هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا.

تنويه: *يجب التنبيه إلى أن المقال تم كتابته قبل اندلاع الحرب، وهو مقال في السياق ما قبل 15 أبريل.


"لا تبكي يا عزيزتي،

غداً حتماً نعود إلى الوطن.

 

مع طلوع شمس السابع عشر من يونيو من العام 2019، وبعد أسبوعين من مجزرة فض اعتصامات الثوار أمام القيادة العامة للجيش بالخرطوم وحامياته في الولايات، كان على السودانيات والسودانيين أن يلوحوا، مودعين، للمرة الأخيرة، لمغنية كانت للعديد منهم بمثابة مرشدة ثورية.


ربما لن تَذرف الدموع مجدداً، لكنّها خلال مسيرتها الفنية، التي امتدت زهاء الثمانية وثلاثين عاماً، لم تفعل سوى ما كان يفعله الفنانون الملتزمون؛ البكاءَ بنُبلٍ نيابةً عن الناس وذرف الدموع بصيغة مبتكرة. وتركت خلفها إرثاً غنائياً لأربعة عقود من تاريخ شعبها الحديث.


مريم أمو. عبر أيقونة بوتيك على منصة فيسبوك

(دو)

 

رحلت أمُّو في وقت وصلت فيه الأوضاع السياسية والإجتماعية والإقتصادية بالبلاد إلى نقطة حرجة، اتسع عنف الدولة إلى خارج المناطق الجغرافية التقليدية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وكانت مجزرة القيادة العامة تعبيراً عن ذلك، بينما يعيش إقليم دارفور بشكل عام ومجتمع الفور بشكل خاص، إنقساماً سياسياً حاداً، حيث ساهمت الإنقسامات التي ضربت حركة وجيش تحرير السودان في حدوث إنقسام سياسي داخل مجتمع الفور، كما عمل نظام الإنقاذ على إضعاف الإدارة الأهلية عبر إستيعابهم وقطع علاقتهم بقضايا مجتمعاتهم. رحلت أمو أيضاً في خضم ثورة كانت هي من طليعيات السودانيات اللائي أطلقن الزغاريد والأغنيات في ساحاتها ومواقيتها المختلفة، وكانت على يقين بـ "أننا نعرف كيف نتصرف مع البشير" في عبارة تماثل في نبرتها الواثقة والمتحدية عبارة لجان أحياء بحري الشهيرة.


مثّلت بداية الألفية الثانية نقطة تحول في حياة أمُّو، حين وجدت نفسها وسط أحد أكثر الحِراكات الإجتماعية الثورية قوة وصعوداً في تاريخ البلاد، ومعها سوف تأخذ حياتها الشخصية والمهنية مساراً دراماتيكياً، حيث ستكون أهداف هذه الحركة الإجتماعية الجديدة وتصوراتها وآمالها في مركز عملها الفني، وتصير هي صانعة لجزء كبير من خطاب هذه الحركة، وتصبح حياتها الشخصية مرآة تعكس دورة حياة هذه الحركة الإجتماعية.


(ري)


كفنانة، كانت أمُّو -جنباً إلى جنب كيوكا وبونقا وإسماعيل أرباب- تضطلع بمهمة وضع الخطوط العامة لما يمكن أن تكون عليه الأغنية المغناة بلغة الفور في المستقبل، وبطبيعة الحال، فإن الإشتغال على حقلٍ فنيٍ ما يورّطُ الفنان في حقول أخرى بسبب تقاطعية الحياة البشرية والفن، يتضاعف هذا العبء عند المجتمعات التي لم تُرسِّخ تقليداً بعد في هذه الحقول. توجب على أمُّو ولكي تشيّد عملها الفني؛ أن تمُر بالمجالات المجاورة مثل اللغة والإيقاعات والمواضيع التي كان يتم تناولها في الأغنية الفوراوية، وكان من شأن ذلك أن يحدث تغييراً جذرياً في الثقافة المرتبطة بلغة الفور والمتحدثين بها. 


ونتيجة اشتغالها في الأرض الثقافية البكر لمجتمع الفور، باتت أمو لصيقةً بالتحولات الإجتماعية الصغيرة، وكان بمقدورها ملاحظة المشكلات بصورة أكثر نقدية مقارنة بالأفراد الآخرين.


