هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

إشتعلت الحرب في 15 أبريل وكنت أسكن في حي العمارات بالقرب من مطار الخرطوم وسط كل المعارك العنفية منذ الساعات الأولى. ما هي إلا أيام وهربت ركضاً من مكان سكني لشدة عنف الأصوات المدوية. نزحت بسببها إلى مسقط رأسي مدينة الأُبيض بحثاً عن الأمن وسط أسرتي. في نفس لحظة وصولي سمعت دوي الأسلحة والإشتباك حيث لم تسلم هي الأخرى، وتحولت في أيام الى مدينة شبه الحياة متوقفة فيها. فالأسواق مغلقة و المواصلات في شح و أغلب الأسر نزحت إلى قرى ومدن أكثر إستقرار مع إنقطاع التيار الكهربائي لأيام طويلة. 


توقف دراستي الجامعية وإنعدام الأمل في تعلم أي شيء، مع إنقطاع الإنترنت جعلني أتخذ قرار السفر إلى أوغندا. كانت ملجأ للأمل و الأمن و التعلم، فودعت أسرتي وإنطلقت إلى دولة كنت في زيارتي الأولى لها و المعلومات عنها قليلة. كل ما إستندت عيله هو وجود بعض الأصدقاء والصديقات كانو في إنتظاري لترتيبات السكن والدراسة.


المؤلفة إعتزاز بكري، بعدسة المصور مارك واسوا، على خلفية أفق كمبالا.


بداية حياة جديدة في كمبالا


ما زلت أذكر الايام الأولى في مدينة كمبالا وأغلب المطاعم والقهاوي التي نرتادها مع الاثيوبيين والارتريين، كلنا ذهب إلى مطعم الفردوس وقهوة استيلا وبقالة الفردوس التي يمتلكها سودانيين وسودانيات، ونذهب إلى صوالين التجميل الأوغندية المتواجدة في الداون تاون تحديداً منطقة أروا بارك. لم نعي أنفسنا إلا وكمبالا ممتلئة بالمطاعم السودانية و القهاوي و صوالين التجميل النسائية والرجالية و محلات البقالة، وأيضاً محلات بيع الخبز و الأفران.


في ذاكرتي أول أيام لي في نزل الطلبة وصاحب البقالة لا يجلب خبز مملح لأن عدد السودانيين قليل، وهم الفئة الوحيدة التي تستخدمه. ما هي إلا فترة بسيطة وبزيادة عدد السودانين أصبح بيتر، صاحب البقالة في منطقة وانديجيا، يجلب الخبز المملح لوجبة واحدة. مع مرور الوقت أصبحت وجبتين، حتى إستقر مؤخرا في توفيره على مدار 24 ساعة، حتى أن الطلبة من النزل المجاورة يأتون لشراء الخبز منه. 


الأعمال السودانية في وانديجيا. المصدر: مارك واسوا لأندريا


فرصة للأنشطة المدرة للدخل

 

منطقتي التي أسكن بها، منطقة واندقيا، بها الآن خمسة مطاعم وقهوة، و وكالتين سفر ودراسة، وجزارة ومحل بقالة وصالون رجالي. هذا الانتعاش في النشاطات المختلفة من أهم أسباب قدوم الناس، ففي أوغندا هناك سهولة لدرجة ما لإجراءات الاستثمار القانونية. إضافة لذلك، تعايش المجتمع الأوغندي وتقبله للانفتاح على قوميات أخرى جعل البلاد بيئة جاذبة للسودانيين. 


قابلت نضال أحمد، طالبة ماجستير بجامعة مكرري وأم لطفلة عمرها أربعة سنوات و صاحبة مطعم وكافيه أفروكوش، الذي أُفتتح بتاريخ 24 ديسمبر 2023 في مبنى هام تاور مول. تحدثت عن رغبتها منذ تواجدها في السودان في تأسيس عمل خاص منذ سنوات. لم تتوقع نضال للحظة أنها ستأسسه خارج السودان، ولكن الحرب و الظروف الاقتصادية جعلتها تبدأ عمل هنا بعد أن استقرت في أوغندا.


