هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة لحرب السودان. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا.


عزيزتي أنا المستقبلية. أعرف كيف كنتي تشعرين أثناء الحرب في بلدنا الحبيب السودان وما مررتي به، الحرب التي حطمت قلبك وأحلامك وكادت تحطم مستقبلك. أعلم أن هذه الحرب قد بعثرت الكثير في دواخلنا، وسرعان ما أصبحت مسألة بقاء.


لكني أريد أن أشكرك على إيمانك ومعتقداتك، وعلى صلواتك ودعاءك كل يوم. لكونك مبهجة وقوية وملهمة لأولئك الذين كادوا يفقدون إيمانهم، وأريد أن أشكرك على صبرك لأنني أعلم أنه في المستقبل ستتحقق أمنياتي بأن ينعم السودان بالسلام ويصير من أقوى الدول في العالم، وسيمكنك العودة إلى الخرطوم والعودة إلى ديارك.


هذه هي الرسالة التي كتبتها لنفسي المستقبلية، كل السودانيين يأملون أن يعود السودان ذات يوم كما كان قبل إندلاع الحرب، بل وأفضل.


الحياة. بعدسة: سارة سيد


قرار مغادرة المنزل الوحيد الذي أعرفه


في 15 أبريل 2023، بدأت الحرب وكنت في حالة حيرة وقلق مثل أي شخص آخر. تمسكت بأمل أن الأزمة ستحسم قريباً، ولكن بعد ستة أيام بدأت أشعر بالذعر مع استمرار تزايد عدد الوفيات وبدأ المدنيون في الفرار من الخرطوم إلى ولايات أو دول أخرى. البعض قرر البقاء وهكذا فعلنا.


لم يكن قرار المغادرة ضمن خطتنا واعتقدنا أنه ربما تنتهي هذه الحرب قريبًا. علينا فقط اتخاذ الإحتياطات اللازمة وسنكون على ما يرام. لقد تم إتخاذ قرار الفرار بشكل عاطفي بحت، لأننا لم نكن بخير. كنت أستيقظ كل يوم على أصوات القنابل وطلقات الرصاص التي تخترق أذني مثل الطبل الذي يعزف داخل جسدي كله. بدأت أفقد الأمل تدريجيًا، وكان الأمر يؤثر سلبًا على الجميع ذهنيًا وكنا مرهقين. تفاقم هذا الوضع البائس مع انقطاع الكهرباء والمياه بالإضافة إلى نقص المواد الغذائية.


وفجأة، حدث إرتفاع كبير في الأسعار ولم يكن لدينا قوة للتفاوض لذلك تقبلنا الأمر من أجل تلبية الإحتياجات الإنسانية الأساسية للغذاء للبقاء على قيد الحياة. وماذا حدث بعد ذلك؟ هل يمكن أن يسوء الأمر أكثر من ذلك؟ نعم للأسف! سرعان ما أصبحت الفوضى والسرقة والإغتصاب والإختطاف تقترب من معظم المنازل، مما يعني أنه لم يعد أحد آمنًا حتى في منازلهم. أعلم أن المنزل هو المكان الذي يمكنك أن تشعر فيه بالأمان، ولكن بعد هذه الأحداث، كان علينا اتخاذ قرار حاسم. كان القرار هو مغادرة منزلنا و ملاذنا الوحيد.


أشخاص يركبون باص لمغادرة الخرطوم، السودان في يونيو 2023. المصدر: اسوشيتد بريس


لقد عشت في أم درمان وكنت أذهب إلى جامعتي كل يوم تقريبًا، لقد كان روتينًا يشبه الواجب ولكنه ممتع ومريح حيث يمكنني مقابلة أصدقائي والدردشة والتخطيط لأحلامنا المستقبلية. مضحك أليس كذلك ؟ الآن أفتقد تلك الأيام، أفتقد أصدقائي والجامعة وأفتقد المنزل.


كان اليوم الثاني من وقف إطلاق النار عندما غادرنا إلى عطبرة أولاً ثم واصلنا حتى وصلنا إلى بورتسودان. لم نعتقد أننا سنخرج من الخرطوم، كل ذلك بفضل الله الرحيم الذي تمكنا منه بطريقة ما.


