تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة لحرب السودان. تعكس الآراء الواردة في هذه المقالة آراء المؤلف فقط وليس آراء أندريا. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا.
موقع بيت التراث، المصدر: تويتر
أثناء تأليف هذا المقال وجمع المعلومات ذات الصلة، تلقيت صورة لبيت التراث وقد تعرض لعملية تدمير مأساوية. إن عمل العنف هذا، الناجم عن النزاع المسلح المستمر، لا ينتقص من التراث الفني القيم للسودان فحسب، بل يسعى أيضاً إلى محو الهوية الثقافية للبلاد وحرمان المجتمعات المحلية من تراثها. ضمت المؤسسة أعمالاً فنية مهمة لشخصيات معروفة مثل حسن موسى، التي تعكس أعماله المبكرة من أواخر السبعينيات. لقد أصبح قطاع الثقافة من أكثر القطاعات ضعفاً وإستهدافاً في هذه الحرب. توفر هذه المقالة رؤى أساسية حول مدى الضرر الذي حدث وتسلط الضوء على العديد من الحوادث البارزة.
حسن موسى أثناء عمله. المصدر: صفحته على الفيسبوك
تناول موضوع العنف ضد المؤسسات الفنية وصالات العرض في السودان يستحضر الذاكرة التاريخية، أبرزها حادثة الحريق الغامض في معرض أبو جنزير في السبعينيات. والذي يعتبر بمثابة المظهر الأول للمعرض الفني السوداني. وأدى هذا الحادث إلى إغلاق المكان وفقدان العديد من الأعمال الفنية القيمة التي لعبت دوراً كبيراً في تشكيل الهوية الفنية للبلاد. وأدت الديكتاتورية التي طال أمدها في عهد الرئيس السابق عمر البشير إلى تفاقم الوضع، حيث تم استهداف الفن والفنانين ومراقبتهم بشكل مباشر من قبل الدولة. وأيضاً من تمظهرات العنف ضد الفنانيني الإيقاف السياسي لـ 28 طالباً من كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بسبب معارضتهم للنظام الإسلامي السابق. وطال الفصل في هذه الحادثة فنانين معروفين مثل أحمد المرضي، ورجاء أوشي، وصلاح سليمان، وحسين سليم، مما أدى إلى هجرة العديد من هؤلاء الفنانين. وفي الآونة الأخيرة، كان الهجوم العنيف على جالوص آرت سبيس في عام 2022 يهدف إلى قمع التعبير الفني وتقييد الحرية في الأماكن العامة.
“لم يكن العنف يستهدف الفن فحسب، بل كان يستهدف بشكل عام الفعل الثقافي نفسه كعنصر مرتبط وحياة المدينة الحضرية. حاولت الحكومة في البداية استخدام الفن كوسيلة للترويج لأيديولوجيتها السياسية الإسلامية، عندما فشلت في هذه المهمة، أعادت الرقابة والعنف، واستهدفت الفنانين والنقاد على حد سواء"
_مظفر رمضان، فنان بصري
ويقول رحيم شداد، و هو قيّم فني: "لم تفشل الحكومة في استخدام الفنون لتعزيز الفكر الديني والسياسي. إن صعود وشعبية موسيقى الحقيبة والمدائح الدينية في بث التلفزيون الوطني يعد قصة نجاح بالنسبة لهم، بالإضافة إلى العديد من الأمثلة الأخرى. كما أنها إشكالية لأن المرحوم حسن الترابي أطلق على أجندة النظام (المشروع الحضاري) أو مشروع الحداثة“.
في هذا المقال، نقوم بجولة في صالات العرض والمحفوظات الشخصية والمعالم الثقافية التي تعرضت للهجوم والنهب وفقدت بشكل مأساوي. هناك عدد لا يحصى من الآخرين الذين لا يزالون في عداد المفقودين.
يعمل المعرض منذ أكتوبر 2022، في حين أن المبادرة الفنية فاعلة منذ عام 2019. وذكرت ريم الجعيلي مؤسسة زا ميوز أنها لا تعلم أي شيء عن وضع المعرض منذ الليلة التي سبقت الحرب، الجمعة 14 أبريل، عندما كانوا يغلقون المعرض ويضعون الخطط للعام المقبل. ومنذ ذلك الحين، لم تتلق ريم ولا أصحاب المبنى الذي يقع فيه معرض ميوز أي تحديثات بخصوص المبنى.
