ينتشر الظلم بكل أشكاله في عالم اليوم. وبينما تتفق الحكومات والمواطنين على الحقوق المؤسسية والقوانين التي تمنع الجرائم و المخاطر، فإن الظلم مستمر. المجرمون معروفون، لكن لا يتم اتخاذ أفعال ضدهم
بسبب نقص الأدلة أو نقاط ضعف التشريع التي يستخدمها المحامون. ومع ذلك، فإن الطريقة الوحيدة لتحقيق العدالة في السودان هي عبر السلطة.
الاستبداد والفساد ومحاباة الأقارب هي الأسباب التي قادت السودانيين للخروج إلى الشارع في ديسمبر 2018، منادين بثلاث مطالب: "حرية، سلام، وعدالة". وبعد أكثر من عام، فإن النظام القانوني غير الفعال الذي أعاقته جائحة الكورونا يمنع تحقيق هذه الأهداف ويخلق مساحة للاضطهاد والصراع ويزيد من حالة الظلم. لماذا يحدث ذلك، ولماذا علينا الاهتمام به؟
إن الخطوة الأولى نحو السودان الجديد يجب أن تبدأ بتحقيق العدالة للشهداء. فهناك قضايا لم تصل إلى المحكمة إلى الآن، وأخرى وصلت إلى القضاء لكنها لم تُحسم بعد. وكما قال أحد الأشخاص "اللا عدالة مضافاً إليها الزمن لا تساوي العدالة".[1(m7.46)] من العبث أن يفقد شاب ما حياته، خلال مشاركته في مظاهرة سلمية تطالب بتحقيق القصاص للشهداء[2] - إنها مفارقة. وذلك يعني أن نفس المشكلة الرئيسية – عنف الشرطة – لم يتم التعامل معها. و هذه نفس المشكلة التي تسببت في قتل الناس في ديسمبر 2018، 3 يونيو 2019 وحالياً في يوليو 2020. ويشير اعتصام المحتجون الجدد إلى أن المطالب الرئيسية لم يتم تلبيتها، مع أن الثورة انتهت بقرارت جديدة بالكامل. إن التظاهرات الحالية والاعتصامات في نيرتتي، فاتا برنو وكبكابية تم التعامل معها بنفس آلية العنف والاستخفاف بحياة الناس، وهذا يثبت أن الثورة ما زالت بعيدة من تحقيق أهدافها.

Image by Mohamed Nureldin Abdallah/Reuters via aljazeera.com
خلال الـ30 عاماً الماضية في السودان، كان الأفراد ذوي السلطة والانتماء السياسي يمتلكون حصانة ضد الاتهام القانوني - بطريقة أو بأخرى، من خلال حصانة حقيقة أو من خلال نفوذهم وعلاقاتهم التي تحميهم من المساءلة القانونية. هذا الأمر معروف
بالنسبة للأغلبية الذين ينتمون إلى الجيش، الشرطة وحزب المؤتمر الوطني. كانت تحميهم هذه الأشياء خلال ذلك الوقت ولا تخدم المدنيين الآخرين. ومع مرور الوقت، فإن امتلاك السلطة من قبل الأشخاص الخاطئين خلق "عقلية التمكين" وحمولاتها.
هناك أفراد شرطة فاسدين وأفراد أمن فاسدين، ويؤمنون باستحقاقهم لأي شيء يرغبون فيه وتجنبهم لأي عقوبة لأنهم محميون من خلال وضعهم هذا، وفي بعض الحالات أسلحتهم. هذا ما حدث في الولايات خارج الخرطوم، بالتحديد في دارفور، حيث عانى المدنيون من بطش قاطعي الطريق المسلحون المتنكرون كضباط. على سبيل المثال، فإنهم يقتلون الناس الأبرياء[4] يحاصرون القرى وينهبون [6] ويرتكبون العديد من الأفعال الشنيعة وهم يرتدون ملابس الجهات الأمنية ويحملون الأسلحة. هذه القوات التي واجبها حماية المدنيين أصبحت الآن عدواً لا يقهر بدون أي عواقب.