خريطة السودان توضح موقع إقليم دارفور: المصدر DOI: 10.1007/s11259-021-09815-1


واحتكت بفضل رأسمالها الرمزي بالنخبة والأفندية والبرجوازيّة الصغيرة من أبناء وبنات الفور، لكنها لم تسمح لكل ذلك بأن يصبح حجاباً طبقياً يمنعها من إنتقاد المشكلات المتعلقة بالوضع الإجتماعي والإقتصادي لمجتمعها، وحاولت في أغنيات عديدة كما في أغنية "مصاهرة الجيران"، الكشف عن الحجاب الطبقي في مجتمعها بطريقتها الخاصة:


يا أصحاب الأبقار الكثيرة

ها قد جلستم تحت الظلال

ووقعتم في غرام أموالكم.

 

يا أصحاب الأبقار الكثيرة

لقد جلستم تحت الظلال

والفقير أحرقته الشمس

وهو يجمع فتات الأموال.

 

فليصاهر الفقير أهله

نحن لا نرفضه،


فيما يبدو كما لو أنها حولت مناسبة الزواج إلى منصة لفضح الفوارق الإجتماعية، والإشارة هنا للعقبات التي تواجه الزواج العابر للأسر بسبب العوائق الطبقية، وهي مشكلة إجتماعية تظهر بجلاء في الرّيف. لكنها كذلك لم تغفل عن الدور الاجتماعي للثروة إذا ما تم توظيفها بشكل جيد، كما في أغنية " شعوب الديار"


نحن شعوب الديار لا نعرف بعضنا بعضاً

الثروة هي التي مزجت بين دمائنا

المصاهرة هي التي مزجت بين دمائنا

الظروف هي التي مزجت بين دمائنا


ما تحاول أمو فعله أمام حقيقة التفاوت الإجتماعي هو تعظيم الفائدة الجمعية للثروة عبر المصاهرة لتفادي مشكلة الحجاب الطبقي الذي يعيق تعرف الشعوب ببعضها. ولعل إهتمامها كان بالدرجة الأولى بمؤسسة الأسرة والزواج ، ولكن ذلك جعلها قادرة على تبين مشكلة الطبقة والتفاوت الإجتماعي الذي يطل برأسه عند أي عملية زواج، هكذا تحوَّلت عملية الزواج إلى نقطة تنطلق منها لنقد الظروف الإجتماعية لمجتمعها.


تناولت أمو التفاوت الطبقي والعمل والهجرة والعديد من القضايا والمشكلات المتعلقة بالفقر في أغنيات كاملة أو ضمن أغنيات تتناول مواضيع أخرى، ويمكن وصف أغنية "هو ذا قادم نجل الثري" بأنها أقسى تصوير للتفاوت الإجتماعي والفجوة بين الأغنياء والفقراء:


هو ذا قادم نجل الثري

وقرون أبقاره تقطر حليباً.

 

أم الفقير لا تجد الحليب إلا عند الآخرين.


هو ذا قادم نجل الثري


وبالنظر إلى المواضيع التي حاولت معالجتها فقد لعبت أمُّو دور المثقفة العضوية التي صنعها الصراع الإجتماعي وحازت على وعي شعبي –بمعنى أنها لم تكن مسلحة بنظرية ما- وتوصلت أيضاً بطريقتها الخاصة إلى أن التغيير الإجتماعي ممكن وانخرطت في محاولات مختلفة للتغيير على عدة مستويات.


مريم أمو. المصدر: مصطفى عبدالقادر


(مي)


كانت أمُّو حاضرة في مراكز تطوير لغة الفور ومعاهد تعليم كتابتها، وعلى أية حال؛ من كان ليكون أكثر سعادة لكتابة لغة ما أكثر من شعراء/شاعرات ومغنيي/ات هذه اللغة؟٩


تَخيَّل/لي القلق الذي ربما ساورها من تراجع أعداد المتحدثات/ين بلغة الفور الذي يمثل مجالها الثقافي وعالم الصور والأفكار والأساطير التي تشكِّل مادة فنها. فهل كان خوف الفنان من النسيان سبباً لحثِّها أهلها على ضرورة جعل لغة الأم لغة التواصل الأولى؟ يظهر من خلال الحوار الذي أجراه معها الصحفي عبدالمنعم مكي لصالح إذاعة عافية دارفور، أنها كانت مدركة أن التهميش الذي لحق بإقليم دارفور ألحق الضرر بفن الغناء، ولكون اللغة هي أداتها الأولى فلا شك أنّها أول من أحست بالخطر المحدق بلغة الفور جراء التهميش الهيكلي والمنظم. 


