هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

 

تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة لحرب السودان. تعكس الآراء الواردة في هذه المقالة آراء المؤلف فقط وليس آراء أندريا. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا.


بعد سماع قصص الفارين من مدينة سنجة بسبب إقتحام قوات الدعم السريع للمدينة مؤخراً. أردت مشاركة قصة نزوحي وعائلتي من مدينة كوستي بالنيل الأبيض بعد إنتشار الذعر الذي خلفه اقتحام قوات الدعم السريع ولاية الجزيرة ديسمبر الماضي، وتمدد رقعة الحرب من العاصمة الخرطوم ناحية بقية مدن وولايات السودان الآمنة. 


تقول الأمم المتحدة إن 55,000 شخص فروا من سنجة مع سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة. المصدر: Middle East Eye

 رحلة النزوح 2.0


هل يجب أن يمر كل السودانيين بتجربة النزوح حتي يحققو مآربهم؟ هل يجب أن نتشرد ونترك ماكنا نسميه يوماً ملاذنا الأمن لأنهم لم يتفقوا؟ هل يجب أن نترك أوطاننا لهم ونهاجر بحثاً عن الأمان الذي فقدناه؟ هل وهل وهل؟ 

أسئلة تدور في خلد كل سوداني لا يملك أحد جوابها!


لقد نزحنا لأول مرة منذ بداية الحرب، كنا نسمع بالنزوح ومرارته مِن مَن نزحو من الخرطوم، لكن لم نفهم ونشعر بسوء التجربة والإحساس المرير الذي يرافقها من ألم وإعتصار للقلب والمصير المجهول الذي ينتظرنا وينتظر بلادنا الحبيبة وشعبها إلا بعد أن جربناه بأنفسنا.


أُجبرت وعائلتي الخروج من مدينة كوستي في ولاية النيل الأبيض بعد أن كنا ننعم بالأمان فكل مايحدث من حرب وشد وجذب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع كان محصوراً في الخرطوم في الوسط وولايات دارفور في الغرب.

باقي الولايات السودانية كانت تعيش حياتها وروتينها اليومي كما كان قبل الحرب إلا مِن بعض التغييرات مثل زيادة الكثافة السكانية وقيام العديد من المشاريع والتغيرات بسبب القادمين الجدد الذين أتوا بأفكارهم الفريدة وضجت المدن والقرى بالحياة بعد أن كانت تسكنها الرتابة.


حتى الضيوف كانوا قد اعتادوا علي الحياة الجديدة التي كتبت لهم بعد أن تشردوا من ديارهم وخسروا أملاكهم من بيوت وسيارات وأثاثات وأدوات كهربائية حتى ملابسهم فقدوها بسبب النهب الذي طال كل منزل في الخرطوم. لكنهم رضوا بقدرهم فما حدث لم ينحصر علي شخص واحد، فقد حدث هذا لجميع سكان الخرطوم وكما جاء في المثل السوداني "موت الجماعة عرس"، فرضوا بواقعهم الجديد ووضعوا المستقبل نصب أعينهم.


ولكن هيهات، بعد ان استولت مليشيا الدعم السريع علي مدينة ود مدني وسهولة دخولهم والانباء التي انتشرت عن تسليم الجيش للمدينة للمليشيا من غير مقاومة بث الرعب في قلوب الناس في كل مكان، وبدون حامي أو مدافع، كنا عرضة للميليشيا ويمكن أن نفقد ممتلكاتنا وأمننا واستقرارنا.


اصبح كل من يستطيع السفر ولديه القدرة المادية في الطريق لمدينة بورتسودان حيث تحتوي علي المطار الدولي الوحيد في السودان بعد بعد تدمير مطار الخرطوم الدولي بالعاصمة. ونزح من لم يتمكنوا من عبور الحدود إلى مدن أكثر أماناً في الشمال والشرق. لقد أصبحت هذه المدن وجهة للباحثين عن الأمان، لن اقول الإستقرار لأن الهلع في قلوب الناس لن يجعلهم يهدأوا ويشعروا بهذا الشعور الذي أصبح رفاهية لدى السودانيين.


