هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

تطبيق نقوش الحنّاء (المهندي) على اليدين. المصدر: أبيكشا سالونكي


إذا كنت من مُحبّي أفلام هوليوود الكلاسيكية القديمة، فلا بد أنك سمعت بتعبير "الجمال الكلاسيكي" أو "الجمال الخالد" عند الإشارة إلى نجمات مثل مارلين مونرو وإليزابيث تايلور. بالطبع، لم يكن هذا الوصف يشير إلى الخلود بمعناه الحرفي المرتبط بالعمر، بل كان يُستخدم مجازياً للدلالة على معايير الجمال التي بقيت محفوظة عبر الأجيال. هناك أشياء تتجاوز مفاهيم الجمال المتغيرة في المجتمع، وتظل راسخة كرموز تتوارثها العصور. تُصان وتُستحضر بوصفها تمثيلاً مثاليًا للجمال، كأنها تجسيد أبدي للكلمة.

 

فالجمال أمر يمكن تعريفه، ويمكن تجسيده في شخص، أو شيء، بل وأحياناً في تقاليد وعادات. وزينة الحنّاء تُعدّ إحدى تلك الصور النادرة التي تُجسّد الخلود. لقد عُرفت فنون الحنّاء وممارستها منذ آلاف السنين. فما الذي يجعلها مميزة إلى هذا الحد؟ ولماذا صمدت أمام الزمن؟ وكيف يمكن لهذا الشكل الوحيد من الفن أن يكشف الكثير عن ذواتنا وهوياتنا؟

 

ما هي الحنّاء؟


الحنّاء (Lawsonia inermis) هي صبغة نباتية تُستخرج من شجرة الحنّاء، المعروفة أيضاً باسم اللبلاب المصري أو شجرة المينيونيت. تُنتج أوراق الحنّاء صبغة طبيعية تُستخدم في الزينة المؤقتة للجسم، وتلوين الشعر، وصبغ الجلد والأظافر، بالإضافة إلى استخدامها على الأقمشة مثل الجلد والصوف والحرير.


أوراق الحناء مع قطرات المطر. المصدر: ام دي مراد


تنمو الحنّاء عادةً في المناخات الحارّة التي تصل درجات حرارتها إلى حوالي 120 درجة فهرنهايت. وعلى العكس من ذلك، يمكن أحياناً أن تنمو الحنّاء في درجات حرارة تقل عن 50 درجة فهرنهايت. تتواجد الحنّاء في دول مثل تنزانيا، كينيا، الهند، باكستان، مصر، ودول الشرق الأوسط.

 

تحتوي نبتة الحنّاء على مركّب نشط يُعرف باسم "لوسون"، وهو صبغة بلون برتقالي محمر، تتحد مع البروتين (الكيراتين) الموجود في الجلد، مما يكوّن تلويناً مؤقتاً على سطح البشرة الذي تلامسه. يمكن أن تدوم هذه الصبغة من 7 أيام إلى 3 أسابيع، وذلك حسب شدة عملية التلوين والمدة التي تُركت فيها العجينة على السطح المصبوغ. يختلف لون صبغة الحنّاء عادةً من الأحمر الداكن (العنّابي) إلى البرتقالي الفاتح، وذلك حسب جودة الأوراق والخليط المستخدم لتحضير معجون الحنّاء. الحنّاء التي تنمو في الطقس الحار والجاف تعطي أفضل صبغة وتدوم لفترة أطول. 


فنانة تقوم بالرسم على يد امرأة. فن الحنّاء هو أسلوب زينة يُمارَس منذ أجيال. المصدر: وصال داردار


تاريخ فن وزينة الحنّاء


كلمة "حناء" مشتقّة من العربية "الحنّاء". أقدم دليل مكتوب على استخدام الحنّاء كزينة للعروس يعود إلى عام 2100 قبل الميلاد في شمال غرب سوريا. وقد استُخدمت الحنّاء منذ العصور القديمة في صبغ الجلد، والشعر، والأظافر، إضافةً إلى الأقمشة مثل الحرير، والصوف، والجلد. تاريخياً، عُرفت الحنّاء في غرب آسيا بما في ذلك شبه الجزيرة العربية وقرطاج. كما اشتهرت أيضاً في مناطق أخرى من شمال وغرب ووسط أفريقيا، والقرن الأفريقي، وشبه القارة الهندية.

 

فن الحنّاء، المعروف باسم "مهندي" في اللغة الهندية والأردية، يُمارس في الهند وأفريقيا والشرق الأوسط منذ أكثر من 5000 عام. وقد استُخدمت الحنّاء في الأصل لما لها من خصائص تبريدية في المناخات الحارّة، إذ كانت تُحضّر عجينة تُنقع فيها راحتي اليدين وأخمصي القدمين. كما استُخدمت لأغراض طبية، حيث كانت تُطبّق على الجلد لعلاج حالات مثل القروح، والحروق، والصداع، وآلام المعدة، والجروح المفتوحة.

