هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

في هذا الوطن الفسيح والمتجدّد دوماً، كم من مفكر فزّ، اجتبى من المبادئ وأنبلها فعلّق حياته بين الكلمة الموجعة والقويّة والفكرة المتعمقة و المتجذرة في ثقافة لا نهائية، ومن بينهم من سنكتب عنه الآن، ونفرد فرديته وسيل معرفته بين صفحات قليلة لن تكفي لإيراد كل ما لديه من تعدّدية وإبداع. 


عمر محمد السنوسي، من مواليد مدينة ودمدني بولاية الجزيرة الواقِعة في وسطِ السّودان (حي المدنيين)، تدرّج في كل مراحله التعليميّة بمدينة ود مدني ثم درس المعهد العالي للموسيقى والمسرح ودرس النقد والدّراسات أيضاً بجامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا. وأكمل رحلته التعليمية بدراسة الحقوق بجامعة القاهرة الفرع (السودان)، ثم درس كلية التربيّة (لغة إنجليزية) بجامعة السودان. وكانت كل دراساته العليا بجامعة الجّزيرة، حيث درس التربية العامّة وعلم النفس التعليمي بجامعة الجزيرة. فقد كان يرى أن كل هذه الدراسات مكمّلة لبعضها من قانون وعلم نفس وتربية وموسيقى ودراسات ونقد ولغات.


عمل معلم بالمرحلة المتوسّطة وتدرّج بحقل التعليم إلى أن وصل لمدير عام مكلّف في الفترة الإنتقاليّة بعد ثورة ديسمبر المجيدة التي اشتعلت بنهاية العام 2018م واستمرت حتى 2019م. عمل بالكثير من منظّماتِ المجتمع المدني فهو مدرب معتمد من المجلس البريطاني ومازال يعمل بهذا المجال.


من أشهر المعالم الأدبية في ود مدني. المصدر: أندريا


ولادة رؤيته النقدية

إن رؤيته النقديّة للأشياء بدأت منذ صغره فمنذ دخوله (الخلوة) كان ينظر للقرآن بعين الناقد وقد كلّفه هذا الأمر الكثير من المتاعب. فقد كان مولعاً بالتفكير النقدي قبل وعيه الكامل بمعنى النقد وماهيته. كانت بدايته في الكتابة مع الشّعر وخاصة قصيدة النثر قبل وعيه ايضاً بهذا المسمّى، وقد كان هذا في بداية سبعينيات القرن الماضي في المرحلة المتوسّطة حيث كتب قصيدة إسمها (الدائرة المربّعة) وعرضها على أستاذه الأستاذ علي مؤمن. كتب عليها هذا الأستاذ تعليق في أربعة صفحات وكانت هذه نقلة في مسيرته الكتابيّة ودافع قوي للاستمرار. فنشر الكثير من الأشعار بكثير من الصحف مثل جريدة الأيام، جريدة الصحافة، فأول شئ تم نشر مقال كتبه بعمر صغير وكان مقال سياسي رداً على مقال لصحفي اسمه اسماعيل حاج موسى بصحيفة الأيام. فردّ عليه أستاذ السنوسي بمقال اسمه (السلطة لهولاء). فقد تم نشر المقال لما فيه من نضج رغم حداثة سنه ولما كان من وجود حريّة النشر في ذلك الوقت قبل المصالحة السياسيّة للرئيس نميري مع الإسلام السياسي في السودان. إستمر في نشر المقالات السّياسيّة والشّعر في الثمانينيات بعد انضمامه لرابطة الجزيرة للآداب والفنون بولاية الجزيرة أثناء دراسته.


حظي في جميع مراحله الدراسيّة بمعلمين قدّموا له الدعم المطلوب بكل المراحل فأثروا بالمعرفة والقراءات وكتب الفلسفة وكتب الأدب وجميع ضروب الثقافة لما كان عليه من تميّز، وكذلك أفراد أسرته. فقد شبّ على معرفةٍ واسعة وومتدّة في عمر صغير، فعمل برئاسة الجمعيّة الأدبيّة بمدرسته الثانوية. هذا ما أسبغ عليه التميّز بكلية الموسيقى والمسرح، فلم تضف له كل الدراسات الأكاديمية سوى ترتيب هذه المعرفة بمنهجيّة. توقف عن كتابة الشعر لقناعة لديه أنه ليس شاعر فربما أثرت عليه عقلية الناقد في كتابة الشعر.


ساعدته رابطة الجزيرة للآداب والفنون في استمراره بالنشر، فقد كان أعضاء الرّابطة ومعارفهم من الصحفيّين والأدباء والمحررّين والمثقّفين يعملون في مجال النشر والكتابة والنقد. وكانت هناك أكثر من جريدة ومجلة بالأخص مجلة الإذاعة والتلفزيون فنشر الكثير من التّرجمات والدّراسات النقديّة مع الإنحياز الواضح للنقد. غير ذلك قد كتب الأستاذ عمر السنوسي القصّة القصيرة والرواية والمسرح، وأخرج العديد من المسارح فقراءاته المكثفة في كل ضروب الثقافة والتّراكمات المعرفيّة ساعدته في أن يكون مبدع في كل ما يقوم به.