بطبيعة الحال ليس مطلوباً من الفنان/ة أن ت/يضع نظرية ما حول العالم منفصلة عن عمله/ا الفني؛ إلا أن أي منتج فني في النهاية ينطوي على بعض الثيمات أو الأفكار التي تجعل من عملية الخلق الفني ممكناً، والتي ربما تكون نتاج تجربته الخاصة أو أنها جزء من السياق الثقافي الذي ينتج الفن ضمنه، وتبقى مهمة الكشف عن هذه الأفكار والثيمات مهمة النقاد، دون إغفال للسياق الذي ت/يتحرك ضمنه الفنان/ة لتفادي الأحكام التعسفية.


(فا)


في السادسة من صباح الخامس والعشرين من أبريل من العام 2002 اقتحمت قوة مشتركة من حركتين مسلحتين مطار الفاشر ودمرت عدداً من الطائرات وألحقت بالجيش خسائر كبيرة، ستعرف الحركتان فيما بعد بحركة وجيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، كانت الحركتين تشكلان حراكاً ثورياً ذا مطالب تتعلق بالتقسيم العادل للسلطة والثروة في البلاد ووقف تهميش الإقليم. لن يأخذ الأمر من السلطة في الخرطوم وجهاز الدولة وقتاً طويلاً لإشعال حرب شاملة في الإقليم.


لم يكن أمر انحياز أمُّو للحراك خياراً، فقد وضعت الحرب مجتمعها وجمهورها في وضع وجودي حرج، لذا، فإن قُدِر لصوتها أن يكون مسموعاً؛ فليصدر من داخل الحشد، وإن كان لفنها أن يكون خالداً؛ فليكن موضوعه أهلها وهم "يعيشون تحت الأشجار وبين الصخور" وعلى حافة النسيان. صارت أمُّو جزءاً من حركة وجيش تحرير السودان، وتصدرت قائمة الموضوعات التي أولتها اهتماماً قضية التماسك الداخلي للحراك الإجتماعي ووحدته وترميم المجتمع الذي مزقته الحرب، تقول في حوارها اليتيم: "الحاجة الدايرنّو من أهل دارفور الوحدة…". فكرة الوحدة حاضرة على امتداد مشروع أمُّو ضمناً أو صراحة حتى قبل إندلاع الثورة كما في"لنجتمع كاليد الواحدة" و "أبناء دارفور"، وأغنية "نريد حقوق دارفور".



شعار حركة/جيش تحرير السودان

 

أنفقت أمُّو عمرها تنشُّد الحلم الذي من شأنه ترميم إنسان هذه البلاد في عدة أغنيات مثل: "دارفور التي سحرت قلبي" و"أبوجا". ووثقت أمُّو لعدة مناسبات وأحداث على صلة بالحراك الإجتماعي والثورة، بداية بالمجاعة التي حدثت في دارفور في 1984 والمساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية للسودان في أغنية "لا تترك الجوع يقتل شعبنا"، وانتهاءاً بانتقادها للسياسة والسياسيين في آواخر عمرها، وخلّدت شهداء الحراك الثوري مثل مرثيتها "طرادة"، بالإضافة إلى تغنيها بإنتصارات الحراك والثورة.


(صول)


في هذه الفترة من مشروعها تحتل كلمة الأرض وحقلها الدلالي صدارة الكلمات داخل أغنياتها بلا منازع، حيث يبدو أنها وضعت الأرض نقطة انطلاق تفسر من خلالها الثورة وأهدافها والحراك الإجتماعي بشكل عام، واستدعت من قاموس لغة الفور وتراثها الشفاهي والتاريخ كل ما يتعلق بالأرض، يشبه ذلك ما فعلته بالزواج والتصاهر لعرض وتحليل الواقع الإجتماعي والإقتصادي لمجتمعها، وبلغت بقصائدها إلى درجة عالية من التكثيف الرّمزي، فتحولت الأرض مرّة إلى إمرأة وأم وحماة كما في أغنية "لنذهب إلى الوطن بشجاعة"


