هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English


منذ بداية عام 2025، يشهد السودان تفشياً متسارعاً لوباء الكوليرا وسط بيئة صحية هشّة ونظام صحي شبه منهار نتيجة الحرب المستمرة. ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) بتاريخ 18 يونيو، تم تسجيل أكثر من 29,170 حالة اشتباه بالكوليرا، بينها ما لا يقل عن 629 حالة وفاة في 15 ولاية سودانية، من بينها الخرطوم والنيل الأبيض والنيل الأزرق وكسلا.


وتشير بيانات سابقة صادرة في 5 يونيو إلى أن العدد الكلي للحالات قد تجاوز 73,000 حالة، ما يعكس سرعة انتشار الوباء وتدهور القدرة على احتوائه. وفي ولاية الخرطوم وحدها، وثّقت وزارة الصحة السودانية ما يقارب 2,119 إصابة جديدة و70 حالة وفاة خلال يومين فقط في أواخر مايو، بحسب تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية (AFP) نُشر عبر موقع MedicalXpress.


يتزامن هذا الانتشار مع غياب البنية التحتية الأساسية، من مياه شرب نظيفة إلى أدوات الوقاية والعلاج البسيطة، ما يعكس التدهور الحاد في مقومات الحياة الأساسية في السودان، نتيجة الحرب الدائرة منذ أبريل 2023.


الكوليرا ليست مرضاً جديداً أو معقداً، لكن الاستجابة البطيئة لتفاديها أو علاجها قد تكون قاتلة، فالناس في السودان يموتون يومياً، مضيفين ضحايا جدداً إلى أولئك الذين قُتلوا جراء الرصاص والجوع. إن ما يواجهه المواطنون الآن هو أزمات مركبة: نزاع مسلح، انهيار اقتصادي، نزوح جماعي، وانعدام الأمن الصحي. تجاهل هذا الوضع لا يقلل من خطورته، بل يضاعف حجم الكارثة.


ما يحتاجه المواطنون ليس أمراً مستحيلاً: استجابة عقلانية، دعم إنساني فعّال، واعتراف صريح بالأزمة بدلاً من إنكارها أو التقليل من شأنها.


ومع تصاعد هذه الأزمات والكوارث، تبرز أهمية المبادرات الفردية والتطوعية، مثل ما يقوم به المتطوع "مؤمن ود زينب"، الذي نقل لنا صورة واقعية من قلب الأزمة. يشاركنا اليوم في "أندريا"، محاولاً إيصال صوت شعبٍ مغلوبٍ على أمره، يناضل بطريقته الخاصة هو ورفاقه المتطوعين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فمنذ أكثر من عامين في مستشفى النو، قرر هذا المواطن العادي أن يفعل ما بوسعه لدعم المرضى.


المتطوع مؤمن ود زينب: المصدر: صفحته على الفيس بوك


مؤمن هو مهندس جلود ومؤسس علامة" بلاك كرافت للمشغولات الجلدية،" وأحد الوجوه البارزة في صناعة الجلود بالسودان، متطوع قد وهب كل وقته لخدمة المحتاجين. اليوم يواصل دوره الإنساني متطوعًا في مستشفى النو وغرف الطوارئ، ويؤمن بأنه بالإرادة والعمل نستطيع النهوض بالوطن.


منذ إندلاع الحرب، ساهم مؤمن مع رفاقه من المتطوعين في التنسيق، التعقيم، تأمين المستلزمات، ومساندة المرضى المحتاجين،صوته يعكس أصواتاً كثيرة صامتة داخل السودان، ويمثل نموذجاً لصمود المدنيين وتضامنهم.


شهادات من الميدان: يخبرنا مؤمن ود زينب: 


"منذ اليوم الأول لإندلاع الحرب، وأنا متواجد في المستشفى أقدّم المساعدة للمرضى والمحتاجين، بصفتي متطوعاً. في الحقيقة كانت الأوضاع في البداية مختلفة، حيث كانت الحالات التي تصلنا تتعلّق بإصابات الرصاص الطائش، أو شظايا القذائف والطائرات المسيّرة، أو القصف العشوائي الذي تطلقه ميليشيات الدعم السريع، سواء من بحري أو من قلب أم درمان، من أمبدات وصالحة، وغيرها. أما الآن فنحن نواجه أمراضاً مثل الكوليرا والجلدية بسبب تلوّث المياه وتكدس الجثث."