في ولاية الخرطوم تتخذ "عقلية الاستحقاق" أشكال نخبوية . بافتراض أنه بسبب وظيفة الشخص، أو اسم اسرته والانتماء السياسي، فإنه فوق القانون ولا يمكن مساءلته أبداً. هؤلاء هم الأفراد الذين يستخدمون نفوذهم وعلاقات قرابتهم من أجل تجنب الاتهامات القانونية، يستغلون المناصب ويستخدمون الرشاوي للخروج من أي ظرف. هذه العقلية تتجذر عميقاً في مجتمعنا، حتى بعد زوال نظام المؤتمر الوطني. فإن الفساد يظهر يوم بعد آخر من خلال الاعتماد على الرشوة والتفضيلات الشخصية ولم يتغير بأي مقدار. وبالرغم من أن رؤساء الإدارات والمدراء الكبار تم تسريحهم، فإن العاملين في الدرجات الأدنى لم يحصل لهم تغيير. اليوم، هناك نفس القضاة، المحامون، الموظفون، رجال الشرطة والمليشيات التي تنتمي إلى المؤتمر الوطني و المعتادون على الاختلاس. تم تغيير تصنيفهم إلى أعضاء في الحكومة الجديدة. لذلك فمن الضروري التحقيق وإزالة هؤلاء العناصر كما تم إزالة رؤسائهم. وأكثر من ذلك، فإن المفهوم المجرد للمرء باعتباره "فوق القانون" يجب أن يلغى من خلال التدقيق الصارم ومراقبة الأشخاص في المناصب المشابهة، وبنفس القدر إعادة تنشئة اجتماعية كاملة بخصوص المساءلة. في نهاية المطاف ، يضطر الأشخاص خارج "دائرة القوة و الحصانة" إلى التماس العدالة بإحدى طريقتين: إما متابعة الإجراءات القانونية من خلال التبليغ للشرطة والجهات الجنائية أو من خلال أخذ زمام الأمور بأيديهم.
إن الذين يوظفون الطريقة الأولى يلتقون بفعالين غير كفؤين (قضاة، موظفون، محامون...الخ) ونظام قانوني مختل يغضب المدعون بدلاً عن تقديم العون لهم. على سبيل المثال، يمكن ان تستمر جلسات الاستماع في قضية لعدة شهور، قبل التوصل إلى حكم. قضايا المحاكم تحول من قاضٍ لآخر عند غياب أحدهم، وهذا يقود إلى تمديد إضافي. وأي حكم يمكن استئنافه عدة مرات. وأي شخص يمكن اتهامه بجريمة عن طريق القسم فقط ودون وجود أي أدلة ويسجن لعدة شهور في انتظار محاكمته. هذه المشاكل البنيوية تبدو لا نهائية، لكل هل تعني إننا في حالة من عدم العدالة؟
نحن في ظلم، الموظفون الذين يسيئون استخدام سلطتهم، المليشيات، و القضاة المنحازون يساهمون في الظلم بنفس قدر القتلة، اللصوص، والمغتصبون لأن "العدالة" هي أكثر من مجرد القبض على مرتكبي الجرائم ومساءلتهم. فهي نظام متين (بغض النظر عن الفاعلين فيه) يقوم بحماية الحقوق، والحياة، وكرامة الناس من خلال ضمان ألا أحد يمتلك فرصة لكي يصبح مجرماً بدون أي عواقب – هذه حقيقة "حكم القانون".