لقد أحرق البرد أقطاننا

وحماتنا بقطعة قماشِ وحيدة، من يكسوها؟


(لا)


في ليلة أحد أيام العام 2006، تم تهريب أمُّو من سوبا بشرق الخرطوم مروراً بكنانة والفاو والقضارف وصولاً إلى إريتريا، وهناك تنضم إلى فرقة التوجيه المعنوي بحركة وجيش تحرير السودان قيادة عبدالواحد نور. كان ذلك بعد وصول الموقِعين على اتفاق أبوجا إلى القصر؛ وبعد مدة من مداهمة أفراد من الأمن منزلها في جنح الليل والذي كان على الأغلب بسبب الهجوم الذي بدأت تشنه على الإتفاق في أغنياتها، لتبدأ علاقتها المعقّدة بالأرض والوطن، وسيكون عليها أن تغني للأرض ليل نهار دون توقف فيما يأتي من حياتها، وسوف تُربي في أغنياتها منذ هذه اللحظة فصاعداً فكرة العودة إلى الأرض، والشوق، والغُربة.



مريم أمو. المصدر: شبكة الصحفيين السودانيين بفيسبوك




لقد وصلتني أخباراً من وطني

أنا ذاهبة

هل سأتمكن من الوصول مشياً على الأقدام؟

 

وعند هذه النقطة من تاريخ الحراك تعاظم التأثير السياسي لها وقامت بأدوار كبيرة تمثلت في صياغة الضمير الجمعي والحشد والمناصرة، وتنقلت بين إريتريا و أوغندا ومصر وجنوب السودان وإثيوبيا وكينيا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانت تبني الوجدان المشترك لأبناء أرضها في الشتات، تناصر ضحايا الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وتحشد للحراك الثوري، تعتبر أغنية "أنا تلميذ/ة أهل الغابة" Jutakwǎŋ majir إحدى أكثر أغنياتها الثورية تأثيراً وشعبية، ولا يخلوا احتفال لرابطة طلاب دارفور أو طلاب جبل مرة أو حتى أي تجمع عفوي أو مخطط لأهل دارفور خصوصاً الناطقين بلغة الفور من أداء هذه الأغنية


أنا تلميذ/ة أهل الغابة

لا تخاطبني بالتلميذ/ة في المدينة

أنا تلميذ/ة أهل الجبل

لا تخاطبني بالتلميذ/ة في المدينة

 

وإلتحق العديد من أبناء إقليم دارفور بالحراك خصوصاً أبناء الفور الذين كانوا يقومون بالنشاط التجاري الهامشي في المدن بالحراك الثوري حين غنت


تغسلون الأواني لأصحاب المباني الشاهقة٢٥

ولا تغسلون أرواحكم

هل ستذهبون إلى القيامة أحياء؟

 

فيم يفيد بيع حبوب البطيخ؟

فيم يفيد غسل السيارات؟

فيم يفيد غسل ملابس الآخرين؟

 

تغسلون الأواني لأصحاب المباني الشاهقة

وتبخلون بأرواحكم

هل ستذهبون إلى القيامة أحياء؟

 

تضمنت العديد من أغنيات أمُّو النضالات النبيلة لشعبها ومصيرهم/ن المشترك، وأحزانهم/ن الكبيرة، والأحلام المعقودة على انجلاء هذه الفترة العصيبة من تاريخهم/ن.


(سي)


بالمقابل، ساهمت أمُّو بفتح ثورة داخل الأغنية الفوراوية، على مستوى التركيب الموسيقي والكلمات المستمدة من اللغة المحكية في الأنشطة اليومية وعلى مستوى الموضوعات. بسطت الأميرة سيطرتها على بٍلاد الفرنقبية، وباتت ملكة الغزلان الهاربة. وشكّلت إلى جانب الأب كيوكا وزوجها بُنقا مثلث الأغنية الفوراوية الحديثة. كانت تؤدي أغنياتها بأوركسترا مكتملة قبل أن تضطر إلى التخفيف من الآلات الموسيقية بفرقتها إثر مغادرتها البلاد، لتكتفي بالأورغن والساكسفون والإيقاع، وأحياناً الفلوت، وفي جزء كبير من أغنيات فترة الشتات اكتفت بالربابة والطبلة التقليدية للفور والصفارة، وربما كان للضرورة الثورية أثر في الشكل الموسيقي لأغنيات هذه الفترة والآلات التي استخدمتها، حيث ستلعب الصفارة والطبلة والربابة دوراً محورياً في أعمالها كما في أغنية " أنا تلميذ/ة أهل الغابة"، حيث يظهر بوضوح الدور الحماسي للصفارة والنقارة، وفي أغاني أخرى اكتفت بالربابة.