البحث عن مخرج


خرجنا من كوستي نحو سنار ومعنا جدتنا الكبيرة في السن، ونحن لاندري هل ستتحمل وعثاء السفر! فالطريق أمامنا طويل. فالمسافة تقدر تقريبا ب1139 كم او 701 ميل. وهذا عندما كان السفر عن طريق مدني ولكن بعد الهجوم عليه أصبح ذلك الطريق مستحيلاً، لذلك سلكنا طريقاً آخر أطول وأصعب وأخطر، ولكن لم يكن لدينا حل آخر.


خريطة توضح المسافة من كوستي إلى بورتسودان قبل الهجوم علي مدني



خريطة توضح الطريق الذي سلكناه بعد الهجوم علي مدني 


بدأت الرحلة ب 4 سيارات منهم من يريد إخراج أهله من دائرة الهلع الى الأمان ومنهم الذي لديه شخص مريض، ومنهم من يريد إخراج سيارته خوفاً عليها من السرقة لأن المليشيا عند دخولها الى مدينة تسرق المال والذهب وكل انواع السيارات.


وكلما تقدمنا في الطريق كانت تنضم لنا سيارة إلى أن أصبحنا قافلة من السيارات، نتوقف كل تارة في الطريق نتجاذب أطراف الحديث ونواسي بعضنا ونتشارك الأكل ونوصل الطريق مرة أخرى، ببعض الأحساس بالأمان أننا كُثر وعُصبة لدعم بعضنا البعض.


قافلة السيارات وهي تستعد للمغادرة


بدأنا الرحلة من سنار، حيث كان السكان في حالة ذعر وهلع مثل سكان مدينتي كوستي وربك، منهم الذي سلم أمره لله لأنه لايريد مغادرة منزله ومنهم من ليس لديه الإستطاعة المادية ومنهم من يبحث عن الوقود الذي انعدم بعد الأحداث من أجل السفر وإبعاد أهله وسيارته.


وبسبب أن بعض ضِعاف النفوس يعبئون سياراتهم ويبيعون محتواها للمليشيا، أمر الجيش محطات الوقود بتقليل الحد اليومي لألف لتر فقط فأصبحت مكتظة بالسيارات الصغيرة والكبيرة. ومنذ أن بدأت الحرب وفي كل محنة نمُر بها كان يظهر تجار الأزمات الذين يستغلون حوجة الناس الماسة، فالمضطر كان يشتري الوقود من تجار يبيعونه بعشرة أضعاف سعره الأصلي.


طريق السفر كان يعج بهذه المناظر رحلة الهروب بعيداً عن الأماكن المهددة بوصول مليشيا الدعم السريع. المصدر: ولاء عبد العاطي


حالة من الخوف مع خيارات محدودة


كنت أرى الذعر والترقب في عيون الناس، حيث كان أي حديث يتخلله تساؤلات هل سيأتون إلينا هل سيصلونا هل سيعوثوا في الأرض فساداً مثلما فعلوا في أي بقعة دخلوها؟  سوف يسرقوا سياراتنا وينهبون ممتلكاتنا وكان ختامه "يارب مايجو و ربنا يستر علينا منهم".


أخذنا الطريق ناحية الشرق بكبري سنار متجهين إلي محلية الدندر، الطريق البديل للطريق الذي يمر بمدينة ود مدني. كان ربع الطريق فقط معبد بالأسفلت، و منه سلكنا طرق ترابية وعرة جداً وطرق تمر بالمشاريع الزراعية. كنا أسطول يتكون من ٥ سيارات تقدمنا سائق محنك استأجرنا خدماته لأنه يعرف تلك الطرق جيداً.


