هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة لحرب السودان. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا.


المقال مبني على أحداث حقيقية ترويها الكاتبة.


اليوم الأول


عيناك معلّقتان بالسقف، تفكّر في الرفاق... وفي كل الدروب التي مشيتها، الدروب التي لم تقدك الى أي مكان، ولم تصنع منك رجلاً عظيماً، أو رجلاً جديراً بالعظمة. تبدو لك كل الخيارات التي اتخذتها وقادتك الى هذه اللحظة طبيعية ولابد منها. أنت لم تقترف خطئاً ما، لكن هذه الأمور تحدث أحياناً. قد يحدث بين يوم وليلة أن تندلع حرب هوجاء في مدينتك، فتسمع دوي القذائف وهي تسقط على بيوت الجيران، وضوضاء الدبابات التي لا تنفك تمشّط شوارع حيكم بحثاً عن الجنجويد. قد يحدث أن تنقلب الخرطوم رأساً على عقب، ولا تعود تسكن عماراتها سوى "الكدايس" كما قال الجنرال دقلو في إحدى خطبه التي غالباً ما يتم تناولها بالسخرية. وأنت، لأنك ساخر بطبعك، كنت تضحك على نفسك بينما تحدّق في ظلام غرفتك، خائف، وحيد، وغارق في البؤس.


أحد الأشخاص يراقب أعمدة الدخان تتصاعد من المباني في الخرطوم. المصدر: مروان علي/أسوشيتد برس


رغم كل ما يحدث لم تطق فكرة مغادرة منزلك، ملاذك الآمن. حيث خطوت أولى خطواتك ممسكاً بذيل ثوب والدتك. ما زالت جدرانه تردد رجع صوتها، ما زلت تشم عبقها في المكان. كيف عساك ترحل وهي ما زالت هنا؟


يؤرقك رحيل والدك وشقيقتك، أنت قلق عليهما. ظللت تحاول مهاتفتهما طوال يوم أمس قبل أن تنقطع الكهرباء وشبكة الاتصالات. آخر مرة تحدثت اليك أختك قبل ثلاثة أيام، قالت أنهما وصلا بأمان الى مدينة مدني، وهما في طريقهما لأقاربكم الذين سيمكثون معهم في الوقت الحالي، وحيث سينتظران حضورك على أحرّ من الجمر. لم تعقّب على كلامها، طلبت منها أن توصل سلامك لوالدك. إنه غاضبٌ عليك، وأنت مللت الجدال معه بشأن عدم رغبتك في ترك الخرطوم.


قضى والدك شبابه يتنقّل من ولاية الى أخرى مؤدياً شتى أنواع الوظائف قبل أن يستقر أخيراً في الخرطوم. لم يكن رجلاً حساساً بطبعه، على عكسك أنت. لهذا لم ير نفسه فيك، وكثرت المشاكل بينكما، خاصة بعد وفاة الوالدة.


قطعت قرقرة معدتك تفكيرك العميق، تضايقك حقيقة أن لديك وجوداً فيزيائياً في هذا العالم. تتمنى لو كنت شبحاً، أو مجرد فكرة. ربما لأنك لا تجيد الطهو. تبدل ملابسك وتخرج من غرفتك، تركض نحوك قطتك الأم وتموء بإلحاح. لم تطعمها شيئاً منذ انقطاع الكهرباء مساء الأمس، تتسائل إن كانت القطط تأكل صغارها عندما تجوع كما يقولون، لكنك لا تريد دفع ثمن معرفة كهذه. تضع على صحنها بعض الفتات ثم تهمّ بالخروج.