 

 من داخل المستشفى: عزلٌ بلا إمكانيات


يحكي لنا مؤمن أنه ومع تفشي الكوليرا، تصاعدت الأزمة داخل مستشفى النو، تم إغلاق مركز العزل تماماً بعد انتشار صور صادمة لمرضى ينامون في العراء، تحت الأشجار أو في "الركشات" توك توك ، وبعضهم على الأرض، إلى جانب جثث تُركت داخل المركز، لا أهل لها، أو لديهم أسر عاجزة عن دفنها وفق الإجراءات الوقائية اللازمة.


صور من مستشفى النو لمرضى يفترشون الأرض في الأيام الأولى لإنتشار وباء الكوليرا. المصدر: المصدر : مستشفى النو


ويضيف مؤمن  "الوضع كان سيئاً جداً، مما دفعنا "فريق المتطوعين" للإنتقال مع الأطباء إلى مراكز أخرى ما تزال تعمل. ونحن الآن موزّعون على عدد منها ونواصل تقديم المساعدة فيها. بدأنا نستقبل أولى حالات الكوليرا منذ فترة ليست قصيرة،لكن وزارة الصحة كانت تتكتّم على الأمر،كنا نعلم بوجود إصابات، لكن الأرقام التي كانت متوفرة لم تكن كبيرة. لم يكن هناك إعلان رسمي، ومع ذلك  بدأت الحالات تتوافد من مناطق مثل أمبدة وصالحة، حيث المياه ملوّثة بشدّة. أعتقد أن مئات  وربما آلاف الأشخاص قضوا  نحبهم بسبب الكوليرا في تلك المناطق، وفي أماكن أخرى مثل جبل أولياء، الخرطوم، وبحري. واجهنا نقصًا حادًا في المحاليل الوريدية، أدوات الإنعاش، والكمامات."


تحديات يومية... وبأدوات بسيطة


يواجه المتطوعون تحديات هائلة كل يوم من تعقيم الأفراد الخارجين من مراكز العزل إلى تأمين الكمامات والقفازات، حتى أبسط الأدوات مثل أجهزة الإنعاش الأولي (Ambu bag) غير متوفرة. "كنا نُعقّم الأيدي، الأرجل، وحتى الأحذية لتجنّب نقل العدوى. ورغم كل هذا، نواجه نقصاً حاداً في المحاليل الوريدية، الفراشات، وأدوية أساسية."

بالرغم من وجود دعم مستمر وأن هناك العديد من المنظمات العالمية أو الأفراد الذين يريدون إيصال المساعدة لتحسين الوضع، إلا أن هذا الدعم والمساعدات دائماً ما تواجه عراقيلاً من المسؤولين في طريق وصولها إلينا وهذا ما جعل الأمر صعباً جداً على المتطوعين والمرضى.  يتمنى مؤمن دائماً أن تٌسهل وتُعبد الطرق لكل من يرغبون بالمساعدة وهذا ما يصب في الصالح العام.


صورة توضح التعقيم من داخل عزل مستشفى النو المتطوع (معاذ مطر). المصدر : صفحة مؤمن ود زينب على الفيس بوك


مراكز العزل؟ لا تجهيزات... لا دعم كافٍ


ويكشف لنا  مؤمن أن مركز العزل في مستشفى النو لم يكن مؤهلاً أصلاً، فقد كان خلوة لتحفيظ القرآن تم تحويلها مؤقتاً، بلا بنية تحتية صحية مناسبة لإستقبال المرضى والعناية بهم. لم يكن هناك دعم كافٍ من وزارة الصحة، والمنظمات كانت تواجه عراقيل في التدخل لكنها لم تحصل على موافقة وزارة الصحة، ربما خوفاً من نشر الذعر بين المواطنين. لكن الإستعداد لمواجهة الخطر، في رأيه أفضل بكثير من تجاهله، يضيف مؤمن “الإستعداد لمواجهة الوباء أفضل بكثير من إنكاره حتى الكوليرا لها عدة طبية معروفة يجب أن تكون متوفرة”.