وفي حالة القوانين الضعيفة التي تحمي مواطنين معينين، فإن الكثيرين يلجأون إلى الاقتصاص. هؤلاء هم الذين يشترون الأسلحة، يتحايلون على القانون، ويدفعون الرشوة، يغشون ويقومون بأي فعل يشعرون أنه ضروري لحماية أنفسهم بأنفسهم. لكن عندما يشعر الناس أنه لا يوجد بديل، فهل يمكننا إلقاء اللوم عليهم؟ الناس متعبون من انتظار استرداد حقوقهم عن طريق القانون و المسؤولون الذين "يعبرون عن عمق أسفهم" بدون أي فعل. الناس متعبون من كونهم يتعرضون إلى العنف من مجموعات مسلحة لا تخشى أي عقاب. وهذا ما أدى إلى ما وصفه مكتب النائب العام للجهات المسؤولة بـ"ثقافة العنف" [7] . و هي الثقافة التي يغذيها تسامح الحكومة مع الانتهاك والعنف. ثقافة تعلمها المدنيون من خلال ملاحظة تعسف أفراد الشرطة والمليشيات في استخدام أسلحتهم وسلطتهم.

Via aajill.com
وللأسف فإن هذه الثقافة مشتركة عالمياً بين ضباط الشرطة، الذين يفترض أنهم "أناس أخيار". يقاتلون لخدمة وحماية المدنيين من "الأشرار". إنهم مدربون على استخدام القوة الوحشية لتحييد هؤلاء "الفظيعين" وأنه أمر مقبول وقانوني. يغذي ضباط الشرطة هذه القناعات في حياتهم اليومية لسنوات، حتى يصبح قتل "شخص شرير" أمراً مقبولاً. يفكر ضابط الشرطة "لماذا لا إن كان الأمر سيؤدي إلى مقاضاته من قبل الدولة على أي حال؟ أو أنهم سيتعفنون في السجن بعيداً عن المجتمع الذي نحميه؟" والمثال الأوضح في هذه الحالة هي حادثة قتل جورج فلويد على يد الشرطي ديريك شوفين والذي وضع ركبته على عنق فلويد لما يقارب 8 دقائق حتى توفي لاحقاً في الرعاية الصحية [8] لحسن الحظ، أن هذه الحادثة صورت بالكاميرا، و أدي الدليل القوي والانتشار الواسع لحركة "حياة السود مهمة" في الشوارع للمطالبة بمحاكمة الشرطي لتمهيد الطريق نحو العدالة. لكن بدون ذلك الدليل وبدون الاحتجاجات، كان جورج فلويد سيصبح مثال لحياة لم يتم الاقتصاص لها من عنف الشرطة وسيكون ديريك شوفين حراً في الشارع باحثاً عن ضحية أخرى ينتهك انسانيتها ويقتلها بداعي "القيام بواجبه".
وتسبب عامل إضافي، وهو إغلاق المحاكم بسبب جائحة كورونا، في دفع الكثير من المدنيين للهاوية بسبب عدم وصول الإجراءات القانونية إلى نهايتها. بدأ هذا الإغلاق على المستوى الوطني بفرض حظر التجوال في مارس 2020 الذي تم رفعه مؤخراً، في بداية يوليو. وخلال الـثلاثة أشهر الأخيرة فإن كل المعاملات القانونية توقفت، وأدارت الجهات القانونية الفاعلة مثل ضباط الشرطة والمؤسسات التابعة لها باندفاع مسعور. [9] وازداد الوضع سوءاً بالإغلاق الإضافي لمكتب المدعي العام، والذي عنى أن القضايا الجديدة لا يمكن متابعتها. إذن ماذا كان يتوقع من الضحايا فعله خلال فترة الإغلاق مع هذه الأجسام القانونية؟ لحظة، هذا يتجاوز الحدود، فحق المواطن في عدم الاعتداء عليه من قبل ضابط شرطة و التبليغ عن جريمة أو مقاضاة أي شخص يضايقه، هو حق دستوري أساسي مستقل تمامًا عن جائحة فيروس كورونا. وتجسد مثل هذه الأعمال موقف القانون غير المكترث وغير الحساس تجاه المواطنين، والذي بدوره يشجع الناس على الانتقام دون التدخل القانوني. كما أنه محبط بالنسبة للأفراد الذين يشعرون بالنسيان من قبل ممثليهم مما يخلق كراهية تجاه هؤلاء المسؤولين. على سبيل المثال، تم الاعتداء على لجنة محايدة زارت مدينة كتم بشمال دارفور، للتحقيق في اعتصام فاتا برنو، حيث اعتدي عليها بالحجارة من جميع الجهات مع إصابة أعضاء الوفد وخسائر في المعدات الإعلامية. إنها المرارة التي يشعرون بها.
