تحذير وإخلاء المسؤولية: المحتوى الذي أنت على وشك قراءته يحتوي على تجارب مصورة وحساسة لحرب السودان. تعكس الآراء الواردة في هذه المقالة آراء المؤلف فقط وليس آراء أندريا. ننصح القارئ بالتقدير وحرية الإختيار. اقرأ إشعارنا التحريري الكامل هنا
المقدمة:
إتسمت ثورة ديسمبر بالسلمية وهي الشعار الذي رفع، غُنّي وهُتِفَ به مِلء الحناجر، وبرغم العنف المفرط الذي وجِهت به الاحتجاجات السلمية، لم يزد هذا العنف المتظاهرين إلا تمسكاً بالسلمية.
السادس من أبريل من العام 2019 كان يوماً تاريخياً إذ اخيراً وبعد أشهر من التظاهر، تمكن السودانيون من الوصول إلى القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية في خطوة كان الغرض منها استجداء عاطفة القوات المسلحة للإنحياز لجانب المواطنين ضد السلطة في محاولة لإعادة عجلة التاريخ لثورتي أكتوبر 1964، أبريل 1985.
وبالفعل أثمر الفعل الثوري وتم تنحية الرئيس الأسبق عمر البشير في العاشر من أبريل إلا أن الأجندة المشتركة بين القوات المسلحة والشعب لم تستمر طويلاً إذ سرعان ما تم فض الاعتصام بالقوة المفرطة من قبل قوة مشتركة، قبيل يوم واحد من عيد الفطر ووسط زخم إعلامي كبير جداً للتجمع لآداء صلاة العيد بأرض الاعتصام.
محتاجات يغلقن الطريق على عربات الجيش خلال الثورة. المصدر الإشتراكي
في الخامس من يوليو 2019 تم الاتفاق على تشكيل مجلس سيادي توافقي بين المجلس العسكري الإنتقالي ومرشحين مدنيين دفع بهم تحالف قوى الحرية والتغيير. إلا أنه ومنذ إعلان المجلس وتشكيل الحكومة برئاسة رئيس الوزراء السابق الدكتور عبدالله حمدوك، ظل المشهد السياسي في الخرطوم محتقناً، بين آمال وطموحات القوى العسكرية في السلطة والثروة والطموح السيادي والتجاذب السياسي بين السياسيين، أخيراً تم الاطاحة بالحكومة الإنتقالية في انقلاب عسكري في الخامس والعشرين من أكتوبر من العام 2021.
وبعد أكثر من عام من المحاولة لإستعادة مسار التحول الديمقراطي في السودان، إستيقظ السودانيين علي أصوات الحرب التي ظنوا أنها حدثاً عارضاً سرعان ما سينجلي ولكن الكابوس لا يزال مستمراً بعد مرور 19 شهراً إنقلبت فيها الموازين وأضحت الخيارات صفرية للملايين من السودانيين العالقين بأماكن النزاع أو المهددين بوصول الحرب إليهم.
وهو ما دفع الكثيرين منهم للإستنفار والإنضمام لمعسكرات التجنيد التابعة للقوات المسلحة والتي نادى بها القائد العام للقوات المسلحة وسط تأييد من القوى التقليدية في المناطق المختلفة التي تقع تحت سيطرة الجيش السوداني.
في المقال أدناه، نستعرض قصص بعض الأفراد الذين لبوا النداء وإنضموا لمعسكرات التدريب، المقال مكتوب في شكل قصص يرويها الأفراد أنفسهم ومبنية على مقابلات أجرتها الكاتبة مع القاصين.
قصة (1) : النداء الثاني
في 27 يونيو 2023 خرج البرهان، القائد العام للقوات المسلحة، بثاني بيان له منذ إندلاع الصراع في ١٥ أبريل، وجه فيه نداءاً للشباب في السودان لحمل السلاح والانضمام للجيش السوداني للدفاع عن بلادهم. كان هذا النداء الوطني الثاني الذي ألبيه.
