هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا.


ملصق إعلان الفيلم الرسمي. المصدر: فيسبوك


ظهر فيلم "وداعا جوليا" الفلم الروائي الحائز على جوائز عديدة للمخرج السوداني محمد كردفاني في أعين جمهور السينما العالمية عمليا من العدم. يتبع الفيلم قصة منى، مغنية معتزلة من شمال السودان في زواج متوتر، وتعاني من الشعور بالذنب بعد تورطها في تغطية جريمة قتل.     

 

يغوص بنا كردفاني الى قلب الصراع السوداني متعدد الطبقات والذي بدوره أدى إلى استقلال جنوب السودان. يحكي لنا كردفاني قصة منى وجوليا بمهارة عالية، وبعناية للتفاصيل الدقيقة و بنوع من التعاطف. يعكس فيلم وداعا جوليا الاحتياجات الإنسانية والتناقضات والمأساة دون حكم أو تحيز وتعصب وبعيدا عن القوالب النمطية أو الثرثرة الفارغة التي اعتادت عليها السينما العربية السائدة.


حقق الفيلم بالفعل نجاحًا كبيرًا في دور السينما والمهرجانات السينمائية الدولية، بما في ذلك الفوز بجائزة من مهرجان كان السينمائي المرموق لعام 2023م. الى جانب سرد كردفاني الدقيق والآسر، يقدم الأداء المتميز للممثلين الرئيسيين نظرة جديدة على السينما المعاصرة من شرق إفريقيا. كما ساعدت الموسيقى التصويرية الإبداعية للغاية والتعاون الدولي للإنتاج والتصوير السينمائي والتوزيع في تقديم هذا الفيلم في جميع أنحاء العالم.


الحبكة


يبدأ فيلم «وداعا جوليا» بمشهد تركيز الكاميرا على منى وهي تقوم بتقطيع طبقات بصلة بسكين حاد كبير. هذا المشهد إعلان بأن هناك جروح ودموع لا مفر منها قادمة. في الخريطة الذهنية لمعظم الناس، السودان بلد منغمس في الصراعات المسلحة، وليس موطنًا للسينما الفنية المعاصرة. ومع ذلك، يُظهر هذا الفيلم أن السودان يمكن أن يكون كلاهما. 


يحكي الفيلم قصة كيف عاش السودانيون من الشمال والجنوب خلال الفترة من 2005م إلى 2011م التي سبقت انفصال الجنوب. يروي الفيلم قصصًا شخصية حول كيف أن تتويج التمييز العنصري منذ قرون من قبل مواطني الشمال ضد سكان الجنوب قد انتهى بإنفجار خلافات اجتماعية وسياسية .


أحد مشاهد الفيلم يظهر فيه منى وجوليا. المصدر: BroadcastPro Me


تم تصميم السيناريو جيدًا على هذه الخلفية التاريخية، ويعتبر الفيلم أيضًا قصة منى وجوليا. منى (إيمان يوسف) امرأة شمالية مسلمة تتمتع بأسلوب حياة ميسور، وكانت مغنية مشهورة قبل زواجها. بينما تقود منى سيارتها، يتشتت انتباهها وتصدم صبيا صغير لكنها تبتعد في حالة من الذعر دون مساعدة الصبي أو والده المذعور سانتينو. جوليا (سيران رياك) فتاة جنوبية، مسيحية فقيرة، هي والدة دانيال، الصبي الصغير الذي نجا من الحادث، وزوجة سانتينو، الذي قُتل بقسوة على يد زوج منى أكرم (نزار جمعة).


محمد كردفاني، شاشة ومناقشة بجامعة ييل. المصدر: محمد كردفاني


يقودنا كردفاني ببراعة إلى قلب الصراعات السودانية المعقدة، ويهتم بإظهار الفروق الدقيقة والتعاطف. تلتقط وجهات النظر الحميمة والهادئة للكاميرا المشاعر والاحتياجات الإنسانية والتناقضات والمأساة دون حكم أو قوالب نمطية أو تفاهات شائعة في السينما العربية.