تعرض معظم حي الخرطوم 2، المعروف بالمركز الرئيسي للمعارض الفنية، للنهب والتخريب بعد إجلاء معظم السكان، مما ترك ريم مع أمل ضئيل في مستقبل المعرض. المجموعة الفنية المتبقية في المعرض ليست واسعة النطاق، وتضم أقل من 100 لوحة. بالرغم من أن المعرض كان موجود في موقعه الجديد منذ ستة أشهر فقط، قام بتنظيم خمسة معارض وتعاون مع 25 فناناً. ومع ذلك، فإن معظم أعمال ريم الشخصية ومجموعتها الفنية، إلى جانب قطع من فنانين آخرين وجدوا ملاذاً في المعرض، لا تزال موجودة.
لحسن الحظ، يمتلك فريق زا ميوز نظام أرشفة رقمي قوي يتتبع جميع الأعمال الفنية في المعرض، إلى جانب أسماء الفنانين وقياساتهم. اهتمام ريم الرئيسي الآن هو الأهمية الثقافية للأعمال الفنية المفقودة، حيث أن اختفائها سيشكل نهاية حقبة حاسمة في الحركة الفنية المعاصرة التي ظهرت بعد الثورة وخلال الفترة الإنتقالية. يعمل زا ميوز حالياً من بورتسودان مع شركاء محليين وينظم فعاليات ثقافية مختلفة، وكذلك من القاهرة، حيث تقيم ريم حالياً.
معرض نارتي، المصدر: محاسن إسماعيل
معرض نارتي، وهو مكان فني تم إنشاؤه حديثاً والذي على الرغم من استمراره لمدة خمسة أشهر فقط قبل الحرب، كان قادراً على اختراق سوق الفن بسرعة. حيث تعامل مع مجموعة متنوعة من الفنانين، بما في ذلك شخصيات بارزة مثل العتيبي وراشد دياب، بالإضافة إلى طلاب الفنون الواعدين. خلال مقابلة أجريتها مع مالك المعرض ومديره الرئيسي المهندس وليد إدريس عن وضع المعرض قال لي: "مؤخراً، بعد أن استقريت في المملكة المتحدة، تتضمن خططي فتح وكالة للتسويق الفني. لقد أنشأت علاقات جيدة مع العديد من المعارض الفنية هنا، وأخطط للترويج للأعمال الفنية للفنانين السودانيين وتوسيع نطاق وصولهم إلى الأسواق. وأعتقد أن هذه ستكون فرصة عظيمة لتقديم المواهب السودانية الواعدة إلى العالم."
نهب وتدمير استوديو عصام عبد الحفيظ للفنون الشخصية
في استديو الفنان المعروف عصام عبد الحفيظ تم تدمير عدد لا يحصى من اللوحات الثمينة والأرشيفات ومكتبة كبيرة تحتوي على المعرفة والتحف الثقافية بشكل مأساوي في ظل النزاع المسلح الحالي في الخرطوم على يد قوات الدعم السريع . وقد أدى هذا العمل العنيف إلى فقدان عدد لا يحصى من النصوص التي لا تقدر بثمن، وموارد ثقافية كبيرة، ولوحات لا يمكن تعويضها توثق مثل هذه الحقبة الحرجة في الحركة الفنية السودانية.
جالوص آرت سبيس، المصدر: محاسن إسماعيل
على الرغم من قصر فترة عمله منذ أن فتح أبوابه أمام الجمهور في يوليو 2022، إلا أن هذا المعرض تعرض لعدة هجمات. وكانت آخر حادثة في يناير 2023 بقيادة مجموعة من السكان الذين يسكنون حول المعرض في الحي المتواجد فيه، للإشتباه في أنشطة المعرض وتصرفات زواره. وبالتالي، في يوم افتتاح معرض (ما وراء الأسطورة) للفنان محمد صديق، قام هؤلاء الأفراد بتدمير المكان. أدى هذا العمل اللئيم إلى تدمير أكثر من 35 عملاً فنياً، وإصابة خمسة من العاملين بالمعرض بإصابات خطيرة، بما في ذلك الفنان المشارك، وإلحاق أضرار متعمدة بالمعرض نفسه. ومع ذلك، فإن هذا لم يمنع المالك والمؤسس الرئيسي "المُغيرة عبد الباقي" من المضي قدماً في جدول مزدحم لفعاليات فنية ومعارض.
وللأسف، بعد اندلاع الحرب، أصبحت هذه المؤسسة مرة أخرى هدفاً للتدمير، وهذه المرة على يد قوات الدعم السريع، التي احتلت المعرض لأكثر من شهرين، ودمرت بشكل منهجي جميع اللوحات ونهبت ممتلكاته.