النداء الأول كان وعمري 16 عاماً، نداء الثورة السودانية، حينها وضعت كراسة المدرسة من يدي وخرجت وسط الوفود حاملاً الترس، و هتفت حرية، سلام، وعدالة. و إن كان تصوري وقتها للمفاهيم الثلاثة محدود نسبة لصغر سني، حينها وضعت على عاتقي أنا الذي لم أتجاوز الثانوية أن لا هوية لي سوى ثائر.
في 27 يونيو كنت بنادي الحي برفقة أصدقائي الثلاث مترقبين لكلمة البرهان، وقتها تمدد الصراع الذي بدأ في مناطق محدودة في وسط العاصمة الخرطوم؛ للعاصمة أجمع تقريباً ما عدا مناطق متفرقة بمدينة أمدرمان، دارفور تنزف والأبيض محاصرة، أحسسنا بالعجز الشديد حينها، وكان النداء خلاصنا من هذا العجز.
قبل الحرب، كنت طالب علوم حاسوب على أعتاب التخرج، أنا أكبر إخوتي و أمي تنتظر يوم تخرجي منذ ولادتي. بعد إندلاع الحرب لم يتبقى لنا شيء سوى منزلنا، سبل الخروج منعدمة؛ نسبة لذلك تحتم علي أن أدافع، لن أقف عاجزاً أمام أهل بيتي، على كل حال أنا وسط الهلاك، فلِما أقف متفرجاً والموت مصيري؟
انضممت بعدها بإسبوعين إلي أقرب معسكر إستنفار أنا ورفاقي الثلاث وبدأت رحلة التحول من مدني لم يرى سلاحاً عن قرب قط، إلى مستنفر في حرب مفتوحة.
مستنفرين بمروي، الولاية الشمالية. المصدر وكالة السودان للأنباء
بدأنا بالتدريب البدني ثم إنتقلنا إلى حمل السلاح مباشرة بعد خمسة أيام، من ثم تحولنا لقوة إحتياطية لعدة أسابيع. في غضون ثلاثون يوماً كنا بالصفوف الأمامية؛ أذكر شعوري وقتها لم يكن خوفاً بقدر ما كان غبناً وثأرٌ، يحركني الأدرينالين بداخلي. بدأت المعركة بعنف وأُردي قتلى. تملكني شعور بالذنب لم يفسره حتى ذلك الغبن، ولم يفارقني لوقت طويل.
مع مرور الوقت تدربت على مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة وبطبيعة الحال إعتدت على مشاهد العنف، شاركت في عدد من المواجهات المباشرة، أخرج مع رفاقي الثلاث لا نفترق أبداً، معاً في الكتيبة والملحق وحتى ميادين المعارك.
أصعب المواجهات كانت عندما كنا أنا ورفاقي محاصرين بأكثر من خمسين فرداً، لا أعلم إلى يومنا هذا كيف نجونا، ولكني على ثقة دائماً أن ني إذا لقيت حتفي، فإنهم سيتلقفونني ولن أظل متروكاً هناك. خرجنا معاً وتقدمنا الصفوف، كما في ثورة ديسمبر "عشان خاطر عزة" لنحقق حلم السودان الجديد الذي رسمناه و آمنا به.
مستنفر
٢٢عاما
الخرطوم
قصة (٢) : سعاد
أمكث بإحدى قرى الشمالية حيث الحياة رتيبة وتسير في خطين متوازيين، يقوم كل من النساء والرجال بواجبات لا تلتقي ابداً، انقلبت الموازين رأساً على عقب بعد اندلاع الحرب، إذ أغلقت الجامعات أبوابها؛ الجامعة كانت نافذتي الوحيدة نحو العالم. ومن ثم إنشغلنا بإستقبال الأهل والأصدقاء القادمين من الخرطوم وبقية المناطق المتأثرة بالحرب. بعض الوافدين كانوا فتيات بعمري، سرعان ما أصبحنا صديقات نقضي الوقت سوياً ونتعاون في المسؤوليات من تحضير الوجبات والشاي وغسل المواعين.