كان الطريق سيئاً للغاية، إحدى السيارات المرافقة كان بها أحد أقربائنا مريض جداً ويحتاج لغسيل الكلى كل ٣ ايام فقرر أبناؤه الإنضمام إلينا من سنار لأن معدات الغسيل إنعدمت والمستشفيات تكاد تنعدم من الأطباء الذين خرجوا لأخذ عائلتهم لبر الأمان، أو لأن المليشيا كانت تستهدف الأطباء لمعالجة جرحاهم. كنا ندعو في كل حفرة نسقط فيها وفي كل مطب أن يسلمه الله.


أظلم الليل ونحن مازلنا في وسط اللامكان، حيث لاترى أي معالم لوجود حياة في تلك الطرق فقط أراضي زراعية محصودة تبدو وكأنها أراضي قاحلة وموحشة والسماء والنجوم والسواد يحيط بنا من كل جانب.


عندما وصلنا إلى منطقة تسمى خزان أبو رخم، كانت العشرات من السيارات والباصات السفرية متوقفة بالقرب من منطقة الخزان للمبيت. إستوقفنا عسكري من الجيش وطلب منا المبيت لأن تلك الطرق خطرة ويوجد قطاع طرق مسلحين يختبئون في المزارع ويباغتون المسافرين. ولكن لم نستطع فعل ذلك لأن المريض لم يحتمل هذا الإنتظار، فقد كان متأخر عن مواعيد غسل الكلى بيومين، لذلك واصلنا وكلنا توجس وأمل بسلامة الطريق.


خزان ابوزخم. المصدر: صفحة وزارة الزراعة والغابات السودانية على الفيس بوك

 

سرنا طويلاً في طرق تشبه بعضها كنا نرى أحيانا قرى صغيرة، لنرجع مرة أخرى للطرق الممتدة التي تبدو وكأن لانهاية لها. لماذا لا ينتهي هذا الطريق؟ هل ضعنا؟ هل سنصل أم سنموت هنا؟ ماذا سيحدث لأطفالي؟ ماذا سيحدث للمريض الذي يرافقنا فأبنائه تقتلهم قلة الحيلة. كنت أتسائل طوال الطريق وأضع أسوء السيناريوهات.


عندما وصلنا أحد القرى تقدمتنا شاحنة لنقل البضائع وطلب منا سائقها السير خلفه لمعرفته بتلك الطرق جيداً. ذهبنا خلفه ونحن لانثق في نواياه هل هو صادق أم يقودنا إلى كمين نهب مسلح؟ 

وبعد سير لمدة نصف ساعة أصبح يطاردنا أشخاص ملثمون يقودون دراجات نارية ويطلبون منا التوقف بحجة أن معهم شخص مريض يريدون منَا أخذه معنا إلى أقرب مستشفى. كدنا أن نصدقهم إلا أن سائق الشاحنة كان يحمل سلاحاً فأطلق طلقات تحذيرية في الهواء فهربو في الإتجاه المعاكس.


وأخيراً بعد الهواجس والقلق والأفكار السوداء والرعب الذي عشناه وجدنا الطريق المعبد الذي يقودنا إلي القضارف. وصلنا إليه بعد 8 ساعات من المسير في الحفر والأراضي الترابية الوعرة، عندها فقط تنفسنا الصعداء. 


الطريق المسفلت اخيراً ورفقة


شعور بالهدوء والحزن في القضارف


لقد كانت مدينة القضارف هادئة تغط في سبات عميق بسبب حظر التجوال المفروض في المدينة حيث دخلنا الساعة 1 صباحاً. كان يوجد في بداية كل شارع إرتكاز جيش يحققون معنا من أين أتينا؟  وإلي أين سنذهب؟ وماذا نحمل معنا؟ ويطلبون رؤية الأوراق الثبوتية وإثبات ملكية السيارات بسبب سرقة السيارات بواسطة جنود الدعم السريع من المدن التي سيطروا عليها ومحاولة بيعها في مناطق أُخرى.


