على الرغم من أن السودان يمتلك مجموعة متنوعة من الموارد التي يمكن استثمارها للتخفيف من أزمة انقطاع الكهرباء المستمر، خصوصاً خلال فصل الصيف نتيجة ارتفاع معدلات الاستهلاك وزيادة الضغط على الشبكة، إلا أن الاعتماد الرئيس ظل مقتصراً على الطاقة الكهرومائية والوقود الأحفوري (محطات حرارية تعتمد على الوقود)، بجانب النمو الملحوظ في السنوات الأخيرة في استخدام الطاقة الشمسية كمصدر إضافي للطاقة، رغم امتلاك السودان موارد طبيعية متعددة مثل الطاقة الشمسية، المائية، والرياح.
في الجزء الأول من المقال، سيتم تطبيق منهج البرهان بالتناقض كأداة تحليلية لتقديم إجابة منطقية حول إمكانية توفير كهرباء مستقرة في السودان؛ يتطلب ذلك تقييم المعطيات والفرضيات الحالية ودراسة العوامل المؤثرة على تحقيق هذا الهدف. أما في الجزء الثاني، فسوف نناقش التحديات التي يواجهها المواطنون نتيجة لانقطاع الكهرباء المستمر على مدى عامين، وهو وضع نتج عن الحرب والضرر المنهجي الذي لحق بالبنية التحتية الخاصة بالكهرباء، مما أدى إلى تفاقم معاناة الأفراد وتأثيرات ذلك على الحياة اليومية.
الدعم السريع يستخدم المسيرات لتدمير البنية التحتية. المصدر: اندبندنت عربية
قطوعات متكررة في فصل الصيف
خلال فصل الصيف (مارس – يونيو)، تكون درجة الحرارة مرتفعة للغاية، حيث يبلغ متوسط درجة الحرارة 38 درجة مئوية، مع شهر مايو باعتباره أكثر شهور السنة حرارة، بينما يبلغ متوسط درجة الحرارة في الشتاء 24 درجة مئوية. يزداد الطلب على الكهرباء بشكل كبير في فصل الصيف، مما يؤدي إلى زيادة استخدام أجهزة التبريد. هذا يتسبب في ضغط كبير على الشبكة الكهربائية، غالبًا ما يفوق قدرتها الاستيعابية، خاصة في أوقات الذروة، مما يؤدي إلى انقطاعات متكررة.
هل يمكن للسودان توفير كهرباء مستقرة؟
إذا افترضنا أن السودان يستطيع توفير الكهرباء بشكل مستقر طوال العام دون انقطاع متكرر، فهذا يشير إلى تحقيق عدة عوامل: استخدام كامل وفعّال لكافة الموارد المتاحة مثل؛ الطاقة الشمسية، المائية، والرياح، كما يعني وجود شبكة توزيع فعالة، وصيانة دورية، وإدارة جيدة للطلب المتزايد على الكهرباء والاستهلاك المستمر، بجانب الاستعداد للطوارئ على مدار العام.
لكن في الواقع، تظهر التناقضات التالية: ضعف البنية التحتية، حيث تعتمد معظم محطات التوليد على سدود قديمة وتعاني من أعطال متكررة، وشبكات النقل والتوزيع غير مهيّأة لتحمّل أحمال عالية. أي خلل بسيط يؤدي إلى انقطاعات على نطاق واسع؛ إلا أنه يتم إهمالها بشكل مستمر.
كما أن الاستثمار في الطاقة المتجددة يكاد يكون غائبًا بالرغم من توفر المصادر، حيث لا توجد مشاريع كافية لتوظيف هذه الموارد. إضافة إلى ذلك، يظهر غياب واضح لدور الحكومة في إنشاء المشاريع اللازمة لمواجهة هذا التحدي. من جانب آخر، يتفاقم الوضع مع زيادة الاستهلاك وسوء التخطيط، خصوصًا في فصل الصيف الذي يشهد ارتفاعاً كبيراً في الطلب دون وجود خطط مرنة للتعامل مع الضغط، مما يؤدي إلى الأحمال الزائدة وانقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة.
