هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

دُور السينما في مدينة ودمدني 

استكمالاً لما تمّ الحديث عنه في المقال السّابق عن دورِ السينما في مدينةِ ودمدني، تاريخها وما كانت عليه، سنعرض العديد من العوامل التي أدّت الى نهايتها تدريجياً. و سننظر إلى كل الأسباب السّياسيّة والاقتصاديّة والمجتمعيّة، وإمكانيّة وتطلّعات النهوض بها كظاهرة ثقافيّة اجتماعيّة أثّرت في التركيبة الديمغرافية للمدينة لسنوات طويلة بهذا الفن الذي يمثل فارقة كبيرة في النهوض بالمجتمعات في كافة أرجاء العالم.  

مسرح 'الجزيرة' المهجور في مدينة ود مدني. . المصدر: محمد عمر لمجلة اندريا.

أنواع الأفلام التي كانت تُعرَض 

 إنّ الأفلام في جميعِ دُور السينما كانت تأتي من مؤسسة السينما السودانيّة التي كانت تتبع لوزارة الإستعلامات قبل أن تسمى وزارة الثقافة والإعلام. ويتذكر من واكبوا ذلك العصر أن الأفلام كانت تُعرض بالتزامن مع عرضها في دور السينما في دول العالم الأول، وكمثال فيلم (ضيف على العشاء لسيدني بواتيه) الذي عُرض في سينما الخواجة مع إصداره عالمياً، وفيلم (الحرب والسلام لتولستوي) الذي تم عرضه في سينما الخواجة كأول سينما عربية وأفريقية تقوم بعرضه. 

 من أشهر الأفلام التي كانت تقدم في سينما الخواجة هي الأفلام الأجنبية و (أفلام الكاوبوي) التي ناقشت موضوع العنصرية بشكل صارخ في ذلك الوقت، والأفلام الرومانية (أفلام المصارعة)، وبعض الأفلام المصرية التي بدأت تخطف الأنظار وتتحلى بالجاذبية آنذاك، والأفلام الهندية أيضاً. ان سينما الخواجة (كوليزيوم) و سينما (الوطنية) كما ذكرنا سابقا كانتا تستهدفان الطبقة المستنيرة نوعاً ما، وذكرنا انهما نوعيتان مقارنة بالسينماتين الحديثتين رودي وأمير اللتان قدمَتا في منتصف السبعينيات و استهدفتا المجتمع بشكل عام. هذا يعطينا أيضا فكرة عن نوعية الأفلام التي كانت تعرض. أما صناعة الأفلام السودانية فقد كانت ضعيفة وتعرض في اطار ضيق نوعاً ما، مما اقتصر تقديمها في السينما المتجولة فقط قبل بداية ظهور السينما الثابتة في المدينة، التي اهتمت بالتثقيف الصحّي ومحاربة العادات الضارّة وبعض الأفلام. من رواد السينما السودانيّة في ذلك الوقت الممثل عثمان حميدة الشهير ب( تور الجّر) نسبة لأول فيلم سوداني تمت صناعته ( تور الجر في العيادة) فقد تم عرض هذا الفيلم في السينما المتجولة في كافة ولايات السودان المختلفة،  وفي المدن بل وفي الأحياء أيضا.  

سينما الخواجة بمدينة ود مدني. المصدر: محمد عمر لمجلة اندريا.