على مستوى اللغة فتحت أمو لغة الفور على خطاب سياسي واجتماعي جديد لم تتعرض له من قبل. هذه اللغة التي تراجع دورها لأسباب كثيرة من بينها التهميش الثقافي وضغط اللغات المجاورة كالعربية والإنجليزية، سوف تتمكّن أمُّو من شحنها بخطاب ثوري عبر الترميز والإستعارات والمجازات المصنوعة من لغة الخطاب اليومي وتحولها إلى لغة مقاومة، سواء بإضافة دلالات جديدة إلى العديد من الكلمات مثل الأرض والحقل و التلاميذ و الأم والغابة، أو عبر إنعاش دلالات قديمة لبعض الكلمات مثل الحمار والعصا والوطن والعديد من الكلمات الأخرى، وبذلك وسّعت من قاموس لغة الفور ومنحتها طاقة جديدة ساهمت إلى جانب جهود الباحثين والمغنيين الآخرين في حماية لغة الفور، خصوصاً عندما تعرض جزء كبير من متحدثيها للإبادة والتشريد والنزوح، الأمر الذي أزّم وضع اللغة أكثر من ذي قبل وتراجعت إلى لغة ثانية حتى بين الناطقين بها.


كانت أمو تكُن إحتراماً للفن والفنانين وتحترم عملها، وفي الحوار المشار إليه سابقاً قامت بذكر فنانين من مختلف مناطق وقبائل دارفور والسودان، مشيدة بأدوارهم وأهميتهم الثقافية. وتعتبر أن "الفن دا حاجة ربنا بخلقو للإنسان في عروق بتاع قلب بتاعو، وبعد داك إنت لما تعبر تغني لازم تقول كلام عشان يخش للناس في القلب بتاعهم وفي الراس بتاعهم..". مصدر الفن إذن بالنسبة إلى أمُّو هو مصدر إلهي مفارق، من هنا تقديسها واحترامها للفن والفنانين، واستلهامها لأغنياتها من الطبيعة، فأغلب أغنياتها من فترة البدايات تميل نحو التغني بالحب والطبيعة ومظاهرها مثل الوديان والجبال الخضرة والحياة الريفية، ويبدو أنها رحلت إلى مجال الأرض- التراب ذي الدلالات الإجتماعية والسياسية من مجال الوطن- الأم ذي الدلالات الرومانتيكية والذي أنتجت ضمنه أغنياتها الخالدة والعظيمة "صادفته/ها في طريق الوادي" و " دارفور الأخّاذة" و "رأيت مشهداً من جبل مرة" و"الحقل على الرّبوة"


في مساحة حقل على الرّبوة

نظرنا على امتداد البصر

سوف يحين وقت تنضج فيه ذرتنا

 

يا أهلنا جميعاً

هل نظفتم حقولكم بسلام؟

سوف يحين وقت نضوج الذرة

 

هل ستأتي الذرة من كل هذا الحقل المخضر؟

سوف يحين وقت نضوج الذرة.


إحدى شلالات جبل مرة. المصدر ألترا سودان


تتمتع أعمال أمُّو بالثراء والتنوع الكبيرين في موضوعاتها، حيث ساهمت في إبقاء تراث الإنشاد الديني عند الفور " Lá̱ylá" حياً، وقامت بتوصيل المشاعر الدينية لفور اليوم بتراثهم الروحي القديم كما في "هواء عطِر"


النسيم هل هو نوّار الأشجار؟

يفوح نسيم مثل السيدة مريم العذراء

النسيم هل هو نوّار الأشجار؟

 

لماذا تطفئون النيران داخل الخلاوي؟

أيها المهاجرون

خلقت الجنة من أجلكم

لماذا تطفئون النيران داخل الخلاوي؟

 

وأغنية "الجنة تحت مجالس الذكر"


الفور ورعون

مثل مؤمنين في الجنة

 

الجنة تحت مجالس الذكر

مجالسه من شرائط حريرية

 

كيف تذرف فاطمة بنت النبي الدموع؟

هل سيضيع القرآن؟

لن نتركه ولو كان صفحة واحدة.