معرض داون تاون
خلال إحدى فعاليات معرض داون تاون قبل الحرب المصدر: سارة المنة
مؤسسة فنية رائدة تأسست عام 2021، نجحت في كسر عقود من ركود المشهد الإحتكاري، ونشطت السوق الفنية من خلال المعارض الدورية، والإلتزام بالجودة، ومعايير العرض العالية للفنانين المحتملين. وعندما سئل عن وضع المعرض بعد الحرب، أدلى رحيم شداد، صاحب المعرض ومديره، بالتصريح التالي:
"لقد علمنا أن المعرض تم فتحه بشكل غير مباشر منذ فترة. من خلال جهودنا للتأكد من هذه المعلومات، اكتشفنا أن أفراداً من قوات الدعم السريع قد أقاموا داخل المعرض، ومن خلال عملية معقدة، حصلنا على صور فعلية تكشف الضرر الممتد الذي حدث. لقد نشرنا هذه الصور على الفور على وسائل التواصل الإجتماعي لأننا، كمعرض، نشعر بمسؤولية أن نكون شفافين وصادقين مع جمهورنا، وكذلك فنانينا فيما يتعلق بكل ما حدث."
صور تظهر الأضرار المنتشرة في أجزاء مختلفة من المعرض، المصدر: رحيم شداد
تعرضت مقصورة الإطارات، التي كانت تحتوي على أعمال فنية قيمة للغاية، لأضرار جسيمة، لقد تم تفكيك خزانات التخزين الرئيسية و تم نهب المطبخ الذي كان يضم جميع الإمدادات اللوجستية. ولسوء الحظ، كانت الخسارة الأكثر إيلاماً هي القرص الصلب لجهاز الكمبيوتر الشخصي لرحيم، والذي كان يحتوي على كمية هائلة من البيانات التي تعود إلى بداية عام 2021، بما في ذلك قوائم الفنانين، وصور الأعمال الفنية، والمستندات المالية للمبيعات، وملصقات المعارض، والكتالوجات.
كما تمت سرقة الأموال الموجودة داخل غرفة خزنة الأموال. ومن الغريب أن معظم الأعمال الفنية نفسها لا تزال تبدو في حالة جيدة. و لكن تمت إزالة النافذة المواجهة للشارع الرئيسي بالكامل، مما يعني أنه يمكن لأي شخص الوصول بسهولة إلى المعرض.
صورة تظهر مطبخ المعرض و في الزاوية خزنة النقود مفتوحة ومسروقة، المصدر: رحيم شداد
إذا تحدثنا بالأرقام لتحديد حجم الضرر على المحتويات، فإن المعرض يستضيف 80-95 قطعة من القماش المشدود، و80 لوحة زجاجية مؤطرة، ومجموعة صور فوتوغرافية من المعارض السابقة، وأكثر من 350 عملاً فنياً ورقياً غير مؤطر. يعد تقديم تقدير دقيق للقيمة الإجمالية لهذه الأعمال الفنية أمراً صعباً، حيث أن بعضها ليس مخصصاً للبيع، فقيمتها مرتبطة بشكل أساسي بأهميتها الثقافية، وهي بمثابة سجلات وانعكاسات للحظة حرجة محددة في تاريخ السودان الحديث، مسجلةً مشاعر هؤلاء الفنانين تجاه مثل هذه الأحداث. أما بالنسبة للأرشيف الرقمي للأعمال الفنية، فإن المعرض يحافظ بجدية على توثيق غالبية اللوحات المعروضة في المعارض الفردية والجماعية.
قال رحيم: "منذ بداية الحرب، تمكن معرض داون تاون من تنظيم 5 معارض في القاهرة وألمانيا والبرتغال وكينيا للدعوة إلى مزيد من الإهتمام بظروف الفنانين في ظل الحرب وعرض قصص استثنائية عن الصمود. ومع ذلك أشعر بخيبة أمل لعدم رؤية ممثل حكومي واحد على الأقل يتحدث أو يسلط الضوء على حجم الأضرار التي لحقت بالكيانات الثقافية خلال هذه الفترة."
المعهد الفرنسي الإقليمي بالسودان (المعهد الفرنسي)
المركز الثقافي الفرنسي كان أحد المراكز البارزة للأنشطة الفنية والثقافية، وبه إحدى أكبر المكتبات الإعلامية في البلاد؛ شرفة لعروض السينما والمؤتمرات والإجتماعات والقراءات والمسرحيات والحفلات الموسيقية؛ معرض يتسم بالحداثة وفسيح أيضاً؛ وخدمة تعليم اللغة. تعرض المعهد لأضرار جسيمة عندما قامت السفارة الفرنسية بإجلاء مواطنيها خلال الأسبوع الثاني من الحرب.