بمغيب شمس أحد الأيام خرج القائد العام للقوات المسلحة في بيان يدعو فيه الشباب/ات للاستنفار، لم نكترث له فليست منا من تهتم بتفاصيل السياسة, بعدها بأيام أنضم أبناء عمومتي لمعسكر القرية، كانوا يجرون في حشود وينشدون الأناشيد الحماسية يومياً مروراً بمنزلنا وكنا أنا والبنات نتسلق الحائط خلسة ونشاهدهم بحماس.
بعدها بأشهر وجدت إعلاناً لفتح معسكرات الإستنفار للنساء، أول ما تبادر لذهني هو أخيراً شيء مختلف للقيام به لكسر رتابة الحياة؛ فدخلت في جولات إقناع لوالدتي التي واجهتني بالرفض القاطع تقول هذا قد يهدد أمومتي في المستقبل، وأن لا مكان للنساء في ميادين القتال "شن دخلكن في شغل الرجال " حسب عبارتها. وقتها لم يكن هناك مخاوف من تمدد النزاع إلى مناطقنا فقد كنا جغرافياً معزولين عن ما يحدث في الوسط.
تخريج الدفعة الثانية من المستنفرات بمروي، الولاية الشمالية. المصدر الرائد
بعد سقوط مدني تبدل الحال، وازدادت التهديدات بوصول القتال إلى الشمال، كنت أتابع ما يحدث وأفكر ماذا سيحل بنا إذا طالنا النزاع، كيف يضحي الحال بفقد البيوت والأرواح والأعراض. بدأت بأخذ تفاصيل الإستنفار بجدية مفرطة تنبع عن ما غمرني من خوف، إذ أنني فتاة وحيدة لوالداي، ولا نملك سوى المنزل الذي نعيش فيه، كما أن خيارات السفر غير متاحة لنا، وهو ما مهد لقبول أسرتي لإنضمامي لمعسكر التدريب.
أستيقظ باكراً لأقوم بواجباتي المنزلية بأكفء وجه لأهرع بعد الغداء إلى المعسكر، بدأنا بالتدرب على حركات بدنية والتي إستغرقت وقتاً طويلاً، مؤخراً وصلنا لحمل السلاح وكيفية تحديد الأهداف وإطلاق النار.
قد لا أكون متأكدة من مقدرتي على القتال إذا تحققت مخاوفي، ولكني على يقين أنني لن أقف متفرجة وأصبح ضحية، ربما لن أحتاج حتى لحمل السلاح للدفاع عن نفسي وأسرتي بفعل الدعم والأمان الذي يوفرونه شباب عائلتي ومجتمع القرية، بالرغم من ذلك عقدت العزم على أن أكون قادرة على حماية نفسي ووالداي إن لزم الأمر، وهذا ما يحفزني يومياً، ويعطيني الإطمئنان.
سعاد 19 عاماً
مستنفرة
الشمالية
أسلحة جاهزة للسيدات للتدرب عليها. المصدر سكاي نيوز
قصة (3): خطاب الاذاعة
بثت الإذاعة خطاباً للبرهان، سمعته بأحد أماكن تجمع الرجال أمام البيت، وخرجت مسرعة، لا أعلم لما، لكني علمت أنها البداية لكارثة أخرى، بعد ثمانية أشهر من الحرب كنا قد بنينا إستقراراً من العدم بمكان جديد اختير بمعايير أن يكون فقط بعيداً عن النزاع. بدأت الكارثة بخبر الهجوم على مدنى، أحسنا الظن أنه سيناريو آخر من حصار الأبيض، مرددين أن الجيش لن يسمح بسقوط مدينة مهمة تضم ما يقدر ب ٥ ملايين نازح. سبب سقوط مدني في أيدي قوات الدعم السريع كارثة إنسانية آخرى، مزيد من الوفيات، مزيد من النزوح مزيد من فقدان كل شيء، للبعض للمرة الثانية؛ و كأننا نشهد إندلاع الحرب من جديد، بذات الوجع والألم.