الخداع والندم والشعور بالذنب

تترك مأساة المشهد الافتتاحي جوليا كأم وحيدة تحاول تتبع مكان زوجها دون معرفة من قتله. تغرقها الظروف في الفقر بينما يتقطع قلب منى بالندم والذنب بعد التسبب في مقتل رجل والتستر على جريمة القتل التي ارتكبها زوجها، وتبحث عن لقاء مع جوليا، التي تبيع الطعام على جانب الطريق حيث تمر منى. في محاولة لتعويض خسارة جوليا، تأخذ منى جوليا كخادمة لها وابنها دانيال، وتوفر لهما ليس فقط مأوى مريحًا ومساحة للعيش، ولكن أيضًا تعتني بنفقات تعليم دانيال، وفي النهاية تقوم بدفع رسوم دراسة جوليا.


من خلال القضبان التي تحمي نوافذ منزلها، تشاهد منى كل يوم الاضطرابات والمعاناة التي هزت حياة السودانيين في تلك الفترة، والتي من شأنها أن تؤدي في النهاية إلى انفصال الجزء الجنوبي من البلاد. بعد مقتل الزعيم الجنوبي جون قرنق في حادث تحطم مروحية، اندلعت اشتباكات عنيفة في الخرطوم، بالقرب من بوابة منزل منى. ترى غضب الحشود الذين يسيرون لمطاردة وإعدام الجنوبيين، والتنكيل بهم بعبارات ك "عبيد" و "متوحشين".



وراء الكواليس تصوير وداعا جوليا. المصدر ARRI


تم تصنيف جريمة قتل سانتينو على يد أكرم بسرعة من قبل ضابط شرطة صديق كـ "وفاة عشوائية "، بناءا على بلاغ كاذب من قبل جارهم المتواطئ. تزداد حدة مناقشات منى مع زوجها تدريجياً في خلافهما حول مدى عدم أخلاقية الجنوبيين وتدني مكانتهم ولماذا لا يستحقون الأفضل. متجاهلا جوليا ودانيال إلى جانب كونهما جنوبيين، يتحدى أكرم منى أنه على الرغم من أنها تساعد امرأة محتاجة وابنها، إلا أن هذا لا يمنعها من معاملتهما على أنهما «عبيد»، عندما تضع علامة حمراء على الصحون والأكواب المسموح لهم استخدامها.


في مواجهة ذنبها وعنصريتها الكامنة، تلقي منى تدريجياً نظرة عميقة على روحها وحياتها. أدركت في النهاية أن حياتها كلها محاطة بالأكاذيب مثل متاهة ضخمة ومعقدة. ألا تخفي كذبة كبيرة عن جوليا، التي أصبحت تدريجياً رفيقتها الطيبة ؟ ألم تقم برشوة ضابط شرطة حتى لا يخبر أكرم أن جوليا هي أرملة الرجل الذي قتله ؟ أليست تكذب على دانيال، عندما يطلب تفسيرًا لماذا يمتلك جارهم دراجة نارية لوالده المختفي ؟ الا تكذب حين تقول اشتراها مستعملة من بعض الجنوبيين ؟

أليست تكذب على نفسها أن الأمر يستحق الاستسلام لأكرم والامتناع عن الغناء كثمن لزواج من المفترض أن يكون سعيدًا ؟ وهو أكرم الذي تخبر والدتها عبر الهاتف: «لا يعود إلى المنزل الا عندما يحتاج إلى الأكل أو تغيير قمصانه!»



الممثلات سيران رياك وإيمان يوسف والمخرج محمد كردفاني وجير دواني والمنتج أمجد أبو العلا في مهرجان كان. المصدر: Andreas Rentz/Getty Images Europe


ليس واضحا اللحظة التي يبدأ فيه انهيار بيت الورق الذي بنته منى على مدى عدة سنوات. ربما عندما ترافق منى جوليا إلى الكنيسة لأول مرة في حياتها، تشعر بالراحة وتدرك "لا توجد لدينا موسيقى في المساجد". أو عندما تستمتع ببعض اللحظات الجميلة المليئة بالأخوة مع جوليا وهي تشجع منى على دخول نادٍ موسيقي وهما متخفيتان، لتذوق العرقي، وهو مشروب كحولي محلي الصنع يباع في زجاجة كوكا كولا، وحتى الأداء لفترة وجيزة على المسرح ؟ أو عندما يتعين على جوليا لاحقًا حمايتها عندما يتحقق أكرم على هاتفها مع من تحدثت وما إذا كانوا بالفعل في سوق سعد قشرة ؟