 

في يومنا هذا، تُستخدم الحنّاء بشكل أساسي للاحتفال بالمناسبات الخاصة مثل حفلات الزفاف وأعياد الميلاد. وترمز عجينة الحنّاء إلى الصحة الجيدة والرخاء في الزواج، وفي بعض الثقافات يُعتقد أنه كلما كان لون الحناء أغمق، زاد عمق الحب بين الزوجين. توضح الفنانة نيها أسار، والمديرة التنفيذية لشركة نيها أسار لفنون الحناء في لوس أنجلوس:

"كان من المعتاد أن يُكتب اسم شريك الحياة على حناء الزفاف. وكان من المفترض إخفاؤها بعناية فائقة للبحث عنها في ليلة الزفاف. في الماضي، كانت الزيجات المدبرة شائعة جداً، لذا استُخدمت هذه العادة لكسر الجليد ومساعدة الزوجين على التعرّف إلى بعضهما البعض بشكل أفضل."


دخول فن الحنّاء إلى شرق إفريقيا


ليس من الواضح تماماً متى دخلت الحنّاء إلى شرق إفريقيا، لكن نعلم يقيناً أن طرق التجارة جلبت الحنّاء إلى الساحل السواحيلي في وقت مبكر. ومن المرجّح أن الحنّاء وصلت على يد التجّار العرب في القرن السابع عشر، أو خلال العصور الوسطى، خلال فترة سلطنة كيلوا.

 

وتدعم الترجمة السواحلية لكلمة "حنّاء" هذه النظرية، إذ من المعروف أن كلمتي "مهينا"  و"هينا" هما كلمتان دخيلتان مأخوذتان من الكلمة العربية "الحنّاء"، والتي تُشير أيضاً إلى "المانغروف الأحمر"، وهو نبات صبغي آخر يُنتج لوناً مشابهاً، ويُعرف في اللغة السواحلية باسم "مكوكوا". وهذا يعني أن إدخال الحنّاء إلى شرق إفريقيا لم يكن على الأرجح عن طريق المهاجرين الهنود، الذين كانوا يطلقون عليها اسم "مهندي".

 

وبحلول القرن التاسع عشر، أصبحت الحنّاء جزءاً أساسياً من ثقافة الساحل السواحيلي، وكان يمارسها جميع المجموعات العرقية التي عاشت هناك، من عرب وأفارقة وهنود وأفارقة-عرب. وقد وثق المبشّر الإنجليزي إدوارد ستير، في القرن التاسع عشر، كيف كانت الحنّاء جزءاً من طقوس الزواج لدى العائلات الإفريقية في زنجبار، حيث قال: "من القواعد المتبعة قضاء سبعة أيام بعد الزواج في منزل العروس دون مغادرة المنزل، وخلال هذه الفترة يرسل والد العروس المؤن يومياً، ويتم تعطير العريس وتلوين يديه وقدميه بالحنّاء، كما تفعل النساء عادةً. وتُعرف هذه الفترة التي تدوم سبعة أيام باسم فونغاتي ."

 

وفي أوائل القرن العشرين، كانت الخادمات مسؤولات عن تحضير وتطبيق الحنّاء لسيداتهن، سواء في الأعراس أو في الاستخدام اليومي. وكان يُسمح لهن أيضاً باستخدام الحنّاء لأنفسهن. وبعد وضع الحنّاء، كانت الخادمات يعتنين بسيداتهن اللاتي لا يستطعن الحركة. تقول المؤرخة الإفريقية السيدة سلامة: "لا يوجد ما يقي من البعوض والذباب عند وضع الحناء، لكن الأغنياء يمكنهم بواسطة العبيد الذين يبعدوهم بالمروحة اليدوية حتى الصباح، حين تُزال العجينة بعناية."

 

خلال حفلات الزفاف، وأثناء تطبيق الحنّاء، كانت النساء يُنشدن نوعاً من الشعر الشفهي يُعرف باسم فوغو، أو "قرون الجاموس"، نسبةً إلى الآلات المستخدمة. وكانت هذه الأناشيد المُقفاة تُنظم بشكل عفوي، وتُستخدم لتعزيز القيم التقليدية أو لتوجيه انتقادات ساخرة لأفراد من الحفل. كما كانت تُستخدم لتحضير العروس لدورها الاجتماعي الجديد، وتقديم النصائح من أفراد العائلة الأكبر سناً.


امرأة عربية تموضع للصورة مزينة بالحناء في يداها ووجهها، زنجبار 1913. المصدر: نعوم سيينا


الرمزية والتصاميم


منذ القدم، استخدمت الحناء كوسيلة زخرفية تحمل رسائل ورموزاً ذات معانٍ خفية.