كان الترقب سيد الموقف في كل المدن السودانية لوجود مهددات تتمثل في الخلايا النائمة من أفراد المليشيا ممن يختبئون في المدينة، حيث يتنكرون بأنهم مدنيون ويعملون كبائعي خضار أو في أكشاك بيع السجائر، حيث ينتظروا هجوم زملائهم من خارج المدينة ليهاجموا هم من وسطها وتسهل لهم السيطرة.


في اليوم الثاني من وصولنا توجه العم المريض إلى مركز غسيل الكلى ليتلقي جلسة الغسيل ولكن لم يجدوا الدواء الذي يجب أن يتلقاه بعد الجلسة، وكانت المستشفى خالية من أطباء وممرضين إلا طبيب واحد في غرفة الطوارئ من أبناء المدينة رفض الخروج قائلاً أنه أملهم الوحيد لتلقي العناية الطبية.


كان الطبيب مشغولاً مع الكثير من المرضى، فترجاه إبن العم المريض ليفحص والده ويقدم له الرعاية الطبية اللازمة. وبعد أن أتى وحاول إسعافه لم يستجيب جسده لأي دواء وأي محاولة لإنعاشه. وبعد نصف ساعة أعلن أنه توفي نسبة لعدم تحمل جسده الهزيل المريض لكل هذه المشقة. لقد استسلم وكانه يقول: "واصلوا طريقكم من غيري فهنا محطتي الأخيرة".


توفي في مدينة لا يعرف فيها أحد ولم يسبق له زيارتها ولكن "لاتدري نفس بأي أرضٍ تموت". كان أبناؤه يرددون وهم يعتصرون ألماً "أُخرج والدنا من دياره التي عاش فيها كريماً جل حياته ليموت غريباً في مدينة لايعرف فيها أحد". تكافل أهل المنطقة التي مكثنا فيها لتحضير مايلزم لتكفينه، وتطوع شباب الحي وذهبوا قبل الجثمان لحفر القبر وتجمع كل الجيران لماواساة أبنائه ومواراة جسده الثرى.


خرجنا في اليوم التالي مواصلين الطريق الذي بدأناه، متوجهين من القضارف إلى مدينة كسلا. على إمتداد الطريق ومنذ أن خرجنا من سنار إلى أن وصلنا، كان سكان القرى التي تقع في طريقنا ناصبين الخيام لتجهيز الطعام والعصير والشاي والقهوة لكل من يمر. كانوا يقفوا في منتصف الطريق ممسكين بأقمشة بيضاء لقطع الطريق ومنع السيارات والباصات السفرية من التقدم لإمدادهم بالزاد، حتى عندما كانوا يرفضون بحجة الإستعجال كانوا هم أسرع في إعطاء الماء والأكل والإبتسامة الودودة والدعوات برحلة آمنة.


وعندما كان يحل الليل كانوا يترجوننا لأن ننزل ونقضي الليلة معهم، قائلين نحن اخوانكم والبيت بيتكم. لقد أثاروا إعجابي، هل لك أن تخيّل أنهم يقفون تحت الشمس الحارقة باذلين أموالهم إيماناً بدورهم كسودانيين لمساعدة إخوانهم المنكوبين الهاربين بحثاً عن الأمان؟ لقد زادوني حينها فخراً بإنتمائي لهذا الشعب المعطاء الذي لايستحق مايحدث له، ولكن لكل إبتلاء نهاية وإن طال الليل لابد أن يأتي الصباح.


يوقفون المسافرين بمد القماش الابيض لتزويدك بماتحتاجه.

يوزعون الزاد بهمة للمسافرين


عرض علينا القهوة ممازحاً ظبط المزاج للسفر بمزاج

 

المسافة من القضارف إلى كسلا ليست طويلة ولكن المسافة إلى بورتسودان أبعد. لذلك قرر السائق المبيت في كسلا لنواصل في الصباح التالي باكراً.

