هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

 

تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة لحرب السودان. تعكس الآراء الواردة في هذه المقالة آراء المؤلف فقط وليس آراء أندريا. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا


يُعد التعليم من الركائز الأساسية لبناء المجتمعات وتطويرها، إلا أن السودان يعاني من تحديات كبيرة في هذا المجال، خاصة في ظل الصراع الدائر حالياً. منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل من العام الماضي، ارتفعت الهجمات على المنشآت التعليمية بشكل كبير. بين أبريل 2023 وأبريل 2024، تم تسجيل 23 حادثة هجوم على المدارس في السودان وفقاً لقاعدة بيانات موقع النزاعات المسلحة والأحداث )ACLED). شهدت أمدرمان، إحدى مدن العاصمة الثلاث، هجمات متكررة من قوات الدعم السريع على المدارس، مما أدى إلى تدمير بعضها بعد أن كانت قد تحولت إلى دور إيواء للنازحين. الهجمات المستمرة على المدارس في أمدرمان أدت إلى إيقاف العملية التعليمية بشكل كبير، حيث تم تدمير عدد من المدارس بالكامل، في حين تم تحويل بعض المدارس الأخرى إلى ملاجئ للنازحين، مما زاد من تعقيد الوضع التعليمي. هذه الأوضاع أدت إلى تعطيل تعليم  آلاف الأطفال الذين يواجهون صعوبات كبيرة في الوصول إلى بيئة تعليمية آمنة ومستقرة.


وفقا لتقارير الأمم المتحدة، هناك 24 مليون طفل في السودان، 19 مليون طفل هم خارج المنظومة التعليمية نتيجة للصراع، نسبة لازمة النزوح تم تحويل ما لا يقل عن 170 مدرسة إلى ملاجئ للنازحين. أمدرمان، نسبة لوقوعها بين معسكرين من معسكرات الجيش الرئيسية، معسكر وادي سيدنا والكلية الحربية في الشمال ومعسكر سلاح المهندسين في الغرب، فالمدينة هي أقل مدن العاصمة تأثراً بالحرب الحالية وشكلت ملاذاً للعديد من الأسر التي نزحت إليها من باقي أجزاء العاصمة الخرطوم. ليس هناك إحصاءات رسمية لعدد سكان المدينة بعد إندلاع الحرب.


الوضع التعليمي في أمدرمان، وفي السودان عموماً، يعاني من تحديات جسيمة بسبب الوضع الأمني، واستخدام المدارس والمرافق العامة الأخرى كملاجىء للنازحين داخلياً، مما أدى إلى تدخل عاجل من المجتمع الدولي والمنظمات المدنية المحلية والاقليمية لتوفير الدعم اللازم وضمان حماية حق الأطفال في التعليم.


يطالبون بحقوقهم

عملت كمعلمة ومديرة مالية في إحدى المدارس الابتدائية بمحلية كرري في شهر يوليو الماضي، حيث فتحت المدرسة أبوابها وأقامت دورة تعليمية لمدة ثلاثة أشهر، تعرفت على الأطفال هناك ورأيت إصرارهم على القدوم يومياً إلى المدرسة رغم كل الظروف الأمنية والاقتصادية التي تعاني منها المدينة.


في أحد الأيام، كان القصف قريباً من المدرسة بينما كنت أدرس مادة اللغة العربية لطلاب الصف الثالث الابتدائي. توقفت في فزع عند سماعي صوت سقوط إحدى القذائف، لكن أحد الطلاب قال لي: "ليه وقفتي الكتابة يا أستاذة؟ الحرب حتقيف عشان كده لازم نقرا عشان نقدر نبني السودان" هزتني تلك العبارة وعندما نظرت إلى وجوه الأطفال، لم يبدو لي أنهم مفزوعين من أصوات القصف، بل كانوا ينظرون إلي بشجاعة وأصروا على أن أكمل الدرس.