 يخيّل إليك أن شوارعكم شبه الخالية ساكنة سكون المقابر، لكن ضجيج العيارات النارية لا يتوقف. أنت فقط تشعر بالموت يهيم حولك، تشعر ببرودته تقتل دفء شمس الخرطوم الملتهبة، وتضفي طابعاً سوداوياً لحيكم الذي اعتاد أن يكون حياً ومشرقاً. تمر سريعاً ووجلاً بعدة منازل مجاورة شاع أن قوات الدعم السريع قد طردت أصحابها واستولت عليها. تنعطف عدة مرات حتى تكاد تتوه محاولاً تجنب أماكن الاشتباكات قبل أن تصل أخيراً الى متجر البقالة الوحيد الذي ما زال يعمل في المنطقة. كانت معظم السلع قد أوشكت على النفاذ. ابتعت عدة صناديق من السجائر، بعض السكر والمعلبات. حرصت على أخذ الكثير من التونة على وجه الخصوص، ثم اتجهت صوب المخبز المجاور. كان الصف يمتد الى ما لانهاية، وانت لا تقوى على الإنتظار.


صفوف الناس اللانهائية للحصول على الخبز خلال الإشتباكات بين قوات الدعم السريع شبه العسكرية والجيش في الخرطوم. المصدر: رويترز


لو كانت أختك موجودة لاقترحت أن تصنعوا رغيفكم في بيتكم. لا تدري من أين تأتي بكل تلك الطاقة، والرغبة في الحياة. بعد كل ما حدث لك، ومازال يحدث حتى الآن، بدأت تقتنع بفكرة أن الحياة لعنة ؛ الحياة في السودان على الأقل.


تطفق عائداً الى منزلك، قابضاً بإحكام على كيس الخبز الذي دفعت ساعات من عمرك في سبيله؛ وأنت تدعو أن تكون الكهرباء قد عادت الى المنزل في غيابك. صوت الاشتباكات المجاورة أوضح من اللازم، والحي بأكمله غارق في الظلام. تتبخّر آمالك عندما يلوح بيتكم المظلم في الأفق. تجرجر ساقيك نحو المدخل بوهن وأنت تفكر جدياً في إنهاء حياتك، لكن ما إن تدركك قططكم عند الباب حتى تتسلل ابتسامة باهتة الى شفتيك.


بعد أن اسكتّ تسع بطون أمضّها الجوع؛ استلقيت على سريرك تفكّر في الماضي، في زهرة شبابك التي منحتها لوطن يرفض أن يتغيّر، وطن ظل يكافئك بتحطيم أحلامك البسيطة ورهن مستقبلك لأطماع الآخرين. كل تلك الأيام التي قضيتها في خدمة الحي كفرد من لجنة مقاومة المنطقة، مستشعراً مسؤولية عظيمة، ومحملاً بحظك من الآمال في مستقبل أفضل. الإعتقالات، العنف، الإهانة، التظاهرات في شوارع الخرطوم حيث وقفت بصدر عارٍ أمام بنادقهم، وبحّ صوتك من الهتاف للحرية، والسلام، والعدالة. رغماً عنك تشتاق الى تلك الأوقات، عندما كنت معتّداً بنفسك... على يقين من كل شيء. الآن يثقلك الندم وتساورك الشكوك.


اليوم الثاني


مر يومان على عزلتك، الحر لا يطاق. شغلت نفسك بحلاقة شعر قططك الثمان، وغفلت بالطبع عن العناية بنفسك. كنت تأكل مرة واحدة في اليوم، كيفما اتفق، لكنك تحرص على إطعام القطط بانتظام.


