علي وقع الحرب الأهلية الطاحنة التي تعصف بالبلاد؛ أطفال السودان الضائعون يرسون أخيراً على شواطئ الحلم الأميركي.
لم يكن الطريق أمام Gai Nyok ذي 29 ربيعاً ممهداً ليدخل باب الدبلوماسية الأميركية سفيراً للولايات المتحدة. لقد نجا الرجل من الموت بأعجوبة خلال رحلة الهروب من جنوب السودان إلى مخيمات اللجوء في كينيا وإثيوبيا إبان الحرب الأهلية الثانية في السودان (1983-2005).
لقد أجبرت الحرب الطفل نيوك وأسرته على الفرار من قرية أبانغ في إقليم الإستوائية الي معسكرات اللجوء في إثيوبيا وهو ما يزال في سن الخامسة. في العام 2001 مُنِح نيوك اللجوء السياسي وتبنته أسرة أمريكية ليكمل المرحلة الثانوية ثم يلتحق بجامعة Virginia Commonwealth University لينال درجة البكالريوس ثم يلتحق بزمالة Thomas R. Pickering Fellow، وهو برنامج حكومي مخصص لتأهيل الشباب الذين يرغبون في العمل في وزارة الخارجية الأميريكية. في نوفمبر من العام 2015 تم تعيين نيوك رسمياً كدبلوماسي في وزارة الخارجية وسافر إلى فنزويلا في أول مهمة رسمية له.
غاي نيوك هو واحد من نحو عشرين ألف طفل، معظمهم من الأيتام، تتراوح أعمارهم بين الخامسة والعاشرة، فروا من الحرب الأهلية الثانية التي إندلعت في العام 83 وإنتهت بتوقيع إتفاقية السلام الشامل بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة زعيمها الراحل د. جون قرنق في العام 2005. أكثر من عشرين ألف طفل، عرفوا لاحقاً بأطفال السودان الضائعين (The Lost Boys of Sudan)، فروا إلى معسكرات اللجوء في كينيا وإثيوبيا سيراً على الأقدام، يكابدون الجوع وقسوة الطبيعة والحيوانات المفترسة، فوصل بعضهم ومات أكثرهم.
مابين الأعوام 1991-1996 تمكنت منظمة اليونيسيف من إعادة لم شمل أكثر من 1200 طفل ضائع بأسرهم. وفي العام 2001 أعادت الولايات المتحدة توطين نحو 4000 منهم في 38 مدينة في أميركا، على رأسها مدينة أوماها في ولاية نبراسكا التي يسكنها أكثر من 7000 لاجئ سوداني.
ماجور جواك Majur Juac بطل الشطرنج المعروف في الولايات المتحدة الأميريكية هو أيضاً طفل ضائع علم نفسه أصول لعبة الشطرنج. عندما جاء إلى الولايات المتحدة في العام 2005 كلاجئ من معسكرات كينيا كان يعمل حارس أمن في إحدي المدارس بضواحي العاصمة واشنطن قبل أن يجد طريقه إلى عالم الشهرة بالصدفة في نيويورك، ويصبح بعدها مدرباً للعبة. يقول ماجور أنه كان يستعين على الجوع والفراغ في المعسكر بلعب الشطرنج وهو ما ساعده على إتقان اللعبة.
العديد من الكتب والأفلام سلطت الضوء على مأساة أطفال السودان الضائعين الذين وجدوا تعاطفاً دولياً واسعاً في خضم الحرب الأهلية التي أسفرت عن مقتل نحو مليوني ونصف مدني. من بين تلك الكتب “الهروب من أجل حياتي” لكتابه لوبيز لومونغ Lopez Lomong، الطفل الضائع والعداء الأميركي الشهير الذي وصل إلى الولايات المتحدة في عمر السادسة عشرة في عام 2001 وصار مواطناً في العام 2007، فمثّل الولايات المتحدة في عدة منافسات رياضية كبرى.
فيلم The Good Lie هو آخر الأعمال الفنية التي أنتجت عن أطفال السودان الضائعين. الفيلم الذي تم إنتاجه في العام 2014 من إخراج فيليب فلاردوا، صورت مشاهده في جنوب أفريقيا ومدينة أتلانتا في ولاية جورجيا بالولايات المتحدة الأميريكية. من أبطال الفيلم الفنان العالمي إيمانويل جال. خدم جال في طفولته كجندي في صفوف الحركة الشعبية قبل أن تتبناه عاملة الإغاثة البريطانية الراحلة إيما ماكون، زوجة ريك مشار نائب الرئيس الحالي في جنوب السودان. ليصبح لاحقاً فناناً عالمياً مشهوراً وداعية للسلام وسفيراً للأمم المتحدة. من ضمن أبطال الفيلم أيضاً النجم قير دواني Ger Duany وهو أيضاً طفل ضائع وجد حلمه في صناعة السينما ليصبح نجماً عالمياً مشهوراً.
كثيرون من أبناء السودان الضائعين يمتعون جمهور كرة السلة الآن في الولايات المتحدة بمهاراتهم وإبداعاتهم، فالجمهور الأميركي يعرف جيداً أتير ماجوك، وكيوث دواني، ودينق قاي، وبنين قابرييل، ولوال دينق، واجو دينق، واديل دينق، وغيرهم.
ولكن برغم كل هذه الإشراقات إلا أن الطريق إلى الشهرة وعالم المال لم يكن سالكاً بالنسبة للكثيرين من أبناء السودان الضائعين والذين ظلوا ضائعين حتى بعد مجيئهم إلى الولايات المتحدة الأميريكية. فقد أظهرت دراسة في العام 2005 أن 20% من 300 من هؤلاء يعانون من ما يعرف إختصاراً ب PTSD وهو عرض يلازم أولئك الذين تعرضوا لمواقف مؤلمة بسبب الحروب. أما آخرون فوقعوا ضحايا للمخدرات فيما يعمل بعضهم في المهن الهامشية وباجور زهيدة.
أخيراً وعندما ننظر للمكانة المرموقة التي يتبوأها هؤلاء الأشخاص ونقارن ذلك بالحال الذي تمر به جنوب السودان نجد أن الفرق شاسع جداً. فبلاد تملك هذه النجوم وهذه القوة البشرية الهائلة كان يفترض أن يكون مكانها الطبيعي بين النجوم وليس ما نراه من إحتراب ودمار وجوع قاتل. نتمنى أن يكون لأبناء السودان الضائعين والذين وجدوا أنفسهم بعد مشقة دور أكبر في إنقاذ جنوب السودان العظيم.