 

حصة اللغة العربية التي كنت ادرسها لحظة القصف، المصدر: براءة محمد


مصاعب

محمود، طالب في الصف الثالث المتوسط، روى لي أن المدرسة التي يدرس بها هذه الأيام قريبة من مكان قد يعتبر مستهدفاً من قبل الدعم السريع، لكنه يصر على الذهاب للمدرسة كل يوم رغم القصف وغلاء الكتب والأدوات المكتبية، و روى لي أنه قام بشراء كتب الفصل الدراسي الجديد بقيمة 45.000 جنيه سوداني أو ما كان يعادل 25 دولاراً وقتها. تعد هذه النفقات عبئاً كبيراً على معظم الأهالي، مما اضطر أغلب الطلاب للجوء إلى كتب رقمية تتوفر على شبكة الإنترنت.


رغم أن المدارس التي تعمل الآن تقدم دورات تدريبية فقط، إلا أن الإقبال عليها أصبح أكبر في أمدرمان، و لكن تطلب بعض المدارس رسوماً يعتبرها الأهالي باهظة في ظل الظروف الاقتصادية التي يعيشونها. و من واقع عملي كمدير مالي لأحد المدارس قابلت العديد من الأهالي المحتجين على رسوم التعليم، وشاركوا قصصهم عن ما آلت إليه حياتهم بعد الحرب والمعاناة التي يعيشونها لتوفير لقمة العيش لأبنائهم.


في إحدى المرات اتذكر أنني اخطرت طالباً متعثراً في سداد رسومه بضرورة الإسراع في إكمال المبلغ، حكى لي الطالب الذي يبلغ من العمر 9 سنوات أنه بعد رجوعه من المدرسة يذهب ليعمل في السوق، فهو يناوب أحد الباعة المتجولين على بيع بضاعته من فترة ما بعد الظهر وأنه يجني ربع دولار على عمله هذا وهكذا يوفر المال لسداد رسومه. بعد ذلك اتجهت لدراسة حال أطفال المدرسة، لأجد أن الكثير من الأطفال لا يتناولون وجبة الإفطار في المدرسة. و عندما تقصيت عنهم اتضح لي أنهم من عائلات افقرتها الحرب فصارت بشكل كبير، و تعتمد الآن على الوجبات التي تقدمها المطابخ المركزية التي تمولها وتديرها مبادرات قاعدية مثل غرف الطوارئ.


حكي لي طفل لا يتجاوز عمره ال7 أعوام أنه لا يتناول شيئاً في المدرسة لأن عائلته لا تملك المال لشراء الطعام، و أنهم يعتمدون على طعام المطابخ المركزية في الحي. لذلك فهو يأتي إلى المدرسة خاوي البطن ولا يتناول شيئاً إلا بعد العودة إلى المنزل ليجد إخوته قد أحضروا بعض الطعام من مطبخ الحي. وهكذا حال الكثير من الأسر في أمدرمان، انهارت أوضاعهم الاقتصادية نتيجة الحرب لفقدان الأفراد وظائفهم ومصادر أرزاقهم فأصبحوا شبه معدومي الدخل يعملون في أشغال هامشية لتوفير بعض المال لأسرهم ويعتمد الكثير على المطابخ المركزية بالأحياء لتوفير الطعام لهم.

 

إحدى المطابخ المعدة بواسطة المتطوعين والمنظمات الخيرية، المصدر : حساب سوهندا  عبدالوهاب على فيسبوك


حق وليس هبة  

تنص المادة 28 من اتفاقية حقوق الطفل على حق الطفل في التعليم، وتؤكد المادة 38 على ضرورة اتخاذ أطراف الصراع جميع التدابير المناسبة لضمان حصول الأطفال على التعليم أثناء الأزمات والنزاعات المسلحة وعدم إشراكهم في النزاع المسلح. كما تضمنت البروتوكولات الإضافية الملحقة بإتفاقيات جنيف 1977 المتعلقة بحماية ضحايا النزاعات المسلحة قواعد لحماية المدارس والطلاب والمعلمين أثناء الحروب، حيث تنص المادة 24 من اتفاقية جنيف لعام 1949 على أن الأطراف المتعاقدة يجب أن تتخذ جميع التدابير الممكنة لضمان حماية الأطفال، بما في ذلك توفير التعليم. جل هذه المعاهدات الدولية التي تهدف لحماية حق الأطفال في التعليم في أوقات الصراع المسلح هي نصوص ليس لها صدى في السودان.