القمع

لم تكن فكرة نشر كتاب أو ديوان شعر شائعة في السّودان رغم دخول الكتاب العالمي للسودان بشكل كثيف في ذلك الوقت، لذا اكتفى استاذ السنوسي بالنشر على مستوى الملحقات الثقافية؛ فالاستاذ عمر السنوسي يرى أن الروح الإستهلاكيّة للمبدع السّوداني جعله ينكب على القراءات العالمية أكثر من حوجته لنشر ما يكتب في ذلك الوقت. كان هذا مبرر الأستاذ السنوسي لعدم نشر تلك الأطروحات الجاهزة للنشر، وأيضاً عدم وجود الفرصة الذي وجدها الكتّاب الذين هاجروا خارج السودان من البيئة المحيطة المهتمة بالثقافة من المجتمع والسّياسات.


توقف عن النشر في الملحقات الثقافيّة عندما أمسكت الإنقاذ بمفاصل الحكم في السودان فأوقفت معظم الصحف بملحقاتها مثل صحيفة الثّقافة السودانيّة وصحيفة الخرطوم الذي كان ينشر بهما بصورة راتبة، فقد أصبح لا يُنشر كل ماكان يرسله قبل توقفه بشكل تام. هذا ما أثر عليه بشكل شخصي، كما أثر على كل المثقّفين بالاختناق الإقتصادي ومنع دخول الكثير من الكتب والمجلّات الثقافيّة وإغلاق المراكز الثقافيّة. تعرض الأستاذ عمر السنوسي في عام 1996م لمصادرة مكتبته الشخصيّة التي كانت تحمل العشرات من الكتب القيّمة والنادرة والمهمّة التي جمعها بمجهود مادي وفكري، ومائتين (أسطوانة) من الموسيقى العالمية والكثير من المخطوطات التي كتبها، فبدأ مشواره من جديد بعد ذلك. لقد طالته المضايقات الشخصيّة في محاربة الفكر والثقافة، وتمت مساومته أيضاً في ذلك الوقت للتخلي عن قضيّته عندما كان ينتمي لحزب البعث الإشتراكي والانتماء لحزب المؤتمر الوطني.


الاعتراف بالموهبة

شارك الأستاذ عمر السنوسي بجائزة الطيّب صالح الإبداعيّة بكتاب (المنجز الرّوائي لجنوب الصّحراء) وفاز بالمركز الأول في مجال النقد. وكان الكتاب عن الأدب الأفريقي حيث اهتم الأستاذ عمر السنوسي بهذا الأدب وكتب فيه الكثير. كان هذا أول كتاب يحظى بالنشر من بين كل مخططاته الشعريّة والروائيّة والنقديّة والمسرحيّة والقصصيّة.


هنالك الكثير من المخطوطات الأدبيّة التي يتطلع الأستاذ عمر السنوسي لطباعتها ونشرها مثل مخطوطة (دراسات عن المسرح الإسلامي) و (هويّة أم هاوية) كما يريد التركيز على جانب الأدب الأفريقي و إعادة إنتاج للنقد السوداني. كما أن لديه ثلاث مسرحيّات جاهزة، وفيلم مكتوب عن عبد القادر ود حبوبة برؤية مغايرة، ومجموعة من القصائد الغنائية.


إن الأستاذ عمر السنوسي من المثقّفين الذين يحملون الهمّ العام أكثر من همّ نشر ما يكتب، فالذي يؤرقه هو التعليم الذي أفنى فيه عمره في هذا الوطن، لأنه يرى أنه أساس لكل شيء، حتى طريقة تلقّي الكتابة.

  

**


تم نشر هذه المقالة كجزء من سلسلة محتوى حول الفن و المقاومة والثورة . المشروع مدعوم من الصندوق العربي للثقافة والفنون والمجلس العربي للعلوم الاجتماعية ومؤسسة أندرو دبليو ميلون. الآراء المعبر عنها في هذا الإنتاج هي آراء صانعيها ومن أجريت معهم المقابلات ولا تمثل بالضرورة آراء المجلس العربي للعلوم الاجتماعية.


الاء جمال

آلاء جمال دفع الله، مهندسة تصنيع غذائي، كاتبة قصص قصيرة وشعر ومقالات، سبق لها أن نشرت في مجلتي "الجيل الجديد" و "الوراق" الرقمية. أصدرت كتابين ، مجموعة قصصية بعنوان "إتكاءة على جدار ماء" كمنحة لدار العرب (مصر) ومجموعة شعرية ثانية بعنوان "على حافة إندلاع الاعتقاد" من خلال دار اللوتس للنشر الحر في مصر. يمكن العثور عليها في كثير من الأحيان منخرطة ونشطة في العمل العام.