 

لم تكتف أمو بإظهار الإحترام للفن في أعمالها فحسب، بل انعكس ذلك على حياتها الشخصية، فتزوجت من الضلع الثالث من رواد الحداثة الغنائية عند الفور المغني والعازف آدم بُنقا، والذي رافقها في الشتات ولحق بها هو الآخر بعد عشرة أشهر من وفاتها في العاشر من أبريل 2020، كان لبُنقا تأثيراً كبيراً على مسيرة أمو الفنية، فقد أنجزا مشروعاً مشتركاً يتضمن عدة أغنيات مثل "سكور" و "لنذهب إلى السوق ونجلب أدوات الفلاحة"، ويختلف هذا المشروع عن أعمالهما الفردية بشكل واضح على مستوى الشكل الموسيقي واللحني.


كما كتب بُنقا عدد اًمن الأغنيات الراسخة في مشروع أمو، وكان بالإضافة إلى ذلك عازف الربابة الذي ساعدها ليس على تحلين الكلمات فحسب، بل استطاعت بفضله أن تتجاوز صعوبة التنقل مع فرقة موسيقية كبيرة مع قلة الموارد المالية، كان بُنقا فرقتها الموسيقية الكامِلة، وكان أهلها.


الفنان آدم بُنقا. المصدر: شبكة دارفور الإخبارية بفيسبوك



كانت أمُّو مغنية محترفة، وكانت تعي ذلك، لذا اختارت الوسيلة التي تتواصل بها مع جمهورها بعناية. ففي العام 1998 شاركت في مهرجان ولايات دارفور بنيالا وفازت بالميدالية الذهبية، وفي العام 1999 فازت بالميدالية الذهبية في مهرجان المدائح النبوية، وعادت في أبريل 2002 لتفوز بالميدالية الذهبية في مهرجان الولايات بالخرطوم. إلى جانب مشاركتها في احتفال دولة جنوب السودان بالإستقلال في العام 2011، والمعرض الثقافي التراثي الدارفوري الأول بالولايات المتحدة الأمريكية في 2015. ما يوضح إلى أي حد أخذت مسألة تحديث الأغنية الفوراوية والدارفورية.


إن الأثر الفني لسيّدة الغزلان الهاربة يظهر من خلال عدد أغنياتها التي بلغت 320 أغنية، غنت بعضها للإذاعة والتلفزيون في كل من نيالا وأمدرمان وأصدرت بعضها في ألبومات كان أولها "تيرا تيرا" و "شعوب الديار" و"إذا ذهبت/تِ إلى الحقل"، وتوزعت بقية أغنياتها على المهرجانات والحفلات المختلفة.


(دو)


للمرأة حضور في مناسبات وصور شتى في أعمال أمُّو، سواء كان في استخدامها للأم كاستعارة مثل "رحم أو بطن الأم" التي ترمز به للوطن والأرض كما في أغنية "الرحم الجميل"، أو تَغنيها بالجمال من خلال المرأة كما في أغنية "صاحبة الفستان الجميل"، أو حتى في تشجيعها للمرأة على قيادة المجتمع كما في "سامحيني"


اعقدي التمائم على خصرك

ماذا يكون الرّجل لترتجفي أمامه؟

فالتسحبي سلاحاً وأطلقي النار على عنقه

هذا الجبان الذي يتسبب بضياع الشباب.