 

أطفال إحدى المدارس بمحلية كرري بأمدرمان،المصدر: براءة محمد


قرارات الوزارة  

مع إستمرار القتال لأكثر من عام والفشل في الوصول إلى حلول سياسية تؤدي لوقف إطلاق نار مستمر أو إنهاء الحرب بشكل نهائي فإن العديد من الأفراد والأسر والمجتمعات ضاق بهم الحال اقتصادياً.


رغم الوضع الامني والاقتصادي يطمح الأطفال في أمدرمان للعودة إلى المدارس رغم منع وزارة التربية والتعليم تشغيل المدارس، بإستثناء طلاب الشهادة الثانوية لعام 2023، بسبب القصف العشوائي. على الرغم من هذا القرار إلا أن بعض المدارس الابتدائية باشرت الدراسة لطلاب الصفوف الابتدائية. أتذكر زيارتي العام الماضي لإحدى المدارس التي فتحت أبوابها رغم القيود والقصف، تفاجأت بعدد الطلاب الذي فاق المائتي طالب وطالبة، رأيت في وجوه الأطفال شغفاً منقطع النظير للدراسة، بالرغم أن بعضهم يدرس في باحة المدرسة حيث لا سقف يحميهم من القصف الغادر أو الرصاص الطائش.


من المهم التسائل هنا عن مسؤولية والتزام المدارس بالحفاظ على سلامة الأطفال في ظل الوضع الحالي، كما أنه من المهم أيضاً الوقوف على دوافع الأطفال أنفسهم في التعليم رغم الخطورة المترتبة عليه، بالاضافة إلى العبء الإقتصادي. فإنه مع تطاول أمد الحرب وتوقف عجلة الحياة بصورة شبه تامة، ونتيجة للآثار النفسية التي خلفتها الحرب لدى الأطفال، الكثير منهم قد يتشبث بالذهاب إلى المدرسة لصرف إنتباههم عن الحرب إلى مواضيع أخرى، واللعب ومقابلة أصدقائهم وزملائهم. يمكن الافتراض أيضاً أن الاطفال يسعون لحصول على حس من الرتابة والنمطية والتريب للحياة الذي ربما كانوا يشعرون به قبل الحرب. بالنسبة للمدارس، فهي أيضاً تسعى تلتقي وتوفير فرص (ولو محدودة) للعمل للأفراد الذين فقدوا وظائفهم بسبب الحرب.


الأثر النفسي للحرب على الأطفال  

يعاني الأطفال في أمدرمان من آثار نفسية عميقة نتيجة الحرب المستمرة التي تحيط بهم يومياً، يتعرضون لأصوات القصف والانفجارات، مما خلق لديهم شعوراً بالخوف الشديد، فالحرب سلبتهم حقهم في عيش طفولة طبيعية.


من المثبت أن معايشة الأطفال للنزاع ومآلته يترتب عليه شعورهم بالوحدة، القلق، والتوتر، هذا بالإضافة إلى أن التعرض المتكرر لأشكال العنف قد ينتج عنه الخدَر العاطفي، وهذا ما يفسر إعتياد الأطفال لسماع أصوات التفجيرات والقصف العشوائي، و بعض الأطفال قد يطورون سلوكاً عدائياً نتيجة للنضج في بيئة مليئة بالعنف. في دراسة أجريت لتحديد آثار النزاع المسلح على الصحة النفسية للبالغين في السودان، تبين أن 25% من الأشخاص الذين أجريت عليهم الدراسة يعانون من إكتائب متوسط-إلى-حاد بينما يعاني 62% من إكتئاب حاد. لم يتم دراسة الآثار النفسية للحرب على الأطفال بعد إلا أن تقرير أعدته ACAPS في نوفمبر 2023 أشار إلى أن الصحة النفسية للأطفال تسبب مصدر قلق مضطرد، إذ أن تعرضهم للجوع، الأمراض، والفقد يصيبهم بالصدمة.


معركة الأطفال من أجل التعليم  

يجد بعض الطلاب أنفسهم مضطرين للدراسة بأنفسهم في ظل إغلاق المدارس في أمدرمان، ويواصلون التحصيل الذاتي ويبحثون عن بدائل ليتمكنوا من مواصلة تعليمهم مدركين أن التعليم هو السبيل الوحيد لتحقيق مستقبل أفضل. كما يذهبون لولايات أخرى أكثر امناً للجلوس للامتحانات بسبب تعليمات وزارة التربية والتعليم بعدم مباشرة الدراسة والامتحانات في مدينة أمدرمان.