وفي أكتوبر الماضي نشرت مجلة نوفا تقريراً عن تدمير قوات الدعم السريع للسفارة الفرنسية بالخرطوم. في مقابلة أجريت في أكتوبر 2023، شاركت ليلى خير، التي عملت سابقاً كمديرة ثقافية في المعهد الفرنسي، تجربتها وذكرت أنها تعمل بالمعهد الفرنسي بالخرطوم منذ يونيو 2022، وغادرت السودان لقضاء العطلة يوم 9 أبريل، عازمة على العودة قبل نهاية الشهر. علمت ليلى بالأخبار المحطِمة من خلال المكالمات الهاتفية والتقارير الإخبارية صباح يوم السبت. وبحلول نهاية أبريل، أُبلغت بتأجيل خدمتها إلى أجل غير مسمى، مع جميع الموظفين الآخرين. وأعربت ليلى عن عدم يقينها بشأن الوضع الحالي لمرافق المعهد وأرشيفه، حيث أن موقعه الإستراتيجي جعله هدفاً محتملاً للضرر. وشددت على أهمية الحفاظ على التراث الثقافي، مشيرة إلى أن أرشيف المعهد يحتوي على أعمال فنية قيمة ذات أهمية في تاريخ الفن السوداني. كما ذكرت ليلى معاناتها في العثور على وظيفة جديدة، حيث كانت لا تزال تحاول استيعاب الأحداث ولم تشعر بأنها مستعدة للإنتقال إلى مجال مختلف.
المعهد الثقافي الفرنسي بالخرطوم - المصدر: المعهد الثقافي الفرنسي على فيسبوك
خاتمة
جميع أمثلة أعمال العنف التي حدثت تجاه المؤسسات الفنية واستوديوهات الرسم والمعارض، تستكشف تأثيرها على التراث الفني السوداني المعاصر وتؤكد الحاجة الملحة لبذل الجهود للحفاظ على هذا الإرث الثقافي وحمايته. إن تدمير ونهب القطع الأثرية الثقافية يحرم الأجيال القادمة من رؤى فريدة عن ماضيهم ويهدد الحفاظ على الهوية الثقافية.
أثناء تحرير هذا المقال انتشرت أخبار حول سرقة العديد من القطع الأثرية من متحف السودان الوطني، ارتبطت قوات الدعم السريع، المتهمة بارتكاب العديد من الفظائع ضد المدنيين، بسرقة القطع الأثرية، التي عُرض بعضها للبيع عبر الإنترنت. ويضم المتحف، أحد أهم المؤسسات الثقافية في السودان، مجموعة تمتد عبر التاريخ السوداني من العصر الحجري إلى العصر الإسلامي، مما يجعل هذا النهب خسارة كبيرة للتراث الثقافي السوداني.
إن المجتمع المحلي والإقليمي والدولي بحاجة إلى التعاون للحفاظ على التراث الفني السوداني. ويمكن للمبادرات التعاونية بين المجتمعات المحلية والمنظمات الفنية والحكومات والمؤسسات الدولية أن توفر الموارد والخبرة والدعوة لحماية المؤسسات الفنية والمعارض من العنف وضمان بقائها المستدام. على إثر سرقة المتحف الوطني تقدم منظمة الشرطة الجنائية الدولية (الانتربول) الدعم التحقيقي للمتحف الوطني لتوثيق الجرائم وتعقب القطع الأثرية المسروقة. كما يعمل موظفو المتحف بلا كلل لتوثيق الخسائر والتعاون مع المنظمات الدولية لاستعادة القطع الأثرية المسروقة.
بالإضافة إلى ذلك، ناشدت مجموعة تضم أكثر من 200 باحث رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت المساعدة في استعادة القطع الأثرية المنهوبة التي ربما تم نقلها إلى جنوب السودان للبيع. أيضاً هناك العديد من المبادرات المجتمعية والتشاركية بين فاعليين ثقافيين محليين ومؤسسات ثقافية وجهات مانحة تعمل على توثيق التراث الفني والثقافي للسودان عبر صنع الأرشيفات الاليكترونية، الحكي، إعادة النشر والتوزيع وغيرها من الأنشطة، على سبيل المثال لا الحصر تراثنا السوداني.
يمكنكم قراءة تقرير عن أوضاع التراث الثقافي في السودان مقدم من مبادرة حماية التراث السوداني.