هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

 

تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة لحرب السودان. تعكس الآراء الواردة في هذه المقالة آراء المؤلف فقط وليس آراء أندريا. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا.


عندما انتقلت إلى المملكة المتحدة في سبتمبر ٢٠٢٣، بعد أشهر قليلة من خروجي من السودان إلى مصر، كنت قلقاً من أن الانتقال إلى مجتمع جديد سيؤدي إلى تساؤلات غامرة ومثيرة حول آخر أخبار الحرب في السودان في اللحظة التي أقول فيها عبارة "أنا من السودان".  وولكن الواقع لم يكن كذلك. مع بعض الاستثناءات، أفضل ما وصلت إليه الأمور هو سؤال "سمعت أن هناك حرباً في السودان منذ فترة، هل انتهت؟".


هذا ليس بالضرورة عدم إهتمام، ولكن في الغالب قِلة وعي. والحقيقة هي أن الناس في جميع أنحاء العالم لا يعرفون عن حرب السودان لأن أخبارها تلاشت من عناوين وسائل الإعلام. وبينما تمت تغطيتها على أنها "أخبار عاجلة" في وسائل الإعلام الدولية الكبرى في الأسابيع القليلة الأولى، فإنها سرعان ما تسربت من الذاكرة إلى النسيان.


لقطة شاشة للأخبار العاجلة عن حرب السودان كما بثتها قناة الجزيرة بتاريخ 15 أبريل 2023. المصدر Aljazeera English


في الأسابيع الأولى من الحرب، قضيت أيامي في إجراء مقابلات متتالية مع مختلف وسائل الإعلام الدولية. كان الأمر مرهقاً، لكنني كنت حريصاً على إبقاء السودان في عناوين الأخبار. تدريجياً، بدأ سيل الطلبات الإعلامية يتلاشى، وأضحت المقابلات من يومية إلى شهرية، وسرعان ما اختفت أخبار السودان عن الأضواء. إنها حقيقة مثيرة للغضب، حيث أن فظائع الحرب في السودان والأزمة الإنسانية ما زالت تتفاقم.




أنيتا فوينتيس، المنتجة التنفيذية لبودكاست الأمن في السياق، تجري مقابلة مع حامد خلف الله حول الصراع الحالي في السودان في 27 أبريل 2023. مصدر الأمن في السياق يوتيوب

عشرة أشهر من إراقة الدماء "المتجاهلة"

بعد مرور عشرة أشهر على إندلاعه، لا يزال النزاع المسلح في السودان مستمراً بلا نهاية في الأفق، بينما يعاني ملايين المدنيين من آثاره المدمرة. على أقل تقدير، قُتل 13 ألف شخص حتى الآن. وقد نزح عدد مذهل قدره 10.7 مليون شخص، معظمهم داخل البلاد، مما يجعل السودان أكبر أزمة نزوح داخلي على مستوى العالم. ويحتاج حوالي 25 مليون شخص، أي نصف سكان السودان، إلى مساعدات إنسانية عاجلة.


ويتفاقم الوضع المزري بسبب نقص خدمات الرعاية الصحية، حيث أن أكثر من 70 بالمائة من المرافق الصحية في السودان غير صالحة للعمل أو مغلقة. فضلاً عن ذلك فقد اتخذ الصراع المسلح منعطفاً جذرياً في دارفور، حيث تصاعدت عمليات القتل العرقي الجماعي إلى مستويات الإبادة الجماعية، فضلاً عن جرائم الحرب الأخرى.


صرح رئيس الإغاثة الطارئة بالأمم المتحدة أن الوضع في السودان هو "واحد من أسوأ الكوابيس الإنسانية في التاريخ الحديث". وقال شخص آخر يعمل في  الإغاثة : "إن الأمر يشبه التخطيط لنهاية العالم". ومع ذلك، لم يتم إعطاء السودان سوى٣.٥ بالمائة فقط من التمويل الإنساني المطلوب حتى الآن، ومن الصعب تجاهل العلاقة بين نقص التقارير الإعلامية عن الحرب في السودان والمساعدات الإنسانية الضئيلة المخجلة التي يتلقاها السودان. إن التجاهل المستمر من جانب العالم يلقي بأزمة السودان في الظل.