                       الممثلة إيمان يوسف المصدر: Instagram/Eiman Yousif


إذا كان كردفاني قد ابتكر شخصية منى باعتبارها الشخصية الأكثر غموضًا وتعقيدًا، فإن شخصية جوليا هي الشخصية الأكثر وضوحًا ودرامية. إنها تجسد الجنوبيين الفقراء والمظلومين، والأشخاص المحتقرين بسبب لون بشرتهم الداكنة ودينهم المكروه. ومع ذلك، فهي تتمتع بقدر من االمرونة وحرية التفكير والتحدي. و تشجع منى على استعادة حريتها ضد زوج قمعي ومتحكم. حتى عندما تكون في الطرف المتلقي للتمييز والجريمة والكراهية من قبل الشماليين، تؤكد جوليا نفسها ضد ماجير (جير دواني)، الناشط الانفصالي في الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLM) الذي يظهر اهتمامًا رومانسيًا بها.


الإجماع في السعي لتحقيق المساواة

قرب النهاية، تعترف جوليا بأنها كانت تعيش في منزل قاتل زوجها لكنها لا تنسحب تماما من صداقتها مع منى. صحيح أن عليها أن تتحمل وضعها من أجل تعليم ابنها والحياة في مأوى لائق، لكن هذا ليس ما يفهمه ماجير محاطاً بميليشياته المسلحة، موجهًا بندقيته إلى أكرم وعائلته و هو يصرخ بغضب ؛ «فتاة مثلك، تبيع مقتل زوجها بثمن بخس، لا تستحق قلبي».


هذا المشهد ليس سوى واحد من العديد من المشاهد التي تحكي عن نظرة كردفاني الدقيقة والنقدية للعلاقات بين الجنسين وعدم المساواة بين الرجال والنساء في المجتمع السوداني. يوضح كيف يتم إسكات النساء ومضايقتهن وتشويه سمعتهن وحرمانهن من حقوقهن من خلال السلوك الذكوري المهيمن عبر الانقسامات: الشمالي/الجنوبي، المسلم/المسيحي، «البرجوازية »/« الطبقات الدنيا». يبدو البؤس الذي يلحقه الرجال بالنساء وكأنه فكرة أساسية طوال الفيلم بأكمله. يظهر على أنه تجربة حتمية تصيب النساء على قدم المساواة، بغض النظر عن اختلافاتهن العرقية والدينية والاجتماعية أو فيما يتعلق بلون بشرتهن.      

 

حتى لو تم التقاطه في سياق السينما الأفريقية أو العربية المشاركة والنسوية، فإن فلم «وداعاً جوليا» هو صوت نادر وثمين للغاية يوضح كيف تظهر آثار النظام الأبوي وتخنق على حياة النساء. جوليا التي تتنقل في وسائل النقل العام، متعبة ومكتئبة، تضطر لتفادي رجل يتحرش بها جسديًا. يصرخ بجوليا ضابط شرطة لتغطية نفسها وهي لم تكشف سوى عنقها ورأسها. يتحرش ضابط شرطة آخر بمنى ويحاول تقبيلها، مستغلا أنها قامت برشوته لإخفاء سر عن زوجها، فهي «فتاة خفيفة»، ويمكن الاعتداء عليها في وضح النهار. أثناء «حمام الدخان» وهو طقس خاص من شمال السودان، تمارسه النساء لارضاء أزواجها قبل ممارسة الجنس، تعترف منى لجوليا ؛ «معظم الرجال أنانيون وقلوبهم متحجرة ».


تتحد المرأتان عندما يتعلق الأمر بالمطالبة بحياتهما الخاصة بحرية وتحقيق الإشباع بطريقة تختلف عن الغالبية في مجتمعاتهن. تتحرر منى على الرغم مما قد يعتبره الناس أنها «مغنية مطلقة» لكنها أخيرًا أصبحت لديها القدرة على الغناء بكل حرية، تماما كما فعلت طيور الكناري التي قدمها لها أكرم كهدية في قفص عندما أطلقت سراحهم في رحاب السماء.


