مدينة كوستي، الواقعة على الضفة الغربية لنهر النيل الأبيض في ولاية النيل الأبيض بالسودان، تُعتبر واحدة من المدن السودانية التي حافظت على استقرار نسبي خلال النزاع المستمر منذ أبريل 2023. وتقع على بُعد حوالي 260 كيلومتراً جنوب الخرطوم، وتُعتبر نقطة عبور استراتيجية تربط بين شمال وجنوب السودان، ما جعلها ملاذاً للعديد من النازحين داخلياً.
ونسبةً لموقعها الجغرافي القريب من جنوب السودان ووجود الميناء النهري، تستضيف كوستي عدداً كبيراً من الأفراد المنتمين لقبائل جنوب السودان، مثل الشلك والدينكا والنوير، الذين جاءوا هرباً من النزاعات أو بحثاً عن فرص اقتصادية. إضافةً إلى ذلك، تحتضن المدينة جالية قبطية تُشكّل جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي لكوستي، وتساهم في النشاط التجاري والثقافي المحلي.
التاريخ والنشأة
تأسست كوستي في أواخر القرن التاسع عشر على يد التاجر اليوناني كونستانتينوس "كوستاس" موريسيس بعد انتصار القوات الأنجلو-مصرية على الدولة المهدية. أقام كوستاس متجراً على النيل الأبيض، حيث كان الحجاج من غرب إفريقيا في طريقهم إلى مكة، وسرعان ما نمت المستوطنة إلى مدينة سُميت باسم "كوستاس" التي أصبحث تسمى كوستي لاحقاً.
الوضع الإنساني والأمني الحالي
أصبحت كوستي ملاذاً آمناً للنازحين من مناطق النزاع في السودان. وصل إليها آلاف الأشخاص من الخرطوم وولايات الجزيرة وكردفان ودارفور، بالاضافة للاجئين من جنوب السودان بحثاً عن الأمن والخدمات الأساسية. ووفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، نزح أكثر من 149,000 شخص من جنوب السودان إلى داخل السودان، معظمهم من الخرطوم جنوباً إلى ولاية النيل الأبيض، التي كانت تستضيف بالفعل 110,000 لاجئ من جنوب السودان في مخيمات اللاجئين.

لاجئون في مركز العبور في الرنك، جنوب السودان، ينتظرون نقلهم إلى مقاطعة ملوط. المصدر: UNHCR
هذا التدفق السكاني الكبير فرض تحديات إضافية على المدينة، بما في ذلك الضغط على الإسكان والخدمات الصحية والتعليمية، لكنه أيضاً أوجد ديناميكية جديدة في الأسواق المحلية ودفعة لمبادرات الدعم المجتمعي التي أطلقها الشباب والمنظمات المحلية لتخفيف معاناة الوافدين الجدد.
تُعدّ كوستي من أبرز المدن التي حافظت على قدر من الاستقرار النسبي خلال النزاع المستمر منذ أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. ورغم هذا الاستقرار، واجهت المدينة تحديات أمنية متكررة، أبرزها الهجمات بالطائرات المسيّرة التي استهدفت مواقع عسكرية ومرافق حيوية. فعلى سبيل المثال، تعرّض مقر الفرقة 18 مشاة لهجوم أدى إلى انفجار ضخم بعد تدمير مستودع للوقود. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال المدينة تتعرض من حين لآخر لهجمات مماثلة، ما يثير قلق السكان ويهدد حالة الاستقرار التي اشتهرت بها كوستي مقارنة بمدن أخرى في البلاد.

تعرض مستودعات وقود قرب هيئة النقل النهري في مدينة كوستي، لهجوم بطائرات مسيرة. المصدر: رادار العرب
كما شهدت المدينة أزمة صحية حادة، عند تفشي وباء الكوليرا في عام 2025، الذي أسفر عن وفاة 58 شخصاً وإصابة حوالي 1,300 آخرين خلال ثلاثة أيام فقط. تُعزى هذه الأزمة إلى تلوث مياه الشرب بعد تدمير شبكة المياه المحلية خلال الهجمات العسكرية.

تم وصف الوضع في مستشفى كوستي وقتها بأنه مقلق للغاية وخارج عن السيطرة. المصدر: راديو دابنقا
أبرز المبادرات الشبابية في كوستي
برزت في كوستي عدد من المبادرات الشبابية والإنسانية التي تهدف إلى دعم النازحين وتخفيف معاناتهم، خاصةً أولئك القادمين من مناطق النزاع، نذكر منها:
مبادرة شباب حي النصر: أطلقت المبادرة مشروعاً إنسانياً يهدف إلى دعم الطلاب الذين يواجهون صعوبات مالية أو اجتماعية تحول دون إكمال إجراءات تسجيلهم للامتحانات، إلى جانب تنظيم إفطار جماعي في معسكر النازحين بمنطقة قوز السلام. وشهدت الفعالية توزيع وجبات إفطار على الأسر النازحة، إضافة إلى مبادرة “كيس الفطر” التي استهدفت عدداً من الأسر المتعففة خلال عيد الفطر، في خطوة إنسانية تعبّر عن روح التضامن المجتمعي التي تميز شباب كوستي.