ما تلا تلك الأحداث كان إحباطاً عام إجتاح الجميع، فقد أيقنا أن لا عودة، وأن الحرب لن تتوقف قريباً، والبقاء سيكون للأقوى. كنت بأحد مدن شرق السودان، تقنياً الهدف التالي لتمدد الدعم السريع، الهلع اجتاح المكان، وكان رد فعل المواطنين أن يتجهز كل من يحمل سلاحاً بالمنطقة للقتال. خرجت القبائل في مواكب تستعرض أسلحتها ورجالها، إطلاق الرصاص في الهواء لإثبات القوة والسيطرة، وأصبح مشهداً معتاد بينما يخرج الناس في وفود لتحية المواكب والهتاف في حماس.
المستنفرين بكسلا، شرق السودان يعلنون إستعدادهم لمساندة الجيش. المصدر تسامح نيوز
من قبل، كان الأطفال وخصيصاً من شهد أحداث الخرطوم بالمنطقة متأثرين بالحرب، ألعابهم تتمحور عن السلاح والإقتتال، مع الوقت ومظاهر التسلح، أضحوا يطلبون أن يحملوا أسلحة حقيقية. أحسَّ الأطفال النازحين بالتمييز لكونهم يرون أطفال المواطنين يحملون الأسلحة في مواكبهم. بينما في الخرطوم يقوم الأطفال بصناعة الأسلحة من الكرتون والعلب المعدنية. إبن أختي الصغير غادر البلاد بمجرد إشتعال القتال وظننا أنه قد نجى من حمى التسليح ومشاهد العنف، و لكن في إحدى دروس الفنون بالمدرسة رسم لوحة بها بيت محروق وقتيل مردي على الأرض وشخص يقف بينهم يحمل السلاح.
بذات الأيام جائني أخي الصغير (عشرون عاماً) يخبرني بقراره في التسلح، قام بتسجيل إسمه مع بقية شباب الحي ليتسلموا أسلحتهم. فُجعت بقراره وتشاجرنا، أعتقد أنه صغير في العمر والتجربة، وحمل السلاح والقتال يتطلب سنين عديدة، لن يحتمل الحرب، و لن نحتملها فيه. فجعني أكثر بدافعه، قوله أنه لن يقف عاجزاً يرى أمواله وأعراضه تنتهك مرة أخرى بعد الخرطوم، يحززني الغبن والغضب الذي ولدته الحرب في صدور الشباب.
رحاب 30 عاما،
مواطنة
شرق السودان
أناس محتشدون لدعم الجيش السوداني في ود مدني في 17 ديسمبر2023. © AFP
قصة (4): ستيني و مريض سكري
قصتي قد تكون مختلفة ولكنها تمثل الكثيرين؛ أنا ستيني ومريض سكري، أعلم أن حملي للسلاح لن يحميني، و لن يمدني عمراً فوق عمري، إلا أنني غاضب، و يحمل قلبي من الغبن ما يرهقني. وأعلم أيضاً أنها ستضحي حرباً غير متكافئة.
حشد شعبي بولاية النيل الأبيض. المصدر سودان تربيون
أرى ألا خيارات متاحة، وأننا قد أقحمنا في هذه المواجهة مجبرين، وإن إنعدمت أو قلت خبرتنا العسكرية، وإن كان محركنا الأساسي غضباً وغبن مخلوطين بخوف، أعتققد أن حيازتي سلاحاً قد يبعث لي ولأسرتي نوع من الطمأنينة والحماية التي فقدناها.
مختار 60 عاما،
مواطن مسلح
النيل الأبيض
طفل يحمل سلاح صغير. المصدر الغارديان