جوليا لا تريد اتباع دعوات الانفصاليين الجنوبيين وتعتبر نفسها خرطومية و تعلن بصوت عالٍ وفخور بأنها تفضل العيش في سودان موحد في نفس اللحظة التي يصطف فيها أقرانها من جنوب السودان للتصويت لاستقلال الجنوب عن الشمال. علاوة على ذلك، هناك مشهد بشع لإنكار موهبة فنانة عندما تمسك منى، وهي متخفية بالنقاب كشبح أسود تحت العباءة والقفازات، بجيتار وتعزف ببراعة بعض الألحان.



الممثلتان إيمان يوسف وسيران رياك على السجادة الحمراء. المصدر: Instagram/Eiman Yousif


في النهاية تمكنت منى من التحرر من زواجها الخانق. تواجه أكرم بأنها كانت دائمًا غريبة عنه، حتى في فراش الزوجية. وفي حوار يليق بالمخرجة السينمائية أنييس فاردا، إحدى الأصوات النسوية العظيمة في السينما الفرنسية، تعترف منى بهدوء؛ "أنت لا تسألني أبدًا، فأنت لم تعرفني أبدًا. إذا كنت تعرفني حقًا، فربما تحبني. أريد أن أعيش معك وأتحدث معك دون خوف".


تظهر صورة قوية لشخصيات منى وجوليا في أحد المشاهد الأخيرة: امرأتان، إحداهما متكئة على ركبتي الأخرى، تبكيان في صمت، تواجهان الفوضى في نهاية الرحلة، مثل نهاية التحفة الأفريقية «ثيلما ولويز»، حيث تتألمن على فقدان اخويتهن وخساراتهن.


حالة من الذكورة المفرطة؟

على النقيض من ذلك، رسم كردفاني شخصيات جميع الرجال، باستثناء المصور المسن الخيّر، على أنها شخصيات ترتكب أو تتجه نحو العنف. يتجمعون ويشكلون حشود مميتة في الشارع، ويضرمون النار في أكواخ الفقراء، ويطردون النساء، ويدفعونهن في مؤخرة سياراتهن لسجنهن.


في وقت أو آخر، ينتهي الأمر بمعظم الشخصيات الذكور بسلاح في أيديهم، على استعداد لارتكاب جريمة: الجار الذي يعلم أكرم إطلاق النار ووضع البندقية في يديه، أكرم الذي أطلق النار على سانتينو في القلب بدلاً من مجرد إخافته بإطلاق النار في الهواء. ماجير، محاطًا بجنود مدججين بالسلاح من جيش الحركة الشعبية لتحرير السودان وحتى دانييل الصغير الذي نشأ ليصبح مراهقًا ذو نظرات تهديدية. في أحد المشاهد الأخيرة للفيلم، يظهر في المقعد الأمامي لسيارة جيب عسكرية، مع سلاح محكم على جسده، كجندي طفل جديد مستعد للانتقام لمقتل والده.


ابتكر كردفاني فيلمًا معاصرًا قويًا يضع السودان على خريطة السينما العالمية. سيُذكر على أنه اعتراف قوي غير مسبوق بما حدث وما يمكن أن يحدث مرة أخرى. الجروح العميقة، والندبات، والدموع، والأشخاص الممزقون، والكثير من الرجال والفتيان يعانقون البندقية، مصممين على القتل. يحمل فيلم"وداعا جوليا" احساس ومظهر فيلم كلاسيكي مستقبلي يتجاوز السينما الأفريقية و العربية السائدة ولن يُنسى لعقود قادمة.


منة شيرادي

منة شيرادي كاتبة مقيمة في أوروبا مهتمة بالأدب والموسيقى والسينما. وهي أيضًا متخصصة في دراسات النوع الاجتماعي في الصراع العسكري وعاشت وعملت على نطاق واسع في جميع أنحاء القارة الأفريقية، بما في ذلك السودان.