بداية النهاية لدور السينما 

هنالك العديد من العوامل التي أدّت إلى نهاية دُور السينما في المدينة منذ سبعينيات القرن الماضي منها: دخول البثّ التلفزيوني الى البيوت في المدينة، فأصبحت المادة التي تقدم في التلفزيون تضاهي أحيانا ماتقدمه السينما، بل وبدأ التلفزيون بجرف عدد كبير من مرتادي السينما بإعادة عرض الأفلام المحبّبة لدى المجتمع. في هذا الوقت، بدأت سينمات جديدة كسينما (رودي) وسينما (أمير) في التعامل مع السينما كمشروع رأسمالي بعيد عن تنوع الأفلام وتقديم مادّة ثقافيّة،  بل اعتمدت بشكل مباشر على تقديم الأفلام الهندية الراقصة والغنائية والأفلام الموجهة للعامة، مما جعل الطبقة المثقفة تنفر من السينما بشكل كبير. البث التلفزيوني كان شيء جديد في ذلك العهد وصورة متحركة جديدة يمكن أن يمتلكها الشخص في بيته. بدأ أن يطفئ الشغف تجاه السينما ويقلل من جاذبيتها، مما جعل القائمين على أكبرهم وأقدمهم- و هما سينما (الخواجة) و سينما (الوطنية) يتكبدون خسائر ماديّة. فكما ذكرنا، السينما كانت السبيل الوحيد للترفيه، وعندما أتيحت فرص أخرى للترفيه قل مرتادي السينما من أسر وشباب. ظل هذا السبب ثانويا نوعا ما.  

السبب الأساسي كما يشير كثير من رواد السينما في ذلك الوقت وسكان مدينة ود مدني المعاصرين، هو قوانين سبتمبر وما تلاها من أحداث سياسية معقدة. فعندما طبّق الرئيس جعفر نميري قوانين الإسلام السياسي في سبتمبر 1983 لم يتم التعامل مع دُور السينما بطريقة مباشرة في القمع ولم يتم إغلاق دور السينما في ذلك الوقت. بل تم رفع نسبة الضرائب من قبل الحكومة، وتدخلت آنذاك بشكل سافر في نوعية الأفلام التي كانت تُقَدّم.  ما كان يسمى (بمقص) الرقابة أصبح طويلاً وحاداً لدرجة أنه كان يقص الفيلم بأكمله من دور السينما إن لم يكن يتماشى مع سياسات الحكومة وأهوائها أو يمنعه تماماً. 

سينما الخواجة بمدينة ود مدني. المصدر: محمد عمر لمجلة اندريا.

الصورة المتوهّجة للسينما خمدت تدريجياً خاصة لدى الطبقة المستنيرة. تم منع وايقاف كافة أنواع الأفلام التي كانت تستهوي هذه الطبقة وتشكّل لها بناء معرفي ينسج قضاياهم وإيمانهم بأفكار محدّدة، بل وتمردهم على مايصيب المجتمعات الداخلية والخارجية من مشاكل مثل العنصرية، والأفلام التي تقام على مناهضة الظلم والسياسات، وافلام الخيال العلمي. هذه الطبقة كانت تمثل الطبقة الرئيسية من رواد السينما خاصة لسينما (الخواجة) وسينما (الوطنية). هذه كانت بداية النهاية لسنوات طويلة كانت أمسياتها مليئة بالفن والثقافة والتثاقف والتبادل المعرفي . 

سينما الخواجة بمدينة ود مدني. المصدر: محمد عمر لمجلة اندريا.

السينما كانت وسيلة لكل ذلك بل كانت وسيلة لجلب ايرادات جيدة للدولة فهي مورد اقتصادي جيد جداً، وقوانين سبتمبر أثرت عليها كثيراً بشكل مباشر. فقد توقفت السينما في ودمدني عن مواكبة العالم كشكل و امكانيات ومواضيع، وهذا أدى الى بهتانها في أعين المشاهد الذي أصبح يشاهد العالم بعيون تكنولوجية أكثر وهج وتمكّن. الخلل الذي حدث لم يتعامل معه رواد السينما -من مجتمع بصورة عامة ومثقفين بصفة خاصة- بصورة ايجابية. بل خنعوا ولم يبتكر المثقفين مثلاً جمعيّات أو مبادرات للحفاظ على دُور السينما وعلى حركة الفن السينمائية في المدينة. 