تذكر أنك لم تكن تنوي الاحتفاظ بهذا العدد المهول. كانت القطة الأم ملكاً لصديقتك، أعطتك إياها عندما أصرّت والدتها على طردها. وعندما أنجبت أردت أن تبيع الصغار سريعاً، ولما لم تجد برجوازياً جديراً بشرائها ففكّرت أن تعرضها للتبني المجاني. تواصلت مع أناس كثر ودبرت أمرها، لكن عندما جاء يوم التسليم عجزت عن فعلها. خيّل اليك أن القطة الأم نظرت نحوك بغضب بالغ، كأنها تؤنبك على محاولة إبعاد صغارها، ومن خلف عينيها السوداوين شعرت بنظرات صديقتك تخترقك هي الأخرى. مذ ذلك الوقت أبقيتهم في منزلكم، رغم ضيق والدك وشقيقتك، ولم تجرأ أبداّ على ذكر السبب. أنت سعيد الآن لأنك لم تقدم على تلك الخطوة، كم كنت لتكون وحيداً لو فعلت! مع ذلك؛ تتمنى لو أمكنك التحدث الى أي انسان. احياناً كنت تتخيل أصدقائك جالسين بصالون منزلكم، يتضاحكون ويلقون دعابات قاسية عن حلاقة رأسك أو هوسك بصديقتك رانيا؛ إحدى العضوات الفاعلات في لجنة مقاومة منطقتكم. الفتاة التي جرّتك للهلاك بعينيها الساحرتين، ودفعت أنت وهي ثمن محبتكما للوطن، وربما لبعضكما البعض. تود لو تسمع صوتها مرة بعد، لكنك سرعان ما تطرد ذكراها من رأسك. ورغم كل شيء؛ ما زلت تمنّي نفسك في الليالي الحالكة ببزوغ فجر يشبه ابتسامتها العنيدة، ليلملم ما تبعثر داخلك ويقودك للخلاص.


صورة لقطط رانيا. المصدر:رانيا


انبلج الصباح أخيراً، كاشفاً عن شوارع مضرجة بالدماء، ودموع جفت في محاجر لم تألف سوى الألم. راقبت من خلال النافذة جيرانكم وهم يجمعون أمتعتهم استعداداً للرحيل، أطفالهم جالسون على الأرض أمام باب المنزل بلا حراك. راعتك عيونهم المتسعة، كانوا ثلاثة يلقون نظرات هائمة على ميدان الكرة حيث اعتادوا الركض طوال اليوم. اقتربت أمهم لتضع صندوقاً داخل السيارة، كان وجهها خالٍ من التعابير، لكن يداها لم تكفا عن الارتعاش. لم يبق الكثيرون في حيكم، تخشى أن يرحل الجميع وتبقى أنت لقمة سائغة للجنجويد.


تعود بك الذاكرة الى أيام فض اعتصام القيادة، تبرد أطرافك وتخور قواك. تبتعد عن النافذة لتجلس على أريكة مجاورة وأنت تحاول التقاط أنفاسك. ما زالت نوبات الفزع تراودك عند التفكير في ذلك اليوم. تقوم بتنظيم شهيقك وزفيرك كما علمتك رانيا. كانت معتادة على نوبات الفزع هي الأخرى، بل اعتادت ما هو أكثر من ذلك. أخبرتك بعد شهرين تقريباً من لقائكما بقصتها؛ كنت جالساً على مقعد بجوارها، تتلقف كوبي القهوة من يد ست الشاي، بينما كانت رانيا تطالع العبارة وهي تمخر عباب النيل الكائن أمامكما، بهيبته وحميميته.


كان الجو مناسباً لتبوح لك بأهم اسرارها، وأسوء ذكرياتها على الإطلاق. شعرت بالدماء تغلي في عروقك عندما شاركتك آلامها بعينين دامعتين وثغر مفترّ، لم تدري كيف عساها تضحك وتبكي في آن واحد بينما تروي لشخص بالكاد تعرفه قصة اغتصابها المفجعة. قالت بين ضحكاتها وشهقاتها :" لم يكن الاعتصام وحده الذي فُضّ ذلك اليوم!". لا تدري لماذا لا تنفك تعود الى هذه الذكرى. لماذا تصر على نكئ جراحك بيديك، لكنك على يقين من أن رانيا بخير وعلى قيد الحياة. " نعم! هي بخير! فتاة بهذه القوة والصلابة لن تقتلها دانة في سقف المنزل أو بضع طلقات طائشة. أليس كذلك؟ ها؟" تقول وأنت تحدق في عينيّ قطتها بتحفّز، فتموء بصوت منحفض ثم يتّسع بؤبؤاها وتهمّ بالقفز نحوك.