أيضاً، فإن شح الوقود يمثل عائقاً كبيراً، حيث تعتمد بعض المحطات على الوقود الأحفوري، ومع الأزمات الاقتصادية المتكررة يصبح من الصعب تأمينه بشكل مستمر. وأخيراً، استهداف سد مروي ومحطات أخرى مؤخراً كشف مدى هشاشة النظام الكهربائي، حيث تسببت ضربات محدودة في انقطاع واسع النطاق، ما أظهر غياب أي خطة بديلة.
حريق في محول بسد مروي بسبب القصف بمسيرة. المصدر: راديو دابانقا
نتيجة لذلك، يتضح أن جميع هذه التناقضات تشير إلى أن الافتراض الأساسي (إمكانية توفير كهرباء مستقرة) غير صحيح، ويتناقض بشكل واضح مع الواقع. هذا الأمر يُبرز وجود خلل هيكلي يتعدى مجرد العجز الفني، مما يستدعي ضرورة القيام بإعادة تقييم شاملة لأسلوب إدارة الموارد الكهربائية من قبل الدولة.
ارقام واحصاءات عن الكهرباء في السودان
تشير البيانات في عام 2023، كان إنتاج الكهرباء في السودان حوالي 16,747 جيجاوات ساعة، مما يعكس انخفاضاً طفيفاً عن 17,705 جيجاوات ساعة في عام 2021. كان استهلاك الكهرباء في البلاد 13,983 جيجابايت ساعة، مما أدى إلى فائض قدره حوالي 2,764 جيجابايت ساعة. رغم الفائض في الإنتاج، هنالك تحديات كبيرة في توزيع الكهرباء والوصول إليها. تعاني العديد من المناطق من انقطاع التيار الكهربائي المتكرر وغياب الاتصال، لا سيما في المناطق الريفية.
مصادر توليد الكهرباء في السودان
استخدام الكهرباء في السودان
بلغ حجم الاضرار ارقاماً قياسية بسبب النزاع، حيث أوضح مهندس متخصص في مجال التخطيط الحضري أن حوالي 90% من شبكات ومنشآت الكهرباء الأساسية تعرضت لأضرار بدرجات مختلفة. وأشار إلى أن أكثر من نصف سكان السودان يعانون الآن من نقص في الكهرباء بعد الحرب، مقارنة بنحو 20% قبل بداية النزاع.
معاناة مستمرة ومنشآت مستهدفة
من المسلمات في سياق النزاع في العاصمة الخرطوم أن جميع المنشآت، سواء كانت حكومية أو خاصة، لم تسلم من أعمال النهب والتخريب، خاصة فيما يتعلق بسرقة الكوابل والأسلاك وتدمير المحولات. منذ اندلاع الحرب، يعاني المواطنون بشكل مستمر من انقطاع الكهرباء في معظم مناطق ولاية الخرطوم بسبب استهداف المحولات وشبكات الكهرباء، فضلاً عن تعرض الكوابل والأسلاك للنهب والتخريب من قبل قوات الدعم السريع وبعض المتفلّتين.
في مدينة بحري شمال العاصمة الخرطوم ، يصف أحد السكان حجم المعاناة اليومية قائلًا:
"كنا نعيش في عزلة كاملة...انقطاع الكهرباء الذي دام لما يقرب من عام ونصف منذ بدء النزاع جعل الحياة تتوقف تمامًا. توقفت محطة المياه عن العمل، مما جعل جلب المياه من البحر ضرورة حتمية. كذلك، لم تكن هناك وسيلة لشحن هواتفنا، بجانب توقف جميع شبكات الاتصالات عن العمل. مع حلول المساء، تتوقف الحركة في الشوارع، وتغلق المحلات التجارية، إذ أن غياب الإنارة يحول الحي إلى مساحة من السكون والخوف. تحت هذا الضغط، لم يقف شباب الحي مكتوفي الأيدي. بادرة بسيطة جعلتهم يجمعون بعض الأموال لتركيب ألواح طاقة شمسية وجهاز ستارلينك في إحدى زوايا الحي، لتكون محطة صغيرة لشحن الهواتف المحمولة والتواصل مع العالم الخارجي".