أضافت نضال أنها بدأت فعلياً في دراسة الجدوى و البحث عن مكان مناسب منذ سبتمبر 2023 ، و لم تواجه تحديات كثيرة لأن الاجراءات القانونية شجعتها على فتح هذا العمل و نمت رغبتها في مساعدة أسرتها في السودان. نضال شابة رأت أنها يمكن ان توفر فرص عمل لشباب وشابات سودانيين في أوقات تفرغهم من الدراسة، و يمكن أن تعينهم على توفير جزء من الحوجات. فبرغم صعوبة إيجاد عمل في أوغندا و رخص العمالة، إلا أن فرص الأعمال الشبيهة يمكن أن تناسب الطلاب.


نضال أحمد، صاحبة مطعم ومقهى أفروكوش، تحيي العملاء السعداء. المصدر: مارك واسوا لأندريا


 و لكن أشارت أ، دخول سوق العمل لا يخلو من التحديات، و بالنسبة لنضال كون أنها بلد جديدة، واجهت قلة المعلومات حول الأسواق المحلية الرخيصة لجلب المواد الغذائية. و بالرغم أن مواطنين البلد الأصليين لم يستهدفوا مبدئياٌ، إلا أن نضال سعيدة بهذه المغامرة وترى أن عملها الخاص في حالة ازدهار و يمكن أن تتوقع المزيد من خلال توسيعه مستقبلاً لإستهداف الأوغنديين بوجباتهم المحلية.


قديم وجديد


أردت أيضا أن أستمع إلى رجل أعمال سوداني مقيم في أوغندا لأكثر من عشرة سنوات و هو فضيل أحمد، شريك أسس مع شركائه مطعم الفردوس منذ 8 سنوات في منطقة أروا بارك. قال لي ”فكرت مع شركائي في استهداف المواطنين الجنوب سودانين نسبة لكثرة أعدادهم مقارنة بالسودانين في الماضي، إضافة لأنهم يشتركون معانا كسودانين في ثقافة غذائية متقاربة. بعد الحرب في السودان زاد عدد الزبائن من السودان. ثم تدريجياً رأينا توسع أعمال السودانين، و لاحظنا قلة في الزبائن فعدنا الى مربع الفئة القديمة للمستهدفين". أضاف أن بحسب مراقبته للأعمال في أوغندا، لاحظ توسع الأعمال "من حوالي ال14 مطعم سوداني في التاون و منطقة كابالاغالا و كانساناغا، لما يقارب ال140 مطعم وقهوة في كل أنحاء كمبالا الآن."


فضيل أحمد، الشريك المؤسس المشارك للفردوس، مطعم وبقالة شهير تأسس قبل 8 سنوات. مارك واسوا لأندريا


كما أضاف فضيل "هنالك مناطق طوال سنوات تواجدي لم أرى فيها سودانين، أما الآن أقوم بزيارة أسر سودانية فيها وأرى إنتعاش الإستثمار السوداني. فمن 10 محال و بقالات، يوجد الآن اكثرمن 70 بقالة. هنالك أيضا نوع من الإستثمار منذ سنوات طويلة للسودانين المقيمين في أوروبا و أمريكا، و يتمثل في شراء الأراضي الزراعية الكبيرة و إستئجارها لصغار المزارعين، أو الإستثمار عن طريق زراعتها وتربية الدواجن”.


في رحلتي للتعرف على الأعمال التي نشأت بعد الحرب، لفت نظري مطعم ريم البوادي. وفي حديث مع مزمل الغالي، جزء من فريق الإدارة في المطعم ومقيم في أوغندا منذ فترة سابقة للحرب، فقد كان جزء من السودانين الذي يعانون من إيجاد مكان مناسب لإجتماعات العمل، فأغلب الفنادق غير مناسبة لأنها غالية التكلفة و لا تقدم خدمات ووجبات سودانية للسودانين. لأسباب عديدة، بدأ مع آخرين التفكير في إنشاء مساحة تشبه البيت السوداني لمجتمع السودانين، مساحة للأنشطة الثقافية والاجتماعية والترفيهية ومناسبات الأفراح والترح. لذا حين أفتتح مطعم ريم البوادي، كان معد ليوفر الخدمات المفيدة و الوجبات السودانية بطعم سوداني. يرى مزمل أن المكان (الذي تأسس بعد الحرب) وجد قبول كبير وإنتعاش نسبة لمواصفاته التي تغطي حوجات الأسر السودانية.