اليوم الثالث


في اليوم الثالث من عزلتك الإجبارية عكفت على قراءة كل الكتب في مكتبتكم. حاولت البدء بكتب والدك؛ كانت في معظمها تتناول تاريخ وسوسيولوجيا السودان، بالإضافة الى دواوين شعر قديمة لشعراء سودانيون نسيهم الزمن. لم تكن قراءتها سهلة، كانت تبعث فيك احساساً بالذنب، وشعرت أن الكلمات تحاول إكراهك على الشعور بالإنتماء للوطن مجدداً، كما أن وقعها كان رتيباً، على النقيض من روايات الأدب العالمي التي احتفظت بها شقيقتك، فوجدت نفسك موغلاً في عالم أجاثا كريستي ودان براون وغيرهما. لوهلة لم تعد أذناك تلتقطان أزيز الطائرات الحربية، وتلذذت بالعيش لبعض الوقت في واقع مغاير، حتى ولو كان ديستوبيا أخرى كالتي خلقها جورج أورويل، فلا يوجد ما هو أسوء في نظرك من الواقع الذي خلقته حرب الخامس عشر من أبريل.


لم تكن من عشاق القراءة قبلاً، ربما لم تقرأ كتاباً واحداً في حياتك سوى الكتب المتعلقة بتخصصك الجامعي. أنت لا تحب الجلوس والتحديق بسلبية الى الكلمات، بل تحتاج دوماً أن تفعل شيئا ما، أن تعمل بيديك وتصنع التغيير الذي تود أن تراه. لطالما كانت داخلك تلك الطاقة المتفجرة التي تتوق للخروج، وربما لهذا انضممت الى لجنة مقاومة المنطقة، ليس فقط لتساعد الآخرين، ولا لأن رانيا سلبت قلبك، رغم أنها فعلت. لكنك منذ بداية الحرب لم تعد قادراً أو راغباً في فعل اي شيء. لم تبحث في داخلك عن تلك الطاقة، لعلك لن تجدها حتى وإن فعلت.


بينما أنت تقرأ، تضيء شاشة هاتفك فجأة. تراقبه يهتز على المنضدة وأنت ترخي قبضتيك عن الكتاب وتزدرد لعابك في توتر. تنهض سريعاً وتتناول الهاتف من مكانه، تطالع شاشته لثوانٍ ثم ترد.

"الو؟....الو؟....."


صورة لأحد المنازل التي تحولت إلى أنقاض نتيجة القصف. المصدر: أ ف ب


الشبكة سيئة...لم تستطع سماع أي شيء قالته اختك، لا يمكنك تحديد ان كان صوتها يبدو بخير أم لا، لكنك تسمع ضجة حولها. ربما هي تجلس آمنة مع والدك في بيت العائلة وسط أطفال اقاربكم المزعجون...أو ربما قامت جماعة نهب مسلح باختطافهما، او اعترض طريقهما جنجويد أو جياشة. هناك عشرات الارتكازات العسكرية بين مدني والجزيرة كما سمعت. مهلاً مهلاً...ما يدريك أنها ليست في طريقها الى دارفور الآن لتُباع مقابل بعض الفكة؟


أغلقت المكالمة وهاتفتها ثانيةً...لا شبكة على الإطلاق هذه المرة. تييت تييت تييت. أنت تفقد صوابك الآن. تلقي بهاتفك نحو الحائط بعد محاولتك التاسعة وتصرّأسنانك. أحدهم يقرغ الباب يقاطع نحيبك، تتأخر في فتحه خشية أن يكون خلفه مراهق جنجويدي تخالجه رغبة عارمة لتفريغ ذخيرته في جمجمة خرطوميّ منعّم. هل حظيت بامتيازات فعلاً كما يدّعون؟ ربما لأنك ولدت لأبوك ولأمك، لكن هذا لا يمنحك امتيازات طبقية فحسب، بل هو ما يجعلك أنت...ما يجعل معاناتك لك وحدك، ونعيمك لك وحدك أيضاً.