 

هور جبال التاكا أذوناً بدخولنا الى مشارف مدينة كسلا

التعبئة الشعبية (الإستنفار) بولاية كسلا


كانت كسلا مدينة جميلة بسيطة ومرتبة و منظمة ونظيفة للغاية. لم أخطط يوماً حتى في أحلامي الجامحة أنني سوف أخوض رحلة كهذه. رأيت مدناً لاتربطني بها علاقة كنت أسمع بها فقط، وكنت أفكر طوال الطريق أن بلادنا واسعة شاسعة ويمكن أن تسع الجميع إذا تصافت القلوب، ولكن الشر تغلغل بيننا وشتتنا وجعلنا نشعر أن بلادنا أضيق من خرم الإبرة.


في كسلا، مكثنا في منزل أقربائنا لنقضي الليلة. كان أهل العم الذي توفي مثقلين بالحزن لذلك أتى الجيران لتعزيتهم ومواساتهم. و لكن حتى في تلك المدينة الهادئة كان الذعر سيد الموقف بسبب توقع وصول قوات الدعم السريع. ففعل أهالي كسلا مثل البقية، من يستطيع السفر شد رحاله، ومن لايستطيع كان ينتظر مصيره المجهول.


أخبرونا أن أهل المدينة شاركوا في مبادرة النفرة الشعبية التي شجعت المواطنين على الدفاع عن أنفسهم وأهاليهم من شر الجنجويد. أخبرتنا النسوة اللاتي أتين لزيارتنا أن أهالي المنطقة يذهبون للتدريب على حمل السلاح يومياً في الصباح الباكر، حيث تطوع النساء والرجال بمختلف الأعمار.



                                 مواطني كسلا يحملون السلاح استعدادا للدفاع عن انفسهم. المصدر: موقع صحافة العرب الإخباري


 استيقظنا باكراً لنواصل رحلتنا. حملنا متاعنا وتم تجهيز السيارات استعداداً للرحيل. ودعنا كسلا وأهلها الطيبين وهم يتمنون لنا رحلة آمنة ويسيرة.

عندما أشرقت الشمس كنا في طريقنا إلى بورتسودان حاضرة البحر الأحمر.


كان كل شيء مختلفاً في هذه البقعة من السودان مما اعتدنا عليه نحن سكان الوسط، هيئة إنسان الشرق ملبسه وشعره ولسانه وطريقة بناءه لمنزله. حتى حيوانات تلك المنطقة كانت مختلفة حيث أن أشكال وألوان الأبقار تختلف عن ما إعتدنا رؤيته في وسط السودان، وأنواع الطيور كانت تكثر فيها الطيور الجارحة والغربان والكثير من الأشياء التي تجعلك تشعر انك لست في بيئتك المعتادة وأنك بعيد جداً عن المنزل.


نوع من أنواع الصبار أراه لاول مرة


تكثر رؤية الغربان في هذه الرقعة من السودان


عندما وصلنا العقبة المدخل إلى مدينة بورتسودان كانت إجراءات التفتيش صارمة جداً لذلك أمضينا ساعتين ونصف ونحن ننتظر دورنا للعبور. وعندما وصلنا أول الصف قال لنا الضابط المسؤول أننا السيارة رقم 641 التي تدخل إلى بورتسودان في ذلك اليوم فقط.


من أطول اوقات الانتظار التي اختبرتها في حياتي


كانت بورتسودان تنعم بالهدوء لكنها كانت مكتظة فقد كانت ملجأ لكثير من النازحين الأوائل من الخرطوم منذ بداية الحرب، والآن أصبحت تستقبل النازحين القادمين من ولاية الجزيرة ومنهم من نزحوا للمرة الثانية من الخرطوم إلى الجزيرة ومنها إلى بورتسودان. تستقبل المدينة آلاف النازحين، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وتردي الخدمات الصحية، وإكتظاظ مراكز الإيواء التي تتوزع بالمساجد والمستشفيات والمدارس والمتنزهات.