لماذا يتجاهل العالم أزمة السودان؟


لقد كان مدى اهتمام وسائل الإعلام الدولية فيما يتعلق بحرب السودان قصيراً إلى حد ما ولم يتزايد إلا حول أحداث محددة قبل أن يبتعد التركيز على الأزمة المتفاقمة تدريجياً مرة أخرى. إن اختفاء السودان له علاقة بمجموعة من العوامل. أهمها التحيز التحريري الذي تمارسه وسائل الإعلام. وكما قالت خلود خير، المحللة السياسية السودانية، فإن لامبالاة العالم تجاه الحرب في السودان لا يمكن فهمها إلا ضمن "هياكل العنصرية العالمية".




المحللة السياسية السودانية خلود خير تناقش الحرب في السودان على قناة eNCA. المصدر: إنكا


 أجزاء معينة من العالم ذات أهمية أكبر لوسائل الإعلام الدولية. بشكل عام، كان السودان، حتى قبل الحرب، يحظى بأولوية منخفضة. بالإضافة إلى ذلك، تميل وسائل الإعلام الدولية إلى التعامل مع الوضع في السودان على أنه "المعتاد". الفرضية هي أن السودان شهد حروباً متعددة في تاريخه الحديث، وهذه دورة أخرى من العنف الذي اعتاد عليه الشعب السوداني. وعلى الرغم من أن الحرب الجارية مختلفة تماماً من حيث النطاق والوحشية، إلا أنه لا ينبغي تجاهل أو التسامح مع أي حرب أو أزمة إنسانية بهذا الحجم. لا في السودان ولا في أي مكان اخر.

 

بالإضافة إلى ذلك، عادة ما تكون دور الإعلام الدولية أكثر راحة في نقل الروايات البسيطة والمباشرة، حيث يصعب "بيع" القصص التي تبدو معقدة. حيث يميلون إلى التخوّف من الصعوبة التي ينطوي عليها تقديم روايات شاملة عن مثل هذه الصراعات، مع قلة القدرة على التعامل مع الروايات التي تفتقر إلى شخصيتي "الرجل الطيب" و "الرجل الشرير" الواضحتين.


إن الحرب في السودان معقدة بشكل خاص ومتعددة الأبعاد، حيث تشارك فيها فصائل مسلحة متعددة ولها جذور تاريخية تمتد لعقود، الأمر الذي يتطلب تقارير دقيقة. وبسبب التحيزات والتحديات اللوجستية، لم تستثمر وسائل الإعلام الدولية في إنشاء مثل هذه البنى التحتية. لأسباب مختلفة، مثلاً لم يوجد صحفيون دوليون على الأرض في السودان على مدار شهور عديدة. بالإضافة إلى ذلك، لا يستطيع الصحفيون السودانيون تقديم التقارير من مناطق النزاع حيث يتم استهدافهم والهجوم عليهم بشكل ممنهج من قِبَل الفصائل المتحاربة. كما أن المواطنين السودانيين الموجودين على الأرض غير قادرين على التصوير ومشاركة اللقطات، بسبب المخاوف على سلامتهم، فضلاً عن انقطاع الاتصال والكهرباء.


ومع ذلك، ظل الناشطون السودانيون في المهجر يقدمون باستمرار تحديثات من أرض الواقع، بالإضافة إلى السياق التاريخي والتفسير. على هذا النحو، ربما حتى لو كان هناك مجال للصحفيين الدوليين للذهاب إلى السودان، فإن الوضع الراهن قد لا يتغير.




امرأة سودانية فرت من القتال في دارفور تساعد أحد أقاربها في حمل دلو من الماء. المصدر: زهرة بنسمرة/ رويترز

 

ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في إخفاء السودان هو مرور الوقت، والصراعات المستمرة في أجزاء أخرى من العالم و التي تتنافس على اهتمام العالم. وعلى هذا النحو، قد يقول البعض إن الحرب على غزة أخذت الأولوية وطغت على الحرب في السودان، مما أدى إلى صرف الانتباه. ومع ذلك، قبل أن تهيمن الحرب الوحشية على غزة على عناوين وسائل الإعلام بعد ستة أشهر من اندلاع حرب السودان، رأينا تغطية محدودة للسودان، وكانت مجرد خبر عابر على الأجندة الدولية، بينما تقف البلاد على حافة الهاوية.


وفي المقابل، فإن الصراعات في أجزاء أخرى من العالم تعتبر أكثر أهمية في الأجندة الدولية، مثل أوكرانيا، فكانت تحظى بتغطية يومية متسقة وعلى مدار أشهر طويلة. وكما أعرب أحد العاملين في المجال الإنساني الدولي في السودان عن أسفه بينما كان يفكر في تجاهل العالم للسودان: "هذا ليس جهلاً؛ بل هو حالة من اللامبالاة". 

