطاق حياتهم الشخصية والعملية والاجتماعية، شهدت من استطاع القراءة والكتابة، من استعاد ثقته بنفسه واستطاع أن يتزوج محبوبته بعد أن نال شهادة الأساس، والذي دخل الجامعة وتخرج منها وتعيّن في وظيفة داخل جامعته مستطيعاً إعالة أسرته، من تحقق لها الحلم بقراءة القرآن الكريم، ومن استطاعت أن تُلهم غيرها. ومن أكثر التجارب قوة في تأثيرها عليها، شاركت سارة إقدام أحد الطلاب الممتحنين في الصف الثالث ثانوي في مركز الشعب المعلم (1) تبنّي فكرة مشروع الشعب المعلم، واستطاع أن يُنشئ أربعة مراكز لمحو الأمية وتعليم الكبار في منطقته لتخدم ما يقارب الـ 300 مستفيد.
مركز الشعب المعلم (1) الخرطوم - بري احتفال نجاح طلاب الدفعة الأولى في المركز بعد نجاحهم في امتحان الشهادة السودانية للاساس عام 2022-2021
التعليم الجيد هو الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة، ويعاني السودان إلى الآن من آثار الأمية والتأخير في حلها، خلّفت وراءها مجتمعاً هشاً يعاني من العنف، الجهل، البطالة، العنصرية، ومشاكل لا تُعد ولا تُحصى في ظل حرب تفاقم الأزمات.