 

عندما غادرت أمو البلاد تركت جميع أبناءها العشرة وراءها، لن تلتقي بهم مجدداً ولن تنجب أبناء آخرين، وسوف تعيش ما تبقى من حياتها تحمل مرارة ابتعادها عن "رحمة الدنيا" كما تسميهم في أغنيتها الآسرة "الأطفال"، وكأنها كانت تفكر في أبناءها حين غنت


تشجعوا لنذهب إلى الوطن

السودان في قلوبنا فلا تقلقوا أيها الأطفال

 

أو كأنها كانت تخاطب نفسها حين غنت بشجن بالغ كعادتها حين تحن إلى أرضها أو حين تغني للأطفال


إن طمع الناس في أرضنا

لا تبكي يا عزيزتي

غداً نعود إلى الوطن


مريم أمو. المصدر: جريدة البشاير


ليس ثمة عذاب يمكن أن ينزل بالمرأة الأم أكبر من حرمانها من رؤية أبنائها مدى الحياة، أمُّو قضت عمر الشتات تنتظر بقلب منفطر مجيء اليوم الذي لا تخشى فيه من زيارة أبناءها المتوزعين اليوم بين الخرطوم ونيالا، وأن يعود بمقدورها أن تذهب إلى مسقط رأسها وتستمتع بمشاهِد الجبال والوديان والحقول.


نشأت أمو في ظرف سياسي معقد في تاريخ السودان الحديث وفي تاريخ دارفور بشكل خاص، جاءت إلى العالم بعد عام واحد من استقلال السودان، وشهدت خلال هذه الفترة ثلاثة انقلابات وحربين أهليتين ومجاعتين وثلاثة حراكات ثورية أسقطت أنظمة عسكرية وديكتاتورية وشمولية. وعلى مستوى الوضع في دارفور تزامن ميلادها مع ميلاد حركة اللهيب الأحمر في العام 1957 ثم شهدت كذلك نشاط جبهة نهضة دارفور 1964 الذي أوصل الزعيم دريج إلى البرلمان، وشهدت حراكاً ثورياً في العام 1980 ضد تعيين حاكم لدارفور من خارج الإقليم والذي نجح في إقالة الطيب مرتضى وتعيين الزعيم دريج حاكماً للإقليم. وشهدت تمرد داؤود يحيى بولاد، وشهدت كذلك انعكاس ظهور الحراك الثوري على مناطق ومجتمع الفور وتعرضهم مع بقية أهل دارفور للإبادة الجماعية والتطهير العرقي ونزوح ولجوء مئات الآلاف.


بهذه السيرة الحياتية والفنية تلخص أمو تاريخ سودان ما بعد الاستقلال وتاريخ إقليم دارفور وشعوبها في حياتها الممتدة منذ ظهور حركة اللهيب الأحمر بعد عام من الاستقلال وقبل عام من انقلاب عبود، وحتى رحيلها بعد سقوط نظام البشير وقيام لجنته الأمنية بارتكاب مجزرة القيادة العامة التي تزامنت مع مجازر أخرى على طول البلاد، وتركت وثيقة غنائية للحياة الثقافية والإجتماعية والسياسية سوف تبقى إلى الأبد.


ولم تكن هناك ثمة طريقة أخرى لحل علاقة أمُّو المعقدة بأرضها ووطنها سوى أن تغادرها محمولة على ذلك وتعود إليها محمولة على نعش. مثل جميع شهداء الحراكات الثورية؛ مثل شهداء الحرب في دارفور، ومثل شهداء القيادة العامة. عادت أمو إلى أرضها بالشجاعة التي أرادت. والآن يمكنها أن ترقد بالقرب من قريتها ميروكابر، على التخوم الجنوبية لسلسلة جبل مرة بمدينة نيالا، ويمكنها الآن أن تقضي وقتها تلقي النظر على جمال وروعة هذه الوديان والجبال والحقول الخضراء على امتداد البصر، حتى يحين الوقت الذي تنضج فيه الذرة.



مصطفى عبد القادر (بيرا)

مصطفى عبد القادر اسمه الأدبي (بيرا) ولد في نيرتيتي وسط دارفور عام 1994م حيث نشأ ودرس حتى المرحلة الثانوية، بدأ نشر نصوصه الشعرية والأدبية باللغة العربية ولغة الفور عبر الوسائط الإلكترونية ومجلة (جيل جديد) عام 2015م، وفي عام 2018م فاز بالجائزة الأولى في الطبعة الأولى لجائزة نيرفانا للقصة القصيرة، كما نشر عدة قصائد في مختارات قصيدة النثر في السودان "في عقل النجوم" للشاعر أنس مصطفى، الصادرة في مايو 2024م.