«فاحمل بلادك أنَّى ذهبت، وكن نرجسيًا إذا لزم الأمر» ~ محمود درويش


الخسائر في كل مكان


إن معرفتي بأنني سأغادر منزلي تعني بالنسبة لي أني أترك أحد أفراد أسرتي لأن تفاصيل منزلنا تعيش داخلي. إن أي منزل سوداني لم يكن مجرد مبنى نشأ فيه الإنسان بأمان، ولكنه كان المكان الذي تعيش فيه كل الذكريات السعيدة والحزينة، كل الأعياد ورمضان والإحتفالات، وكل الأحلام التي بنيناها داخله. أفتقد غرفتي، ومكتبتي الصغيرة، ورائحة الشاي الذي أتناوله وقت المغرب مع عائلتي، وكل التفاصيل التي شكلت ما أنا عليه الآن. لقد تركتُ كل ذلك خلفي.


أعلم أن البعض قد عانى أكثر من غيره بسبب فقدان أفراد من عائلته. فقدت جارتنا ابنها العزيز البالغ من العمر ست سنوات برصاصة طائشة بينما كانا جالسين في ساحة منزلهما. لقد كان المشهد الأكثر رعبًا الذي رأيته على الإطلاق، وكان حزينًا جدًا حيث لم نجد كلمات مناسبة لمواساتها. لقد بكينا فقط على تلك الخسارة المأساوية، ولا يمكن لأحد أن يتخيل مدى صعوبة الأمر على هذه العائلة. ربما كانوا سعداء بالجلوس معًا عندما حطمت الرصاصة الطائشة سعادتهم. هذا المشهد جعلني أتساءل للأسف كيف يمكن أن يتغير كل شيء في ثانية واحدة فقط. استغرقت البداية الأولى للحرب ثانية واحدة، وهذه الثانية شتتت ملايين السكان تاركة الجميع قلقين وخائفين.


لاجئون من السودان ينتظرون استلام المواد غير الغذائية الأساسية أثناء التوزيع في كفرون، وهي قرية تشادية بالقرب من الحدود السودانية. المصدر: اليونيسف/دونيغ لو دو


عد النعم التي أحظى بها


أول مرة سمعنا فيها صوت قنبلة كان عالياً جدًا، أظن أن كل الناس في ولاية الخرطوم سمعوها. لأول مرة على الإطلاق لم يكن مشهد حرب في فيلم ولا خبر نشاهده على التلفاز، عشنا داخل الصورة، بل كنا محور الصورة.


قبل هذه الحرب، لم أكن أعرف النعمة التي كنت أملكها. أن تستيقظ وتعلم أنه لا يزال لديك منزل لتعود إليه بأمان بعد الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة أو العمل، هو الشيء الأكثر قيمة. حياتك العادية التي كنت تعتقد أنها مملة أصبحت الآن أمنية تأمل أن تعود، والسلام هو النعمة التي يجب على جميع الأشخاص الذين يمتلكونها أن يقدروها.


أعتقد أن هذه الحرب علمتنا درسًا مهمًا وهو أنه لا يوجد شيء يستمر للأبد. لن تستمر سعادتك وحزنك لفترة طويلة، وتقدير ما نملكه الآن هو أفضل طريقة لعيش الحياة. دعونا نحتفي بأولئك الذين ما زالوا معنا اليوم وأولئك الذين يدعموننا. يمكننا أن نخلق لحظات سعيدة طالما أننا معًا ونتذكر الأشياء الثمينة في حياتنا.


مهما حدث! بعدسة المصور السوداني: مصطفى يوسف أبو بكر


أعلم أننا جميعًا عانينا وفقدنا شخصًا أو شيئًا ذا قيمة، لكن علينا جميعًا أن نعرف أن هذه ليست النهاية، تمامًا كما قال مارتن لوثر كينغ: "فقط في الظلام يمكنك رؤية النجوم". طالما أننا على قيد الحياة، نتنفس ونحلم فسنكون مستقبل السودان، يجب أن نكون كذلك. علينا أن نتمسك بالأمل والإيمان، ونصلي بإخلاص من أجل السودان، ونرفع أيدينا بالدعاء وندعو من أجل وطننا.




سارة سيد أحمد عثمان

سارة طالبة طب في السنة الثانية بجامعة الزعيم الأزهري وهي أيضًا باحثة. تعمل حاليًا كمتطوعة في منظمة الهشاب للتنمية الريفية كرئيسة فريق التصميم. صانعة محتوى متحمسة للغاية وتحب الكتابة والتصوير والتصميم.