نهاية السينما 

 كانت الضّربة القاضيّة للسينما في مدينة ود مدني هي وصول الحركة الإسلامية (الإنقاذ) لحكم البلاد، فقد تضاعف القمع والتضييق والكبت على السينما بشكل أدّى إلى إنتهاء السينما بشكل سريع، بعد أن تدرّج بشكل واضح للعيان منذ ارساء قوانين الاسلام السياسي، وصولاً الى حقبة المؤتمر الوطني. إن المؤتمر الوطني بمحاربته للجمال والفنون والوعي إستهدف السينما بشكل خاص وواضح ودقيق ومرتب. 

 إستمرت سينما (الخواجة) وسينما (الوطنية) حتى ثمانينيات القرن الماضي وتوقفتا تماماً في نهاية تسعينيات القرن الماضي، واستمرت سينما (أمير) و(رودي) في تقديم الأفلام الاستهلاكية حتى توقفتا تماماً في بداية الألفينات. ففي عهد نظام الانقاذ البائد تمت خصخصة الدُّور وبيعها وتهديمها وهجرها وطمس معالم هويّتها، وتحويلها الى مبانٍ سكنيّة أو مبانِ تجاريّة أو أماكن مهجورة للسكن العشوائي. مثلاً، سينما (رودي) أصبحت مبنى قديم ومهجور تسكنه أسرة بصورة عشوائية رغم إحتفاظه بالقليل من معالمه مثل المدرّجات. أما سينما (الخواجة) فقد طالها نفس الهجر والدمار. وسينما أمير فقد تم مسحها بالكامل وتحويل أرضها الى مبانٍ تجاريّة. 

 تطلّعات لعودَة السينما 

كانت هنالك في السنوات القليلة الماضية عدّة تحرّكات للنهوض بالسينما، خاصة في عهد الوالي محمد طاهر إيلا، فقام بعض الشباب بترميم سينما (الزمالك) وعرض بعض الأفلام عليها، و كانت أفلام سودانية تتراوح ما بين أفلام روائية طويلة وقصيرة و أفلام وثائقية. قدم الجهد أفراد، و مجموعات ثقافية، و مراكز ثقافية و لكن لم تتسم هذه العروض بالشعبيّة ولا تعدو كونها محاولات شبابية خجولة - وإن تمت بعناء شديد في عهد النظام الشمولي السابق للنهوض بصناعة السينما. كذلك تم عرض أفلام سودانية بصورة سرية في مدينة ود مدني لما تحمله من قضية.  

نهوض السينما بعد سقوط نظام البشير يعتمد على مناهضة كل الأسباب التي منعت قيامها من أسباب سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة، فمدينة ود مدني مازالت تتمتع بجمالها وتفردها وان تم التشويش عليها لسنوات طويلة، لذا من الممكن أن يستطيع المجتمع، ومنظمات المجتمع المدني، النهوض بكل ماتم تدميره بما في ذلك دور السينما.

سينما الخواجة بمدينة ود مدني. المصدر: محمد عمر لمجلة اندريا.نُشر هذا المقال كجزء من سلسلة تغطي كيف شكل نظام الإنقاذ مشهد الفنون والثقافة في السودان على مدى 30 عامًا. بدعم من .أفاق, الصندوق العربي للثقافة والفنون, المجلس العربي للعلوم الاجتماعية, ومؤسسة أندرو ميلون.


الاء جمال

آلاء جمال دفع الله، مهندسة تصنيع غذائي، كاتبة قصص قصيرة وشعر ومقالات، سبق لها أن نشرت في مجلتي "الجيل الجديد" و "الوراق" الرقمية. أصدرت كتابين ، مجموعة قصصية بعنوان "إتكاءة على جدار ماء" كمنحة لدار العرب (مصر) ومجموعة شعرية ثانية بعنوان "على حافة إندلاع الاعتقاد" من خلال دار اللوتس للنشر الحر في مصر. يمكن العثور عليها في كثير من الأحيان منخرطة ونشطة في العمل العام.