توريع كيس الفطر على النازحين في مدينة كوستي بواسطة شباب حي النصر. المصدر: صفحة مبادرة شباب حي النصر على الفيس بوك
مبادرة شباب الخير: عبر منصة تيك توك، أطلق شباب كوستي حملة لدعم مراكز الإيواء، مثل مخيم الإنقاذ (ب) ومدرسة أركويت، من خلال جمع التبرعات وتوفير الاحتياجات الأساسية للنازحين.
منظمة كوستي للثقافة والتنمية: ساهمت المنظمة في ردم وتأهيل خمس مدارس متوسطة بمدينة كوستي، بالإضافة إلى تقديم الدعم للنازحين والمتضررين من خلال مشاريع تنموية وثقافية.
مبادرة جسور الخير: قدمت هذه المبادرة وجبات متخصصة للأطفال في مراكز الإيواء، مناشدة المنظمات وفاعلي الخير لتقديم الدعم اللازم.
الأقباط في كوستي
تحتضن مدينة كوستي عدداً مقدّراً من الأقباط، الذين يشكّلون جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمدينة. يشتهرون بنشاطهم التجاري في سوق كوستي، حيث تدير العديد من الأسر محالاً شهيرة توارثها الأبناء عن آبائهم. ومن بين هذه الوجوه المعروفة في الذاكرة المحلية، "فيكتور" في حي النصر الدرجة الثانية، حيث كان يدير أحد أقدم الدكاكين، ويواصل أبناؤه تشغيله بنفس الروح العائلية والتقليدية التي ميزته على مدار السنوات.
تُعدّ كنيسة الأقباط الأرثوذكس في كوستي مركزاً دينياً واجتماعياً مهماً للجالية القبطية في كوستي، وتُساهم في تعزيز التعايش الديني والثقافي في المدينة. إذ تعتبر من أبرز معالم المدينة، وتمتاز بطابعها المعماري الفريد الذي يلفت الأنظار ويُعدّ من العلامات البارزة في المشهد العمراني المحلي، لتشكّل مع الأسواق القديمة والنيل الأبيض جزءاً من هوية كوستي المتنوّعة.
وما لاحظته أن الأقباط كانوا من أوائل العائدين إلى المدينة بعد موجات النزوح التي شهدتها كوستي منذ بداية الحرب، وذلك عقب استعادة حالة الاستقرار وإزالة التهديدات الناتجة عن دخول قوات الدعم السريع إلى المدينة.

كنيسة الأقباط الأرثوذكس في مدينة كوستي. المصدر: blogspot
الأسواق في مدينة كوستي
تُعدّ مدينة كوستي مركزاً تجارياً حيوياً في السودان، إذ تحتضن مجموعة من الأسواق التي تلبي احتياجات السكان المحليين والوافدين من القرى والمناطق المجاورة، ممن يقصدون المدينة للتسوق أو لتلقي العلاج في مستشفياتها.
يُعتبر سوق كوستي الكبير من أبرز هذه الأسواق، ويشتهر بتنوع أنشطته التجارية التي تشمل بيع الخضروات والفواكه الطازجة، الملابس، المواد الغذائية، وحتى المواشي أحياناً.

مختلف المنتجات المعروضة للبيع في سوق كوستي الكبير. المصدر: الراكوبة نيوز
يضم السوق أيضًا سوق الملجة، وهو القسم الذي يتخصص في بيع الخضر والفواكه بالجملة أو القطاعي، إلى جانب سوق السمك الذي تُجلب إليه الأسماك الطازجة من نهر النيل الأبيض القريب. كما تنتشر في محيط السوق العديد من المطاعم الشعبية المتخصصة في إعداد مختلف أنواع الأسماك، ما يجعل من السوق الكبير وجهة اقتصادية وغذائية نابضة بالحياة تجمع بين التجارة والمذاق المحلي.

سوق الملجة. المصدر:سكووب نيوز
إلى جانب السوق الكبير، يعتبر السوق الشعبي ثاني أكبر سوق في المدينة ويتميز السوق بانتشار محال بيع الأواني المنزلية، التي تُعرض فيها منتجات محلية الصنع إلى جانب المستوردة، ومحال بيع الملايات والستائر ما يعكس تنوع الأنشطة التجارية في المدينة وازدهارها. كما يحتضن السوق العديد من الأعمال المحلية الصغيرة التي تمثل مصدر رزق أساسي للعديد من الأسر في كوستي.
أدى تدفّق النازحين إلى كوستي منذ اندلاع النزاع إلى ضغط ملموس على الاقتصاد المحلي. حيث ازدادت معدّلات الطلب على السلع الأساسية والإيجارات، ما دفع الأسعار للارتفـاع في أسواق المدينة، خاصة في السوق الكبير وسوق الملجة. في المقابل، وفّر هذا التدفق فرصة مؤقتة لتجار التجزئة والجملة الذين سجّلوا ارتفاعاً في المبيعات، بينما تزايدت الضغوط على الأسر الفقيرة والمساكن المتاحة.
وأفادت تقارير محلية وشهادات ميدانية بارتفاعات ملحوظة في الإيجار حيث ارتفت الايجارات من معدل (100-200 الف جنيه) إلى (800-900 ألف جنيه)، مما أدى إلى اكتظاظ مراكز الإيواء المتاحة بالنازحين وعدم وجود أماكن أخرى مما اضطر العديد من النازحين إلى السكن في الأسواق والمساجد وغيرها من الأماكن العامة.
خاتمة
رغم ما فرضته الحرب من نزوحٍ وضغوطٍ اقتصادية وخدمية، تظلّ كوستي نموذجاً لمدينةٍ استطاعت أن تحافظ على تماسكها الاجتماعي واستقرارها النسبي في قلب أزمةٍ وطنية ممتدة. بين ضفتي النيل الأبيض، تتقاطع في شوارعها حكايات النازحين من الشمال والغرب والجنوب، مع أهلها الذين فتحوا بيوتهم وأسواقهم لاستقبال الوافدين. ومع استمرار الجهود الشبابية والمجتمعية في دعم المحتاجين وإحياء الأسواق المحلية، تبقى كوستي شاهداً على قدرة المدن السودانية على الصمود والتكيّف، وعلى أن روح التعاون والتنوع يمكن أن تُمهّد الطريق نحو تعافٍ إنساني واقتصادي في المستقبل.