 

لا تنسوا السودان

 

من المهم أن نفهم أن عدم وجود تقارير عن الحرب في السودان من قِبَل وسائل الإعلام الدولية ليس مؤشراً على تحسن الوضع على الأرض. يستمر النزاع المسلح في السودان في التفاقم وكذلك المعاناة الإنسانية، في حين يظل السودان غائباً عن الوعي العالمي والخطاب العام والأجندة الدولية.


إن الاحتياجات الإنسانية في السودان هائلة، والعالم متخلف بشدة في استجابته للمأساة الإنسانية. وكما نعلم من الأزمات الأخرى في جميع أنحاء العالم، فإن الوعي شرط أساسي للعمل. إن اهتمام صُنّاع السياسات العالميين يتشكل، إلى حد كبير، من خلال وسائل الإعلام والمطالب العامة. وبالتالي، فمن الأهمية أن تركز وسائل الإعلام الدولية على الوضع في السودان بطريقة أكثر اتساقاً. وسيكون هذا مفيداً في تشكيل الخطاب العام العالمي والضغط على صُنّاع السياسات لحملهم على سَن سياسات شاملة على الجبهتين الإنسانية والسياسية.




أشخاص يحصلون على مساعدات غير غذائية في ولاية القضارف. المصدر: مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية

 

الناشطون والمدافعون السودانيون منهكون من تحمل هذه المأساة على عاتقهم منذ ما يقرب من عام، وهم يشعرون وكأنهم يصرخون في الفراغ. ومن ناحية أخرى، فإن المواطنين السودانيين الموجودين على الأرض هم وحدهم في طليعة الاستجابة الإنسانية ويعملون على الحفاظ على سلامة المجتمعات ودعم المحتاجين.


يأتي كل هذا في وقت توقفت فيه شركات تشغيل الإنترنت الرئيسية الثلاثة في السودان عن العمل منذ الأربعاء 31 يناير 2024. وحذر مرصد الإنترنت NetBlocks من أن قطع الاتصالات عن ملايين الأشخاص العالقين في مناطق النزاع أو الفارين حفاظاً على سلامتهم قد يستمر في التأثير سلباً على السكان.


في الوقت الذي يوجد فيه نقص نقدي هائل، يعتمد العديد من الأشخاص في المناطق المتضررة من النزاع حالياً على المحافظ الإلكترونية مثل "بنكك"، وهي خدمة يقدمها بنك الخرطوم، والآن انقطاع الشبكة يقيد حصولهم على الغذاء والرعاية الصحية، وحريتهم في الحركة.


ملصق يستخدم للتوعية حول انقطاع الإنترنت في السودان. منصة المصدر X



بالرغم من ذلك، لا يزال هناك صحفيون دوليون يعترضون بشجاعة على السياسات التحريرية لمنظماتهم ويضغطون من أجل تقديم تقارير دقيقة عن السودان. ومع ذلك، لا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به؛ ويجب على المجتمع الدولي ووسائل الإعلام الانضمام إلى النضال والتحدث بصوت عالٍ عن الحرب في السودان قبل فوات الأوان. يشعر الملايين من السودانيين المتضررين من القتال بأن المجتمع الدولي قد تخلى عنهم، و لقد كان صمت العالم يصم الآذان، بينما يموت السودان بشكل مؤلم بسبب الإهمال. بدون اتخاذ إجراءات على أعلى المستويات، فإن العالم يخاطر بأن يصبح شاهداً شبه صامت على المآسي المدمرة التي تتكشف في السودان. يجب على العالم أن يراقب السودان لأن البلد وشعبه يستحقان الإنقاذ.


حامد خلف الله

حامد هو ممارس تنموي وباحث ومحلل سياسات. وهو حاليا طالب دكتوراه يبحث في التحولات السياسية والحركات الشعبية في أفريقيا، في معهد التنمية العالمية بجامعة مانشستر، المملكة المتحدة. عمل سابقاً في العديد من المنظمات الدولية في مجال قضايا الحكم والتنمية في السودان. وهو أحد باحثي برنامج المنح الدولية للحكومة البريطانية (Chevening) وحصل على جائزة أطروحة جمعية دراسات التنمية في المملكة المتحدة لعام ٢٠١٩.