تذكّرت فجأة زميلك في الجامعة، ذاك الرفيق المحنّك. كان يناضل بشدة لإقناعكم بمفاهيم الإشتراكية، مستعيناً بالمبدأ الفطري القائل بأن الجميع سواسية. لم تكن ملماً بالإقتصاد أو السياسة، لكنك حاججته قائلاً أن الاشتراكية تساوي بين الناس في الأموال، ولكن من ذا الذي يقدر أن يساوي بين الناس فعلياً وفي كل شيء؟ "أوليس من الظلم أن نقتسم مال الدولة سواسية بينما تنفقه أنت في ملذات الحياة وينفقه آخر في علاج مرض عضال؟" قلت بنظرة انتصار على وجهك، كأنك اكتشفت لغز الكون، أو أدركت حقيقة غائبة. تتسائل الآن بعد أكثر من خمس سنوات؛ هل كانت الإشتراكية لتمنع ما حدث؟ هل كانت أي نظرية في السياسة، أو الأجتماع أو الاقتصاد لتحقن دماء أبناء بلادك الأبرياء؟


تعالج قفل الباب غارقاً في أفكارك، وزائرك المجهول يطرق بلا توقف. تتنهّد بعمق وتسحب الباب نحوك أخيراً ليطلّ عليك من خلفه وجه مألوف.

" يا مان! وين أنت ياخ ما ظاهر! أنا قلت تكونو سافرتو"

" ناس البيت ديل سافرو لكن انا ما مشيت...ما قادر افوت بيتنا والله يا الفاتح"


يدعوك جاركم الفاتح للغداء في المسجد. يخبرك أن ما تبقى من رجال الحي صاروا يتناولون وجباتهم الثلاث هناك ويبقون على اطّلاع بأحوال بعضهم البعض، الأمر أشبه بمجموعة دعم نفسي حول مائدة طعام واحدة. ترفض بأدب، لست جاهزاً بعد لمواجهة "الخارج". تشعر أنك ستُقتل إن خطوت خطوة واحدة خارج المنزل، أما داخله فأنت محميّ، أمك هنا...طوال الوقت. تسأله عن الكهرباء وشبكة الإتصالات، فيخبرك أن الجميع يعانون من غيابهما، الا أن ذلك المحامي في المربع المجاور تمكّن من توصيل كهرباء الى بيته بطريقة ما، ويقال أيضاً أن المهندسون يعملون الآن لإصلاح الأعطال في المحطة، وأن كل شيء سيعود الى طبيعته قريباً. تتأمل وجهه الباسم؛ هو حقاً يظن أن الأمور ستتحسن قريباً، لكنك لا تحب التمسّك بآمال زائفة، ولا شيء أسوء بالنسبة اليك من انتظار الفرج.


اليوم الرابع


في اليوم الرابع من عزلتك تفقد السيطرة. تنعي المستقبل الذي لم يعد ملكاً لك، ولم تعد تملك طاقة لملاحقته خلف إعلانات إدارة جامعتكم التي لا تصدر أبداً، وتصريحات طرفي النزاع المخيبة للآمال. ربما لم يكتب لك أن تكمل دراستك... ثورة ووباء وإنقلاب وإضرابات لم تنتهي سوى بحرب مروّعة. تذكر بالتفصيل اليوم الذي وصلك فيه خبر قبولك بالجميلة (لقب جامعة الخرطوم) كأنه لم يكن قبل ست سنوات، لكن اجترار هذه الذكريات لا يجلب سوى غصة في حلقك.


عائلات تفر من منازلها بحثاً عن الأمان. المصدر: أخبار أفريقيا.

اليوم الخامس


في اليوم الخامس من عزلتك تنهض من سريرك بعد ساعات من تأمل السقف. تبدأ يومك بكوب من الشاي وسجارتين تدخنهما في حوش البيت وأنت تضع هاتفك نصب عينيك. البارحة انتهى شحن ال "باور بانك" ولم تعد تملك خطة احتياطية لإبقاء هاتفك حياً. تناولته وشغّلت أغنيتك المفضلة. نفثت دخان سجائرك وأنت تتمزّج بصوت ود الأمين، ثم قضيت نهارك تلاعب القطط وتعبث في هاتفك.