وعلى الرغم من إعادة فتح المحاكم بطريقة بطيئة، إلا أن هذا لا ينفي أو يعترف بالخراب الناجم عن إغلاقها في المقام الأول. كما أنه لا يغير حقيقة أن هناك حاجة ملحة للإصلاح القانوني الإجمالي حتى يسود العدل وسيادة القانون في السودان. ويثبت حل
القوانين القديمة وتعديلها[10] أن الثغرات التي لا تعد يمكن سدها فقط لتأمين الديمقراطية في حالة تم استبدال النظام القانوني بالكامل. لأن تحرير القوانين القديمة التي تأسست على مبادئ خاطئة وانتهاج القمع، والتحيز العرقي والاجتماعي ستؤدي إلى نفس النتائج المتحيزة. لذلك يجب كتابة القوانين الجديدة اعتماداً على المبادئ الديمقراطية للمساواة والمساواة للجميع. ما يمكن لوزارة العدل الحالية ووزيرها القيام به للقضاء على الجوانب الاجتماعية والمؤسسية للظلم هو سن نظام قانوني جديد صارم مع عدم التسامح مع الإفلات من العقاب أو لصالح الأشخاص أصحاب النفوذ - وهو نظام سيدوم أطول من فترته في منصبه كوزير للعدل - وبمثابة مخطط للديمقراطية من أجل استمرار العدل في السودان. إنه الشرط الأساسي للمضي في سبيل حماية المدنيين من المستويات الصغيرة التافهة إلى منع المجازر الواسعة في وضح النهار.

Via sudanindependent.com
ونظراً للطبيعة المعقدة للظلم وعواقبه، فإن تحديد معنى "العدالة" اليوم في السودان أمر صعب جداً. فمع الحروب الأهلية وأنانية الجهات الفاعلة في القانون وتحول الوعي الاجتماعي المشترك، فإن تعريف واحد للعدالة يبدو غير شامل. وأود القول باختصار" إن العدالة هي عمل الدولة على دعم حقوق مواطنيها في حياة مشروعة في جميع الأزمنة." جائحة أم لا ، فإن الدروس التي يمكن تعلمها في هذا الوقت الحرج من عدم اليقين هي خطوة رئيسية نحو السودان الجديد.
تحدى الشعب السوداني "ثقافة العنف" التي تم التمهيد لها وأوجد نهجًا مغايراً لمواجهة الظلم – من خلال الاحتجاجات السلمية والاعتصامات. نجح ذلك في أبريل 2019 وتمثل في نجاح الثورة السلمية، ومؤخرًا في نيرتتي في تلبية بعض المطالب. إنه الوقت للحكومة للعمل على إكمال الثورة من خلال تطبيق نظام قانوني يتم إصلاحه، ويسمح باستعادة ثقة المدنيين. وهذا الأمر جوهري، لأنه عندما يفقد المدنيون الثقة في النظام العدلي الذي يحميهم، بذلك يفقدون الثقة بشكل غير مباشر في حكومتهم. وإذا كانت الحكومة لا تستطيع الدفاع عن مواطنيها أو الحفاظ على ثقتهم من خلال تنفيذ القانون بشكل صحيح ، فلماذا هم في السلطة في المقام الأول؟