عمليات الحرق والاتلاف التي طالت محطة بحري الحرارية. المصدر: سودان تربيون
خلال الأشهر القليلة الماضية، شنّت قوات الدعم السريع حملة عسكرية منهجية استهدفت البنية التحتية الاستراتيجية، مع تركيز خاص على المنشآت والمرافق الكهربائية. تم تنفيذ هجمات على عدة محطات ومنشآت حيوية، أبرزها سد مروي، المصدر الرئيسي لتوليد الكهرباء في البلاد، الذي ينتج نحو 1250 ميغاواط ويغطي حوالي 45% من احتياجات السودان للطاقة الكهربائية. تعرض السد لسلسلة من الهجمات بالطائرات المسيّرة استهدفت المحولات الكهربائية والمرافق الحيوية الأخرى. نتيجة لهذه العمليات، شهدت عدة ولايات انقطاعاً في التيار الكهربائي.
التوجة نحو الطاقة المتجددة
شهدت السنوات الأخيرة توجهاً ملحوظاً من الحكومة لاستثمار الطاقة المتجددة والموارد المتاحة. فقد بدأت في التخطيط لبناء محطة طاقة شمسية بقوة 100 ميغاواط في مدينة دنقلا، إلى جانب مزرعة رياح بقدرة 50 ميغاواط في ولاية البحر الأحمر. تأتي هذه الخطوات ضمن استراتيجية تهدف إلى توليد 5 غيغاواط من الطاقة المتجددة بحلول عام 2030. بالإضافة إلى ذلك، أُطلق مشروع لتركيب 1170 مضخة ري تعمل بالطاقة الشمسية في ولايتي شمال وغرب كردفان، لتحسين الإنتاج الزراعي واستغلال الطاقة المتجددة في المناطق غير المرتبطة بشبكة الكهرباء. في السياق نفسه، أصدرت الحكومة في الأشهر الماضية قرارات بإعفاءات جمركية على معدات الطاقة الشمسية والبطاريات بهدف تشجيع استيرادها وتسهيل استخدامها في ظل الانقطاعات المتكررة للكهرباء. ورغم تلك الجهود، يبقى التحدي الأكبر هو الاستقرار السياسي والدعم الحكومي.
الألواح الشمسية "طوق نجاة" لأزمة الكهرباء بالسودان. المصدر: اندبندنت عربية
التوجه الحكومي يقابله توجه ذاتي من قبل آلاف المواطنين نحو شراء ألواح الطاقة الشمسية وتركيبها على أسطح المنازل أو في الأحياء والمحال التجارية، نتيجة انقطاع الكهرباء لأشهر في ولاية الشمالية، وعدة أيام في العاصمة الخرطوم، بسبب الهجمات الأخيرة التي استهدفت المنشآت الكهربائية. في ضوء هذه التحديات، يعكس هذا التحول الذاتي وعياً متزايداً بأهمية الطاقة المتجددة، ويفتح الباب أمام مستقبل لامركزي للطاقة الكهربائية في السودان. اللافت للنظر أن هذا التحول لم يكن جزءاً من خطة حكومية، بل جاء استجابة لحاجة ضرورية وفورية.
خلاصة
في ضوء التحليل القائم على البرهان بالتناقض، يتّضح أن أزمة الكهرباء في السودان تُعَدّ مشكلة متجذرة ناتجة عن تراكمات فنية وإدارية، من سوء التخطيط، وهشاشة البنية التحتية؛ لمعالجة هذه الأزمة، يجب التركيز على تطوير البنية التحتية، تعزيز الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، وتحسين إدارة عمليتي الإنتاج والتوزيع.على الرغم من تنوع الموارد والإمكانات المتاحة، فإن غياب الإرادة في استثمارها وتحويلها إلى حلول فعلية يجعل من "العتمة" مشهداً متكرّراً. فهل يمكن للسودان أن يتحرّر من هذا التناقض، وبناء مستقبل يتناسب مع ما يمتلكه من موارد؟