حاولت جاهداً أن لا تفكّر في أي شيء أو شخص. وأن لا تستحضر أي ذكرى منغّصة من ماضيك، سواء كانت سعيدة لا يمكنك استعادتها أو سيئة لا يمكنك تغييرها. لكن إن كان هناك شيء واحد يفترض بك تعلّمه من كل ما حدث لك؛ هو أن الأمور نادراً ما تسير كما خُطط لها. " أنت تريد، والله يفعل ما يريد" كما اعتاد والدك أن يقول.


القطة الأم خائفة ومضطربة بشكل واضح. المصدر: رانيا

عند الثامنة والربع مساءً يباغتك أزيز الطائرات الحربية وأنت تطعم القطط في المطبخ، ويمزّق دوّي الانفجارات سكون الليل في حيّكم. يمكنك سماع جيرانك بوضوح وهم يصرخون ويركضون في كل مكان. تركض الى غرفتك وتنبطح من فورك تحت السرير، تتكوّر على نفسك مغلقاً أذنيك بيديك، وتتضرّع الى الله بكل أوتيت من يقين أن ينجيك من هذا. تتصاعد أصوات القذائف والعيارات النارية، وتتخبط قططك الثمان بجنون بين أروقة البيت. كان الرعب الذي شعرت به يفوق الوصف، كأنك تعيش مئة نوبة فزع في آن واحد.


بقيت على حالك، تحت السرير، لبضع ساعات وما زالت الاشتباكات على حدتها. تجرأت أخيراً على النهوض وذهبت لتطمئن على قططك، لكنك لم تجد منهم سوى القطة الأم. خرج بقيتهم عبر نافذة البيت الى الحوش، ثم تمكنو بطريقة ما من الوصول الى الشارع. تبادلت وقطتك النظرات، كانت تطالعك بلا حراك لبعض الوقت ثم تحرّكت فجأة باتجاهك، تجاوزتك لتقفز من النافذة هي الأخرى فتبعتها وحاولت امساكها واعادتها الى الداخل خشية أن تصيبها قذيفة أو رصاصة طائشة. كانت تتقافز حولك ثم تهرب عندما تقترب منها. قفزت فوق حائط البيت وبدأت تموء. ركبت على كرسي لتصل اليها ومددت يديك نحوها وأنت تتوسلها أن تنزل، ألقيت نظرة الى الأفق الملبّد بسحب دخانية كثيفة أخفت مئذنة جامع الحي، وفوق المئذنة بأمتار قليلة تحلّق السوخوي وتراوغ لتفادي مضادات الصواريخ التي يطلقها الجنود الأطفال. لكن قطتك ما زالت تطالعك وتموء! تموء باستفزاز! ساخرة من خوفك وتعلّقك بحياة ولّت، بشبح والدتك، وبيت لم يعد تسكنه سوى الكدايس!


تسلّقت الحائط وأنت تسب وتلعن، امسكت قطتك وضممتها اليك. لكن قبل أن تحظى بفرصة للعودة الى الداخل تسقط دانة من اللامكان على سقف بيتك وتحيله الى خراب! داهمتك موجة عارمة من الذكريات وأنت تتأمل الحطام الكائن أمامك، عانقت القطة بقوة، لم تستطع امساك دموعك، بكيت...كثيراً.


أدركت أن الوقت قد حان للرحيل...



نور صلاح الدين حميدة،

نور صلاح الدين حميدة، 23 عام، طالبة بكلية الطب- جامعة الخرطوم، وكاتبة أدبية حائزة على عدة جوائز في مجال القصة القصيرة منها: المركز الأول في جائزة الطيب صالح للشباب 2020، المركز الأول في جائزة غادة للشباب 2016، والمركز الأول في جائزة نيرفانا الأدبية 2021. أمارس الكتابة كوسيلة للمقاومة والتعبير عن قضايا الحرية والسلام.