شاركت في الكتابة هند صالح
في بعض الحالات النادرة، تبدأ رحلتنا مع الصفحات الأولى من الكتاب. شعرت بذلك لأول مرة وأنا أقرأ إهداء الطيب صالح إلى والده في مقدمة الرواية الرائعة “مريود”.
“إلى روح أبي محمد صالح أحمد…
كان في فقره غنى وفي ضعفه قوة….
عاش محباً محبوباً، ومات راضياً مرضياً…”
أولئك الذين قرأوا رواية ” مريود ” يعرفون جيداً أن الإهداء كان جزءاً من القصة. شعرت بنفس الشعور عندما قرأت رواية “في إنتظار كوش” لكاتبها أحمد التجاني سيد أحمد و ترجمة الرواية بواسطة سر الختم محمد ميرغني. كتب سر الختم محمد ميرغني في مقدمة النسخة المترجمة ” هذا الكتاب يحمل الذاكرة العزيزة للأجيال الماضية من النوبيين. أما بالنسبة للأجيال الجديدة، فهي تحمل أكثر من مجرد ذكرى أسلافهم. وسوف يجدون تاريخهم هنا، والتاريخ لا يغرق. انها قيم البشر والحضارات وتراث عميق من الماضي البعيد “. كما أعدنا الطيب صالح بإهداءه المميز لقصة حول الإنتماء والتناقضات، أعدنا مترجم “في إنتظار كوش” لدخول عالم خاصاً عبر هذه القصة، فوجدت نفسي في إنتظار قراءة كل شيء عن سحر التراث والتاريخ النوبي في صفحات الكتاب.
ما لم تمهد له هذه المقدمة الملهمة هو قوة الهوية البصرية للرواية، فالقصص -أو الحلقات كما يسميها الكاتب -مليئة بصور مرئية للهوية والثقافة النوبية. يبدأ سرد القصة من غرفة إنتظار بطابع نوبي. ساحرة هي الرواية، ففي كل القصص، توجد كلمة نوبية أو أسطورة من التراث النوبي تزين كل صفحة. للأشخاص غير النوبيين مثلي، الذين لا يعرفون عن التراث النوبي إلا ما سمعوا به من الأصدقاء والمعارف – تصبح لهم قراءة الكتاب مثل اللغز. في الكتاب توصف الثقافة النوبية بسخاء، من الأسماء إلى اللغة والموسيقى والأغاني، وكيف أنها ثقافة غنية من مختلف الجوانب.
الشيء المدهش في هذا الكتاب هو أنه يجعلك تتساءل كثيراً عن بداية الخيال ونهاية الواقع. فتفاصيل القصص عن التطهير العرقي، والموسيقى النوبية والكنداكات من واقع الحياة تجعلك تؤمن بالدور الفعال للضفادع في أوركسترا الفنانين عبد النبي وأمان الله عندما يؤدون أغنية جديدة.

المؤلف، أحمد التجاني سيدأحمد
وهناك سمة بارزة أخرى في الرواية و هي إحتفالها بحب النوبيين للموسيقى وذكر عمالقة الفن النوبي، من خليل فرح، محمد وردي، البلابل، غازي سعيد وغيرهم الكثير. وكانت العديد من الحلقات رسائل حب للفن النوبي، والعديد من المشاهد تعبر بدقة عن حب الموسيقى النوبية والغناء خلال التجمعات. لقد إستمتعت بإحتفال الكاتب بالتراث النوبي ووجدت أنه يعكس فخر المجتمع النوبي في طبيعة قصصهم وتفرد تراثهم الفني.
إحدى الجمل التي عثرت عليها كثيراً في الكتاب كانت: “ولكن هذه قصة أخرى سنناقشها في وقت آخر”. هذه الجملة أزعجتني كثيراً. يمكننا أن نغفل مرة أو مرتين ولكن عندما تكون جزءاً ثابتاً من كل قصة تقريباً يصبح الأمر مشتتاً للإنتباه. رغماً عن ذلك نجد أن الكاتب قد حرص على سرد العديد من القصص من التراث النوبي، ويشير إلى الصورة المرجعية في الخرافات والحكايات، لكنه سقط في فخ الأفراط في القصص وفقد السحر المرتبط بالبساطة وقدرتها على جذب إنتباه القاريء. وبالمثل، فإن الرواية لا يمكن أن تحتفل بمجتمع معين بمعزل عن الأجانب، ولكن ربما هنا يقبع سحر النوبيين. عندما تقرأ الرواية تشعر كأنها قصة بين اثنين من الأصدقاء يتحدثون عن شيء شخصي بالنسبة لهم، مع إستخدام بعض الكلمات هم فقط كنوبيين يستطيعون فك طلاسمها.
على الرغم من أن الحلقات تحمل الكثير من الأوصاف الجميلة والقصص، كما أنها تعبر عن ذكريات مؤلمة ومظلمة حول التطهير العرقي الذي واجهه النوبيون. رويت بعض القصص بطريقة حزينة، ولكن الكاتب حاول أن يبرز اللحظات السعيدة بين الفينة والأخرى. ستشعرون بإنسيابية من خلال الفصول فهي تعالج زوايا مختلفة منها وصف المشاعر والأماكن والتاريخ والناس. ويصف الكتاب المحادثات التي أجراها الناس والثقافة التي تمثلهم، في الماضي والحاضر، وكيف ينهار هذا الأمر بشكل مأساوي حيث تتلاشى الثقافة مع مرور الوقت.
الكتاب مليء بالعواطف التي من شأنها أن تجعلكم ترغبون في الإتصال مباشرة بالكاتب والحديث عن أسباب كتابته مثل هذا الكتاب وما يمثله له، لذلك فعلنا ذلك. رد المؤلف أحمد التجاني سيد أحمد: “هذا كتاب من الخيال ولكن على أساس الذكريات المؤلمة التي عايشتها أنا وبقية سكان القرى النوبية التي غرقت. كتبت الكتاب كوسيلة للتعبير عن آلامي ومشاعري ورسم صور للجيل الجديد من النوبيين وغيرهم ممن لم يروا وادي حلفا أو القرى والجزر الجميلة والشواطئ الرملية، قبل النزوح القسري الناجم عن بناء سد أسوان العالي “.
يعكس الكتاب الهوية والثقافة النوبية بطريقة شجاعة كان لا يمكن التعبير عنها بحرية في ذلك الوقت أثناء النزوح القسري، عندما أجبرت المجتمعات النوبية على إسقاط خلفيتها وهويتها لتتلاءم مع المجتمعات ذات المركزية العربية التي كانوا يهاجرون إليها. ويذكر الكاتب بأن ” معلمي المدارس كانوا يضربوننا إذا تحدثنا باللغات النوبية داخل المدرسة“. بطريقة ما، يعكس الكتاب أصداء القضية النوبية في خضم الديكتاتورية التي أدت إلى العديد من النزوح الجماعي بسبب التغييرات في البنية التحتية أو البيئة أو الحروب والنزاعات. “في إنتظار كوش” هو عمل خيالي يعكس القصص والخبرات من قبل الكاتب نفسه، ويعرض تفصيلاً للقصص الشعبية. وقد كُتب الكتاب بطريقة رفيعة توضح الصورة الشعرية والغامضة التي إستخدمها الكاتب لوصف شعوره نحو الماضي. ويصف الكتاب الثقافة النوبية في كل مجدها، ثم يناقش القسوة
التي تمت بها محاولة سرقة الأراضي النوبية من تحت أقدام أصحابها، ومعه، إختفاء كل مظاهر الفرح والسلام التي عايشها مجتمع النوبيين أجمع.