فن الحناء في شكل تصميم أوراق. المصدر: سوناميستري ميهيندي


لا يوجد تصميم أكثر تعقيداً وحيوية في فن الحناء من الكرمة أو النبات المتسلق المزخرف. تُعتبر الأوراق رمزاً للقوة الحيوية والنشاط. أما الكرمات المليئة بالأوراق فترمز إلى حياة مزدهرة. والنباتات المتسلقة في الواقع تتميز بالصلابة والمثابرة أكثر من الأشجار الضخمة. هذا التصميم هو تمثيل رمزي للإصرار والمثابرة والحيوية.


فن الحناء في شكل تصميم ماندالا المصدر: BYRDIE


هنا يعتمد الزخرف كله على دائرة مركزية تمثل نقطة التركيز الرئيسية في التصميم. تُسمى هذه الدائرة الرئيسية "ماندالا" في التقاليد الهندوسية والبوذية. الماندالا هي تمثيل تصويري للكون، وترمز إلى كمال الحياة وجانبها الغامض.


فن تصميم الحناء على شكل طيور. المصدر: Wedmegood.com


في العديد من الثقافات القديمة، كانت الطيور تُعتبر الرابط الواصل بين السماء والأرض. كما يُطلق على الطيور لقب حاملي السعادة في حياتنا. يرمز تصميم الطائر إلى الحرية والتدفق الحر للروح.


تصميم الحناء على شكل زهرة اللوتس. المصدر: fashionlady.com


زهرة اللوتس ترمز إلى النقاء. حيث تنمو هذه الزهرة في أكثر الأماكن قتامة ووحلة، لكنها ترتفع بنفسها إلى الأعلى بنعمة إلهية. تمثل تصاميم اللوتس الحب والازدهار والانسجام بين القلوب. كما ترمز إلى الطبيعة الأنثوية الحسية، والجمال، والرقة.


تصميم الكالاش. المصدر: Neha Mendii


الكالاش هو وعاء كروي ذو عنق ضيق. في الثقافات الهندوسية، يرمز الكالاش إلى الحياة، ويرمز الكالاش المملوء إلى الازدهار والسعادة. هذا التصميم يعبر عن الأمنيات بالرخاء الأبدي.

 

استخدام الحناء في المجتمع الحديث


اليوم، تُستخدم الحناء بشكل رئيسي في المناسبات الخاصة مثل حفلات الزفاف والأعياد. ومع اقتراب احتفالات العيد، بدا هذا الموضوع مثالياً للكتابة عنه.

ومن الجدير بالذكر أنه مؤخراً تم طرح منتج جديد في السوق يُعرف بالحناء السوداء أو "بيكو" باللغة السواحلية. وهو نوع من صبغات الشعر التي تترك لوناً أسود على الجلد عند تطبيقها. تحظى الحناء السوداء بشعبية أكبر بين ذوي البشرة الداكنة لأن لونها يكون أكثر وضوحاً على بشرتهم، في حين تفضل النساء ذوات البشرة الفاتحة الحناء الطبيعية.

مع ذلك، حذر الأطباء من خطورة الآثار الجانبية لاستخدام الحناء السوداء، والتي قد تتضمن حكة شديدة، وتكوين بثور، وتكوّن ندبات، وحساسية دائمة تجاه أنواع أخرى من الصبغات. لذلك يجب الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات قبل استخدام هذا المنتج.


وضع الحناء الطبيعية باستخدام غصن صغير، لامو، كينيا 1999. المصدر: كارول بيكويث وأنجيلا فيشر


من النادر أن نجد زينة وجمالاً وثقافة تدوم طويلاً كما هو الحال مع الحناء. هذا يعكس الارتباط العالمي للإنسانية. بالرغم من التغيرات والصراعات والفصول والزمان، يبقى في أعماقنا رغبات واحتياجات متشابهة، وحس مشترك للجماليات. الجمال ضروري لحياة مُرضية، حيث تضفي الطبيعة والزينة والمكياج لوناً على أبيض وأسود الوجود. تمثل زينة الحناء سنوات من الحب والعائلة والتقاليد التي تنتقل من جيل إلى جيل. في المرة القادمة التي تقررين فيها تزيين نفسك بالحناء، تذكري أنكِ محاطة بتاريخ وزمن يمتدان إلى ما وراء اللحظة.


كيلفن إنوسنت مسيكا

كيلفن صانع محتوى مقيم في دار السلام بتنزانيا وقد بدأ شغفه بالكتابة في سن مبكرة. عمل سابقًا كطاهٍ قبل أن يغامر في مجال العقارات. يستمتع كيلفن بإنشاء محتوى خاص بالسفر ونمط الحياة بالإضافة إلى نصائح حول علم النفس على قناته على اليوتيوب.