يقوم الموظفون بإعداد الطلبات في مطعم الفردوس في أروا بارك. المصدر: مارك واسوا لأندريا


مجال الأعمال بالنسبة لمزمل في توسع و أوغندا تتوفر فيها المقومات الأساسية للإستشمار، والتي منها إستقرار سعر الصرف و إنعدام التضخم الاقتصادي، والإستقرار السياسي والأمني وإستقرار الكهرباء. يشجع مزمل السودانين على الإستثمار ولكن يوصي أيضاً بتوسيع نوعية المشاريع وعدم حصرها في دائرة المطاعم والقهاوي ومحال البقالة فقط، وإستهداف الجنسيات الأخرى كون أن أوغندا بها ما لا يقل عن 40 مليون مواطن و مقيم. يثني أيضاً أن أوضاع الإستثمار للسودانين قبل الحرب في طبيعة مشاريعهم لا يستهدفون السودانيين لقلة عددهم، عكس الأوضاع الآن، مما جعل بعض الأعمال الجديدة تستهدفهم حصرياً.


تعرفت أيضا على إسراء الشيخ وصديقتها هبة، صاحبات محل كشري و سلطات. ترى إسراء أن عملهن مختلف عن بقية المشاريع في الفئة المستهدفة والأسعار، فهن يستهدفن الطلبة مما جعلهن يخفضن الأسعار بصورة كبيرة، بالرغم من أنهن يطمحن لتوفير مصدر دخل مدر للأرباح. حسب نظرة إسراء، العمل في أوغندا سهل و سوق العمل جاذب للإستثمار برغم الاقتصاد النامي للبلاد. و يعتبر مطعم هبة وإسراء مصدر الدخل لأسرة إسراء الصغيرة، فهي وزوجها فؤاد شركاء معاً في المجهود و المال والادارة. و كما عبرت إسراء فهي تعتبر المشروع أداة النجاة لأسرتها، حتى ولو إستطاع توفير إيجار المنزل.


إسراء الشيخ تعد الفلافل لضيوفها في المقهى. المصدر: مارك واسوا لأندريا


دروس للقادمين الجدد

مع إستمرار الحرب في السودان، يسعى المزيد من الناس لإيجاد خيارات أماكن آمنة و موفرة لسبل إكتساب العيش، و سماع العديد منهم أن الإستثمار في أوغندا والحصول على المعلومات المتعلقة به ليس صعباُ شجع المزيد منهم على القدوم. عشرات المنصات في السوشيال ميديا و المجموعات تقدم المعلومات عن السوق والإجراءات القانونية و تساعد في تطوير المشاريع و تعمل على ربط المجتمع السوداني بالمجتمع المستضيف. أما الحكومة الأوغندية، فهي تتعامل مع كل لاجئ حاصل على بطاقة اللجوء نفس تعامل المواطنين الأوغندين من حيث قابلية الإستثمار و فتح الحساب البنكي و الكثير من التسهيلات بنفس الرسوم الحكومية للأوغنديين.


مع تفكير المزيد من الناس في طرق الاستقرار في دول اللجوء الجديدة، من المرجح أن تستمر أوغندا في رؤية المزيد من الإستثمار من السودانيين، من الصغير إلى الكبير. هل سنرى تنوعًا أم جاذبية مستمرة تجاه المألوف ؟




إعتزاز بكري

إعتزاز بكري نسوية ومدافعة عن حقوق الإنسان وطالبة مختبرات طبية وهاوية للكتابة