هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة لحرب السودان. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا.

 

"أصبح الصبح .. ولا السجن ولا السجان باقي" -محمد الفيتوري-

 

 

في صباح الخامس عشر من أبريل وفي خضم إنشغال الناس بأشغالها وأعمالها اليومية، ومن دون أي سابق إنذار إندلعت أصوات الرصاص والإنفجارات في العاصمة الخرطوم لتعلن عن بداية أسوأ كوابيس الشعب السوداني وهي الحرب بين الجيش السوداني و قوات الدعم السريع.


وسرعان ما تناقلت الوكالات الإخبارية الأنباء عن تصاعد وتيرة الإشتباكات في العاصمة. دب الهلع والخوف من المجهول في قلوب السودانيين، وانقسم الناس بين مؤيد ومعارض للحرب وبين نازح ومتمسك بمنزله، وبين مؤيد للجيش ومؤيد للدعم السريع.


أعمدة الدخان تتصاعد فوق مباني سكنية في الخرطوم - أ ف ب


مضت الأسابيع الأولى للحرب ثقيلة على كاهل المواطنين وتبعتها أسابيع أصعب، ولكن مع دخول الحرب شهرها الثاني وإقتناع الناس بأن الحسم العسكري الذي يعد به كل من الطرفين أسطورة كالغول والعنقاء، أصبح التعايش مع الحرب مفروضاً خاصة من الأسر المتعففة والتي تحتاج للعمل اليومي لتوفير قوتها. وعليه أصبحت حركة المواطنين ملحوظة في الشوارع، فباشرت بعض المحال التجارية والمخابز عملها لتوفير المواد التموينية لمن تبقى في الخرطوم.




أشخاص يستقلون حافلة صغيرة فراراً من الإشتباكات في جنوب الخرطوم، في 14 مايو 2023. وكالة فرانس برس


في غياهب المجهول


في عصر الحادي والثلاثين من شهر مايو2023 خرجت لأقضي بعض حاجيات المنزل، ولأن عائلتي رفضت النزوح رفضاً قاطعاً أعتدت الخروج للبحث عن أماكن توفر الخبز والمحال التجارية وكذلك اعتدت أصوات الرصاص والإنتشار الكثيف للمظاهر العسكرية في شوارع العاصمة.


اتفقت أنا وصديقي على الإلتقاء كعادتنا بالقرب من منزله، وفي طريقي على إحدى الشوارع الرئيسية استوقفني جندي من قوات الدعم السريع طالباً بطاقتي الشخصية وباشر التفتيش في هاتفي الشخصي ليجد رسائل تتضمن أخبارالحرب وإمتعاض أصدقائي منها ومن الطرفين المتسببين فيها. فما كان إلا أن اتهمني بالإنتساب لإستخبارات الجيش وأنا أنفي وأحاول أن أُثبت بطلان إتهامه.


قاطع مشاداداتنا الكلامية اتصالات صديقي المتكررة بعد أن تأخرت عليه بسبب استجواب الجندي لي لما يقارب النصف ساعة. سألني الجندي عن المتصل ولماذا يلح بالإتصال، وعندما شرحت الموقف طلب مني أخذه إليه ليتحقق من قصتي، ففعلت.


جنود من قوات الدعم السريع في الخرطوم - الجزيرة نت


عندما وصلنا لصديقي تفاجأت بأن الجندي يأمرنا الاثنين بأن نركب معه ليقتادنا للضابط المسؤول، ونحن نحاول بكل جهدنا أن نثبت بأننا مجرد شابين خرجنا لقضاء حوائج عائلاتنا. ولكنه رفض الاقتناع وأجبرنا على الركوب تحت تهديد السلاح بعد أن صادر هواتفنا. فما كان منا إلا الإنصياع مكرهين.


اقتادنا الجندي ومعه زمرة من الجنود الاخرين إلى معتقل يطل على إحدى الشوارع الرئيسية في العاصمة وأمرنا بالدخول بعد أن ترجلنا من مركبته المدججة بالسلاح، تفاجئنا بكمية مهولة من المعتقلين من كل الفئات العمرية شيباً وشبابا وحتى أطفالاً. من كثرتهم لا يجدون مكاناً للجلوس.


بدأ جندي أخر بتسجيل تفاصيلنا على ورقة وأخذ مقتنياتنا التي وجدوها معنا وأخفاها داخل ظرف، وقال ضاحكاً "سوف تستلمون أغراضكم، هذا إن خرجتم من هنا". عندها بدأ التوتر والخوف يدب فينا وعلمنا أننا مهما بررنا وشرحنا لن يشفع لنا، وأصبحنا رهائن مغلوبين على أمرنا. كانت الليلة الأولى في المعتقل مرعبة جداً ومازادها رعباً كان أصوات إطلاق النار التي أسمعها بين تارة والأخرى، وآهات المرضى والجرحى معي في الغرفة. كان همي الوحيد هو عائلتي وما إذا كنت سأراهم مرة أخرى.