                                       بعض النازحين يمكثون في الشوارع بانين بيوتا من الكرتون والعصي

الأحمر

شاطئ البحر الأحمر



أسعار الإيجارات في بورتسودان كانت جنونية وأسعار السلع الغذائية مبالغ في تسعيرها. إن لم تملك مكان تمكث فيه أو الكثير من المال، لن تستطيع الصمود فيها. ومن ناحية أخرى لديهم شح في المياه حيث لا تغطي شبكات المياه العمومية معظم أحياء المدينة، لذلك يجب أن تشتري مياه الشرب من البقالات أو محطات التحلية، ومياه الإستخدامات الأخرى تُجلب من الذين يجولون في الشوارع بتناكر صغيرة في عربة يجرها حمار حيث يسميه السكان المحليون "السقا". وهي مياه مالحة جداً غير صالحه للشرب أو الطبخ. البيوت والبنايات الكبيرة تحتوي على خزان مياه أرضي بسعات ضخمة يتم ملؤه أسبوعياً بواسطة تانكر مياه كبير، لتتوفر المياه في المواسير. 


                                                السقا يبيع المياه للمواطنين لعدم وجود مصادر للمياه المصدر: وكالة أنباء العالم العربي


يجب ألا نفقد الأمل أبدًا

بالرغم من المصاعب، يتمنى الجميع أن تتوقف هذه الحرب الرعناء التي أخرجت الناس من بيوتها ومأمنها وممتلكاتها وأن يعود كل مواطن سوداني إلى مكانه الذي ينتمي اليه لأنه لايوجد مكان مثل المنزل.


في بورتسودان، كما في كل مكان مررنا به في رحلة النزوح، الناس متوجسة لأنه بصراحة لم يعد أحد يشعر بالأمان بعد تجديد عزم قوات الدعم السريع توسعهم في كل بقاع السودان. بعد التعافي قليلاً من إرهاق السفر، لاحظت عزم الجميع على الإقدام بروتينهم اليومي و الحث على التأقلم على الوضع المتقلب. حيث كانوا يذهبون الى العمل صباحاً بشكل عادي ويعيشون تفاصيل يومهم المعتادة بالرغم من حالة الرعب و تفاقم الأزمات مع موجة النزوح التي أثرت على حوالي 236011 شخص بين ديسمبر و 24 يناير 2024.

 

مكثت في بورتسودان لمدة شهر ونصف في إنتظار الموافقة على تأشيرتي. وبحلول الوقت الذي غادرت فيه، كانت جدتي المريضة وبعض أقاربي ينتظرون إستقرار الأوضاع الأمنية، حتى يتمكنوا من العودة بأمان إلى منازلهم. واصلت جدتي علاجها في بورتسودان، لكنها قاومت البقاء بعيدًا عن منزلها لفترة طويلة واستخدمت في النهاية نفس الطريق الوعر للعودة.

 لقد تحدثت معها عبر الهاتف مؤخرًا وأخبرتني أن الأوضاع الأمنية متزعزعة والخوف يعم الجميع بعد دخول قوات الدعم السريع مدينة سنجة بسبب قربها الجغرافي من مدينة كوستي. نتمنى أن تننهي الحرب قريباً ليعود الأشخاص المنكوبون إلى منازلهم.


ولاء عبدالعاطي محمد نور

ولاء عبد العاطي، مترجمة ماهرة، ومحررة مساعدة، ومنشئة محتوى، ولديها التزام قوي بربط الثقافات من خلال اللغة والإعلام. تشتهر ولاء بتفانيها في الدقة والإبداع، حيث تعمل على إضفاء الحيوية على القصص والأفكار، مما يجعل المحتوى متاحًا لجمهور متنوع. ساهمت في العديد من المشاريع التحريرية، حيث أظهرت موهبتها في إنشاء المحتوى وخبرتها اللغوية.