أين التوعية؟


في ظل ضعف النظام، يرى مؤمن أن التوعية المجتمعية غائبة، الناس لا يعرفون كيف يتعاملون مع الماء الملوّث، ولا كيف يضيفون الكلور، أو يحفظون المياه. ويسترسل مؤمن قائلاً: الكوليرا لها "عدة" محددة، أدوات ولوازم معروفة يجب أن تكون جاهزة مسبقاً: مثل براميل مخصصة للمياه، محاليل وريدية، أملاح تروية، منظفات ومعقمات، وسائل للرش والتطهير، مكافحة الذباب والبعوض الذي ينقل العدوى، وغيرها.”


الذباب وحده قادر على نقل الكوليرا من مريض إلى آخر، لذلك يجب أن تكون هناك حملات رش دورية في المناطق المنكوبة، وتنظيم بيئي حقيقي، وليس فقط ردود أفعال متأخرة. على المنظمات الإنسانية أن تتحرك فوراً عليها أن تعمل للحد من انتشار المرض، لا أن تنتظر تفاقمه. ويجب على الحكومة ووزارة الصحة أن تعترف بوجود الكوليرا، لا أن تتكتّم عليه، هذا مرض معدٍ، قاتل، وكارثي، وإنكاره أو تجاهله يعرّض حياة الآلاف للخطر.


يضيف مؤمن بأن "الناس تموت لأنهم لا يملكون المال لشراء دواء أو حتى الكشف، لكنه وباء ونظراً لهذا يجب أن تتوفر لهم كل سبل الكشف والعلاج المجانية. التفاصيل الصغيرة تنقذ أرواحاً، والتوعية مسؤولية جماعية، تبدأ من الإعلام وتصل إلى أصغر حيّ."


التوعية في مراكز العزل كعيدية مختلفة للمرضى والمرافقين المصدر : صفحة مؤمن ود زينب على الفيس بوك


 ماذا بعد؟


ما يحدث في السودان اليوم ليس مجرد أزمة صحية،بل إختبار حقيقي للضمير الإنساني العالمي، إنتشار الكوليرا و التباطؤ في الاستجابة، يعني حرفيًا التضحية بحياة آلاف الأبرياء.

الكوليرا يمكن إحتواؤها، لكن فقط إن تضافرت الجهود: لتوفير أدوات الوقاية والمعال، دعم الكوادر والمتطوعين محليًا، وتنفيذ حملات توعية مجتمعية حقيقية.


بصوت هادئ لكن حازم، يخاطب مؤمن الرأي العام المحلي والدولي: “السودان يعيش كارثة. المواطن هو الضحية الوحيدة، بين الرصاص، الكوليرا، والجوع. نحتاج إلى دعم إنساني حقيقي. العالم كله ينظر إلى غزة وأوكرانيا، لكن لا أحد يرى جثثنا، أمراضنا، وأحزاننا. نحن نطالب منذ زمن بالحرية، السلام، والعدالة... لن نصل إليها إلا إذا عرفنا الحقيقة: من المسؤول؟ ولماذا حدث ما حدث؟ أنا مجرد متطوّع، لكنني مؤمن بأن الصوت، حتى لو كان ضعيفًا، يمكن أن يصل إذا وجه إلى الأذن المناسبة لتستمع. نحن لا نطلب الشفقة. نطلب الشراكة، والحق في الحياة، والحق في أن يُرى ما يحدث في بلادنا.”


جداريات الصيدلية المجانية. المصدر: صفحة مؤمن ود زينب على الفيس بوك


شهد عبد السيد النعيم

شهد، تبلغ من العمر 24 عامًا، خريجة تقانة أسنان من جامعة الخرطوم وطالبة طب الأسنان في كلية المدائن. وهي أيضًا كاتبة محتوى تسويقي، وهو شغف بدأت تتغذى عليه في سن السادسة عشرة. بالكتابة تصنع عوالِمَ أخرى، تحكي واقعاً وتقصُّ خيالاً، تؤمن أنها من خلال الكتابة تستطيع التعبير عن نفسها. فازت بالمركز الثاني في القصة المشتركة في المسابقة الوطنية للقصص المصورة لعام 2020 - فريق دروفان، ووصلت إلى الدور نصف النهائي في مسابقة نيرفانا للقصص القصيرة 2020.