رعب في المعتقل


بدأت الليلة الأولى في المعتقل ونحن لا نعلم ما قد يجول في خواطر أهالينا بعد أن تأخرنا في العودة إليهم على غير العادة وكيف يمكن أن نتواصل معهم لنعلمهم أننا بخير، قطع حبل أفكارنا صوت جندي ينادي علينا وفي يده سوط ويطلب مننا الجلوس أمامه. وما إن فعلنا حتى انهال علينا بالجلد وكأننا من افتعل هذه الحرب ونحن نتوسل إليه بأن يتوقف وبأننا لم نقترف شيء يستوجب كل هذا العنف. ولكنه لم يأبه وواصل في فعله حتى تعبت يده، حينها طلب مننا الرجوع إلى الغرفة التي كنا فيها بعد أن أدمى ظهورنا.


تساندنا أنا وصديقي ونحن في أشد الألم حتى وصلنا الغرفة التي كانت مليئة بالمعتقلين الذين استقبلونا بالتخفيف والمواساة، وأخبرونا أنهم يفعلون ذلك لكل معتقل في يوم حضوره وطمئنونا بأن الجلد لا يتكرر إلا اذا حدث شغب.


تمعنت وجوه الموجودين معي في الغرفة، كانت نظراتهم تبدو عليها اليأس والإرهاق وبدأت اسألهم عن أسباب ومدة إعتقالهم ومعظمها كانت أسباب واهية كالإشتباه في كونهم نظاميين أو اعتقال عشوائي. أما بالنسبة لمدة وجودهم في المعتقل والتي كان وقعها علي كالصاعقة، فقد تباينت ما بين الأسابيع والأشهر ومنهم متواجد منذ بداية الحرب. عندها علمت أننا لن نخرج من هنا إلا بمعجزة.


في اليوم الثاني بدأت اتحرك على الغرف واتعرف على المزيد من المعتقلين الذين كان بينهم الطبيب والمهندس والمحاسب وخيرة شباب الوطن، أقص عليهم قصتي ويبادلونني بقصصهم. وعرفت من بعضهم أن الماء محدود وأنه يجب علي الإحتفاظ ببعضه لليل الطويل وأن الطعام وجبتين في اليوم تتكون من العدس والدخن. وأخبروني أيضاً أن المعتقل به طابق تحت الأرض حيث يحتفظون بالنظاميين في ظروف أبعد ما تكون عن الإنسانية، أما الرتب الكبيرة فيحتفظون بهم في الطوابق العلوية للإستجواب.


معجزة بالعودة سالم وعلى قيد الحياة


تعرفت على طبيب طاعن في السن من مدينة كادوقلي حيث كان يقص علي قصصه منذ أن كان يعمل في حركة العدل والمساواة، وكيف أنه تفاجأ بابن أخته مع جنود المعتقل، ولعل هذا ما شفع له من الجلد ولم يشفع لغيره مع كبر سنهم.


وعدني أنه سيتوسط لنا عند قريبه إن احتجنا لشيء، فطلبت أن أتواصل مع عائلتي. وفعلاً أحضر لنا هاتف واتصلنا على عوائلنا وطمئناهم وأخبرناهم بمكان إعتقالنا. تواصلت عائلاتنا مع جميع معارفهم وكل من لديه علاقة بالدعم السريع لإخراجنا من المعتقل وفي اليوم الخامس استطاعوا اخراجنا بشق الأنفس وتركنا خلفنا المئات من المعتقلين الذين لايعلم مصيرهم أحد حتى الآن. 


هذه التجربة زادتني يقيناً بأن الخاسر الوحيد من هذه الحرب هو نحن المواطنين البسطاء الذين لم نقترف شيئا سوى الحلم بوطن آمن.


محمد عابدين

أدعى محمد عابدين، ولدت وترعرعت في دولة الامارات وحالي كحال معظم الشباب السودانيين من العوائل المهاجرة عدت إلى بلدي الأم لإكمال دراستي الجامعية، وبفضل الله توفقت وتخرجت من كلية الهندسة الإلكترونية بجامعة السودان وهممت للعمل في مجالي بكل كد وإجتهاد حتى ترأست إدارة قسمي في إحدى الشركات المحلية المرموقة. ما لبث ذلك طويلاً حتى اندلعت الحرب لتهدم كل أمالي وطموحاتي وكأن القدر أراد تلقيني أن دوام الحال من المحال وأن وطني على كف عفريت.