خالد، طالب في الصف السادس، مثال حي لهذه الروح القوية، فبالرغم من التحديات الكبيرة أصر خالد على مواصلة دراسته. بسبب الأوضاع الأمنية، لم يتمكن من حضور دروسه بانتظام في مدرسته التي كانت تقيم دورة تدريبية  تغطي المواد الأساسية، إلا أنه درس واكمل باقي المواد بنفسه، وقرر الجلوس للإمتحانات. عندما حان وقت الامتحانات، توجه إلى إحدى الولايات الآمنة، حيث مكث مع أقاربه حتى يتمكن من أداء امتحاناته. عاش خالد هذه الفترة بعيداً عن أسرته لكنه بفضل عزيمته وتفانيه، تمكن من التفوق في امتحاناته محرزاً درجات عالية، مما جعله فخراً لأسرته ومعلميه.

 

أطفال إحدى مدارس أمدرمان  يتحدون كل الصعاب ليواصلوا تعليمهم، المصدر :براءة محمد


ختام

التعليم مهم لنمو الأطفال وتعلمهم المهارات والمعرفة التي ستعينهم في حاضرهم ومستقبلهم، كما يزيد التعليم من فرص التطور الاقتصادي للأفراد وبالتالي المجتمعات. وتشير البحوث إلى أن الأطفال الذين يكملون تعليمهم في الدول النامية يحققون دخلاً أعلى بنسبة 10%. مع احتدام الصراع، بات الأطفال والآباء بالتفكير في الطريق إلى الأمام، دعت منظمتا اليونيسيف وإنقاذ الطفولة السلطات السودانية إلى إعادة فتح المدارس في المناطق الآمنة، مع دعم وسائل التعلم البديلة في المجتمعات التي لا يمكن فيها فتح المدارس بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة والأمن. كما طالبتا المجتمع الدولي بالتضامن مع الأطفال السودانيين الذين يواجهون خطر فقدان تعليمهم، وتوفير الموارد اللازمة لضمان عودة ملايين الأطفال السودانيين إلى المدارس، وتأمين حصول الأطفال المتأثرين بالصراع على فرص التعليم والدعم النفسي والاجتماعي في بيئات آمنة.


التعليم في ظل النزاع الحالي في السودان قد يكون ليه دور محوري في حماية الأطفال المدنيين من الانخراط في القتال وبالنسبة للفتيات قد يوفر لهن الحماية من الزواج في سن مبكر، كما يمكن للتعليم أن يوفر للأطفال الوعي الكافي والمعرفة النوعية التي قد تساعدهم في فهم السياق بصورة أفضل وإبتكار المعرفة المسقية من التجارب والمعرفة الأصيلة، إذا ما تم تأهيل المعلمين بالصورة المناسبة وتوفير مناهج تعليمية تستصحب السياق الحالي.


عند التفكير في حل لمعضلة التعليم للأطفال في أمدرمان وغيرها من المناطق التي ينشط فيها النزاع وتحول الأوضاع الأمنية من الذهاب إلي المدرسة، يجب التفكير في حلول تكاملية تستصحب معها المعضلات المشار إليها أعلاه و المتعلقة بالبنى التحتي والوصول للخدمات التي قد تسهل التعليم مثل الانترنت، بالإضافة إلى توفير الدعم النفسي للطلاب.


براءة محمد

براءة محمد طالبة في قسم الاقتصاد القياسي والإحصاء الإجتماعي بجامعة الخرطوم، تطمح لأن تكون محللة إقتصادية وباحثة. تشغل براءة منصب المدير المالي في أحد المؤسسات التعليمية في منطقة كرري بأمدرمان، وبالإضافة لعملها كمدرس علوم بيانات، إحصاء و اقتصاد في منصة Mentor Mat تطوعت في مؤسسات تعليم الأطفال خلال فترة الحرب لضمان استمرار تعليم الأطفال رغم الظروف والتحديات التي فرضتها الحرب.